أ.د. محمد الدعمي
اضطرني كتابي القادم حول احتمالات (مستقبل العراق) إلى رصد وتحليل عوامل التأثير الخارجية، ومنها مواقف الدول الكبرى ودول الجوار العراقي (إيران، تركيا، دول مجلس التعاون، الأردن، إسرائيل) حيال مستقبل العراق. وإذا كنت قد خصصت هذا الفصل لبحث هذا الموضوع الحساس بناء على معطيات تاريخية ومعاصرة، فإن احتمالات موقف الحكومة التركية قد أخذ حيزًا كبيرًا ومهمًّا بقدر تعلق الأمر بمستقبل العراق.
والحق أقول، فإن جميع الحكومات التركية التي توالت على حكم أنقرة قد حافظت وأدامت نظرة تشوبها الدونية نحو العراق. ومرد ذلك هو أن دولة العراق الحديثة لم تكن سوى ثلاث ولايات تابعة للنظام العثماني (أو العصمنلي، باللهجة العراقية والتركية)، وهي ولايات الموصل وبغداد والبصرة التي كان يتحكم بها ولاة مستبدون يعينهم “الباب العالي” الذي كان يستقي سلطته المطلقة من سلطة “الخليفة” العثماني المزعوم.
وإذا كان العراق، دولة، قد قام بمساعدة بريطانية، إثر انهيار النظام العثماني في الحرب العالمية الأولى، فإن قيامه لم ينفِ مطالبة الحكومة التركية الجديدة بضم ولاية الموصل إليها، ذلك أن هذه الحكومة قد فطنت إلى أن هذه الولاية الكبيرة والغنية تضم أغزر حقول البترول في العالم آنذاك، كما هي الحال الآن. إلا أن بريطانيا، المنتصرة في الحرب، سارعت لانتزاع ولاية الموصل وضمها للدولة العراقية الفتية، اعتمادًا على استفتاء شعبي رتبته مع عصبة الأمم المتحدة آنذاك لتقرير مصير سكان الإقليم الغني.
بيد أن حسم موضوع الموصل لصالح الدولة العراقية الوليدة لم يمنع الحكومات التركية من التطلع إلى الموصل، خاصة بعد أن فاحت منها أبخرة البترول وروائح أغنى مناجم الكبريت في العالم، لذا عمدت الحكومات التركية إلى لعب ورقة الأقلية “التركمانية” التي استقرت في أغنى بقاع إنتاج النفط (كركوك وإقليمها) العائدة للموصل العثمانية قبلذاك. وإذا كانت الحكومات الإيرانية قد ادعت حمايتها للأقليات الإيرانية التي استقرت في مدن الأضرحة المقدسة (النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء)، فإن الحكومات التركية فعلت ما يكافئ الفعل الإيراني بقدر تعلق الأمر بالأقلية التركمانية المتركزة فيما كان يسمى بـ”ولاية الموصل” على عهد الإمبراطورية العثمانية.
وإذا كان التمسك التركي بالأقلية التركمانية قد أحيا أحلام ضم الموصل إلى تركيا من آن لآخر، فإن الموضوع قد كسر هذا الطوق الخانق على سنوات حكم الأنظمة السابقة في بغداد من خلال التعاون مع أنقرة في سبيل القضاء على التمردات الكردية (شرق تركيا، وشمال العراق)، خاصة وأن المسلحين الكرد العائدين لحزب العمال PKK راحوا يناورون في مواجهة الجيش التركي بواسطة عبور الحدود الدولية، طمعًا في أمان وحماية إخوانهم من كرد العراق. لذا، فقد توصلت بعض الحكومات العراقية السابقة إلى صيغ تعامل وتعاون مع الحكومات التركية للمساعدة على القضاء على الحركة الكردية المسلحة، خاصة في المثلث الجغرافي الجبلي صعب المراس الواقع بين دول إيران والعراق وتركيا، وهو البقعة التي لا تتمكن أية قوة عسكرية نظامية أو سواها من السيطرة عليها مهما أوتيت من وسائل وإرادات. وحيث بقيت قوة البلدين تخترقان الحدود الدولية من آن لآخر تأسيسًا على مبدأ المصالح المشتركة، فإن الحكومات التركية المتعاقبة (قومية أو إسلامية) لم تتهاون في قمع المسلحين الكرد دون التمكن من إنهاء التمرد الكردي على نحو حاسم هناك حتى اللحظة.
إن رصدًا للعلاقات العراقية ـ التركية كهذاـ لا يمكن أن يمر دون ملاحظة دقيقة، بقدر تعلق الأمر بموضوع مستقبل وحدة العراق، وميل الأقليات العراقية والتركية لبلوغ نوع من الاستقلال الذاتي (الذي يطلق عليه لفظ إقليم) في عراق اليوم. إن الحكومات التركية، خاصة الإسلامية منها، لم تزل تتطلع إلى استحضار “العصبة الإسلامية” التي سبق أن رفعها العثمانيون للحفاظ على دولتهم ولتعبئة الشعوب الإسلامية للإبقاء على تلك “الدولة المقدسة”. إن تشبث الرئيس رجب طيب أردوغان بالآصرة الدينية إنما يذكرنا بتشبث السلطان العثماني عبدالحميد بذات الآصرة في سبيل إيقاف تدهور الدولة ومنع انهيارها حقبة ذاك. لذا ارتجع إلى لفظ “عصمنلي”، أي عثماني، لقياس زاوية الميل بين تركيا العثمانية سابقًا وتركيا الجمهورية حاليًّا.
1051 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع