التوظيف السياسي لما يسمى بالمذابح الأرمنية

                                             

                       د. محمد عياش الكبيسي


 في 24/4/2015 أحيت أرمينيا الذكرى المئوية الأولى لما أسمته (إبادة الأرمن على يد الأتراك) وقد شارك في هذه الاحتفاليات الرئيس الروسي بوتن وبعض الزعامات الأوروبية، وقد رافق هذا نشاط كنسي غير مسبوق؛ حيث أقيمت القداسات الدينية في أكثر من بلد، وتوالت تصريحات رجال الدين المسيحي بينهم بابا الفاتيكان والبابا تواضروس بالإدانة الصريحة أو الضمنية لتركيا بتركيز واضح على كلمة (الإبادة).

تدحرجت كرة الجليد سريعا لتصل إلى المؤسسات التشريعية؛ حيث أقر البرلمان الفرنسي مشروع قانون يقضي بتجريم من ينكر الإبادة، وهذا يعني أن الفرنسيين قد وضعوا هذا الملف على سكة (الهولوكوست)، أما لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس الأميركي فقد تمكنت مؤخّرا بصعوبة بالغة أن تكسب ثلاثة وعشرين صوتا مقابل اثنين وعشرين لإضفاء مصطلح (الإبادة الجماعية) على ما حصل للأرمن في ذلك التاريخ.
بداية ومن منطلق إسلامي وأخلاقي لا يمكن الاستهانة بضحايا الأبرياء مهما كان دينهم وجنسهم ولونهم، وأن التستّر على الجريمة جريمة، كما أن المتاجرة بها وإخراجها من دائرة الحقيقة إلى دائرة التوظيف السياسي جريمة أخرى، من هنا فإن الدعوة التي أطلقها الرئيس التركي بتشكيل (لجنة علمية محايدة بعيدة عن رجال الدين ورجال السياسة) تبدو دعوة منطقية وأقرب إلى المنهج السليم للوصول إلى الحقيقة، بينما تصرّ الدوائر الغربية على رفض هذه الدعوة والاستعجال بإصدار الأحكام والتشريعات، ما يعزّز القناعة بوجود أهداف سياسيّة لا علاقة لها بالضحايا.
إن أخطر ما انطوت عليه هذه الحملة هو العمل على إلصاق تهمة الإبادة بالإسلام نفسه، وقد حاولت بعض المواقع أن تربط بين الخلافة العثمانية وبين (خلافة داعش) مستعيرة صور الحرق والذبح الأخيرة لتؤكّد في ذهن القارئ أن هذه الصور ليست طارئة على نهج (الحكم الإسلامي)! وهذا تحريض مبطن ضد القيادة التركية الحالية ذات التوجه الإسلامي.
لقد تناسى هؤلاء حقائق دامغة وكبيرة من بينها: أن التاريخ الذي يتحدثون عنه 24/4/1915، كانت فيه الحركة القومية العلمانية بقيادة الاتحاد والترقي هي المهيمنة على مقاليد الأمور؛ حيث قد تمكنوا من عزل السلطان عبدالحميد الثاني قبل ذلك بنحو ست سنوات، فكيف يكون الخليفة هو المسؤول بينما تتبرأ ساحة القوميين والعلمانيين؟
لقد عاش الأرمن والأقليات الدينيّة الأخرى في ظل الدولة العثمانية عدّة قرون، فلم يتعرّض أحد منهم للمضايقة، ولو شاء العثمانيون لأجبروهم على الإسلام، أو لهجّروهم أو لقتلوهم في ذلك الوقت الذي كان فيه العثمانيون سادة العالم. من الغريب أيضا أن تقرأ أرقاما عن عدد الضحايا تتجاوز المنطق، فهناك من أوصلها إلى المليون، ثم أوصلها آخرون إلى المليون والنصف، في حين أن عدد الأرمن في كل الأراضي الخاضعة للدولة في ذلك التاريخ كانوا مليونا وستة وخمسين ألفا بحسب المصادر البريطانية، ومليونا ومائتين وثمانين ألفا بحسب المصادر الفرنسية!
وفق هذه الإحصاءات الأجنبية والمتوافقة إلى حد ما مع الإحصائية التركية يبدو أن عدد الضحايا الأقرب هو ثلاثمائة ألف وهو العدد المثبت في الوثائق التركية، وهو عدد كبير أيضا، ويحتاج بالفعل إلى تفسير.
حقيقة أن هذا العدد موزّع على مراحل متعددة وفي ظروف مختلفة وليس كما يشاع أنها مذبحة حصلت في يوم واحد أو في حادثة واحدة ومن طرف واحد، فالمؤرخون يتحدثون مثلا عن نزاع مسلّح ودموي جرى بين الأرمن والكرد لم يثبت لحدّ الآن وجود يد للحكومة فيه، وأنه بالتأكيد حصل ضحايا من الكرد كما حصل ضحايا من الأرمن، هناك أيضا حديث عن نزعة انفصالية أرمنية تطورت إلى ثورة مسلّحة ضد الجيش التركي، وكانت روسيا تزوّد هؤلاء (الثوار) بالسلاح، وبالتأكيد أيضا فإن عددا كبيرا من الضحايا قد سقط من الطرفين، لكن العدد الأكبر من الضحايا يبدو أنه قد وقع حين تحوّلت مناطق الأرمن شرق تركيا إلى ساحة حرب مفتوحة بين الجيشين الروسي والتركي إبان الحرب العالمية الأولى، وقد كانت العصابات المسلحة الأرمنية تقاتل إلى جنب الجيش الروسي، وقد تمكن الروس بالفعل من اختراق التحصينات التركية في هذه المناطق بسبب المعلومات التي كانت تقدم لهم من الأرمن، أما الأهالي الذين لم يكن لهم حول ولا قوة فقد تم إجلاؤهم إلى مناطق بعيدة عن ساحة القتال، تأمينا لهم من ناحية، وقطعا لاستغلالهم من قبل تلك العصابات من ناحية أخرى، لكن الذي يذكره بعض المؤرخين أن العواصف الثلجية التي كانت تعصف بتلك المنطقة مع بدائية وسائط النقل وظروف الحرب قد أدّت كلها إلى معاناة قاسية راح ضحيتها عدد ليس بالقليل خاصة من الأطفال وكبار السن، ولا يُستبعد أن تكون هناك حالة من الإهمال نتيجة لشعور بعض الجند بمرارة الغدر وفداحة الخسائر التي تعرّضوا لها جرّاء الأعمال التجسسية التي كان يقوم بها بعض الأرمن لصالح الروس.
نعم إن ثلاثمائة ألف رقم كبير لكنه ليس أكبر من شهدائنا الجزائريين الذين قتلتهم فرنسا على أرض الجزائر، وليس أكبر من نصف مليون طفل عراقي قتلتهم القرارات الأميركية الجائرة بحسب اعتراف مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، وكان ذلك قبل الغزو الأخير الذي راح ضحيته بلد بأكمله بأهله وأرضه وتاريخه، أما في سوريا فإن الضمير الإنساني قد دخل في حالة غيبوبة أو موت سريري بعد أن تحوّلت المدن الزاهية إلى تراب وتهجّر الملايين من البشر. أما الرئيس بوتن فيكفي أن نذكره بالملايين الذين سقطوا في تلك الحقبة وما بعدها على يد لينين ثم استالين، والذين أوصلتهم بعض الإحصاءات إلى عشرين مليونا أو يزيد!
إن نبش التاريخ بهذه الطريقة لن يخدم الضحايا، بل سيضيف إليهم ضحايا جددا في مسلسل من الكراهية والأحقاد والثارات المتبادلة، وإذا كان ثأر واحدا لقصّة حصلت في كربلاء قبل ألف وأربعمائة سنة ما زالت المنطقة تنزف بسببه مئات الآلاف من الضحايا مع دمار شامل لكل شيء، فما بالكم لو فُتح باب الثارات بين شعوب الأرض بهذه الطريقة التي يفكّر بها اليوم قادة العالم المتحضر؟


  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1138 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع