فؤاد يوسف قزانجي
ولد هرمزد انطون رسام في مدينة الموصل في عام1826، وكان ابوه انطون رسام ارخيدون على الارجح من الكلدان ، وامه تريزا، وكان اصغر اخوته الثمانية .
كان اخوه الكبير كرستين قد سافر الى بريطانيا، ودرس فيها ثم تزوج بفتاة بريطانية، وتعين مساعدا للقنصل البريطاني في الموصل.
عاش هرمزد حياة مثيرة ،لكنه قضى ايامه الاخيرة حزينا ومخذولا ،على الرغم من اكتشافه مكتبة الملك اشور بانيبال .
درس هرمزد في الموصل وتعلم علومه الاولية باللغتين التركية والعربية،وطلب من زوجة اخيه البريطانية ان تعلمه اللغة الانكليزية، وسرعان ماتعلمها،وبدأ يحاور اخاه الكبير بالانكليزية، لكن كان والده يريده ان يدرس في معهد ديني في الموصل تابع للاباء الدومنيكان، او ان يسافر الى روما ليصبح قسيسا، لكن الامر لم يكن كذلك.
كان المنقب البريطاني هنري اوستن لايارد قد عاد في عام 1845 ببعثة آثارية ثانية اكبر من الاولى ،بعد ان علم من علماء آثار قبله ومن القنصل الفرنسي الذي مارس الحفر العشوائي ووجد كنزا من الاثار، وجاء الان دور لايارد . فلما سمع هرمزد بالخبر طلب من اخيه كرستين ان يتوسط ليعينه مترجما في بعثة التنقيب البريطانية، ويبدو ان البعثة لم تكن تحتاج الى مترجم ،وان ميزانيتها محدودة، وكان على هرمز ان يرافق اعضاء البعثة مجانا، فوافق هرمزد اذ رغب ان يتعلم مهنة التنقيب التي عرفت في تلك الايام في العراق الذي كان تحت هيمنة العثمانيين .
وبدأت البعثة الاثارية تحفر اولا في مدينة كلخو او موضع نمرود. ( وكلخو هي العاصمة الاشورية الثانية بعد مدينة آشور ) وكان هرمزد يسجل كل الملاحظات حول اسلوب التنقيب عن الاثار ، ويبدو انه كان يتعلم بسرعة . فعندما سافر لايارد الى بغداد لمراجعة السفارة لنقل الاثار المكتشفة، بقي هرمزد ومن معه يبحثون عن الاثار في كلخو .
وفي عام 1848 نصح لايارد رسام ان ياتي معه الى انكلترا لاكمال دراسته، حيث درس في كلية مكدالين التابعة الى جامعة اوكسفورد ، وبعد ان قضى حوالي سنة ونصف في دراسته ، طلب منه لايارد ان يعود الى الموصل للتنقيب معه مجددا،بعد ان ضمه اخيرا بشكل رسمي الى اعضاء لجنة التنقيب البريطانية. وخلال العامين 1849-1850 صار هرمزد يعاون في التنقيب طوال اليوم تقريبا في اثار تل قوينجق . في عام 1851 غادر رئيس البعثة لايارد راغبا بعد اشتهاره بالكنوز الاثارية الاشورية وخاصة مكتبة سنحاريب والثيران المجنحة ،ان يعمل في السلك الدبلوماسي، وحل محله هرمزد لان هنري راولسن الذي عين رئيسا لبعثة التنقيب ،كان قد فضل ان ينقب في مدينة آشور العاصمة الاولى للمملكة الاشورية. (1)
في مطلع عام 1852 كان قد قرر هرمزد ان ينقب في تل قوينجق القديم الذي يمثل بقايا مدينة نينوى القديمة ،ولم تمض سوى بضعة اشهر ،على تنقيبه في قصر اشور بانيبال حتى انهارت امام هرمزد كومة من الرقم الطينية الصلبة بعد ان بدى عليها انها احرقت مع القصر قديما . كان الملك اشور بانيبال قد اقام اكبر امبراطورية اشورية تمتد من بحر المر او البحر الكلدي في بابل وحتى بلاد الهلال الخصيب اي سوريا ولبنان وفلسطين وكذلك مصر . كما وجد بضعة الواح من الرخام الابيض المعروف في نينوى،منقوش عليها صور من اعمال اشوربانيبال حينما احتل الهلال الخصيب وتسلم الجزية من ملوك الاراميين في سورية وغيرهم وكذلك نشاطه في مطاردة الاسود . والاهم من كل ذلك انه اكتشف مكتبة آشور بانيبال ، وهي من اهم المكتبات المكتشفة في التاريخ القديم ، وذلك في نهاية عام 1852 . علما ان مجموع ماوجدته البعثات البريطانية التالية من مكتبة اشوربانيبال بلغت زهاء 25 الف رقيم او كسرة من رقيم، اكملتها بماوجده لايارد في المعبد الصغير امام القصر للاله نابو ،وكذلك في قصر سنحاريب قبل ذلك ،بالاضافة الى عشرة الاف رقيم سطى عليها العثمانيون،ومحفوظة معظمها في المتحف الذي يضم الاثار القديمة في تركيا.
ويذكر ان في بداية التنقيب ، كان قد نشب خلافا بين البعثة البريطانية هذه والبعثة الفرنسية للتنقيب حول موقع (تل قوينجق) الا ان هرمزد استمر في التنقيب والذي كانت نتيجته اكتشافه مكتبة الملك اشور بانيبال الكبير ،بالاضافة الى ذلك فقد وجد الالواح من الرخام الابيض المشهور في نينوى،و المنقوش عليها مناظر صيد اشوربانيبال للاسود وصور من اخضع من ملوك الممالك الارامية في سوريا وآخرين في فينيقيا وفلسطين .(2)
يصف هرمزد اكتشافه مكتبة آشور بانيبال في كتابه ( آشور وبلاد نمرود) على النحو التالي:
“كان هدفي حينما عدت في عام1852 موجها للبحث في الزاوية الشمالية لموقع (تل قوينجق) الذي لم ينقب عنه بشكل شامل، وفي اليوم التاسع من اذار اكتشفت لوحا كبيرا مهندما من الرخام الابيض منقوشا عليه منظرا لاشوربانيبال وهو يصيد الاسود، وعلمت انني توصلت الى قصر الملك اشوربانيبال، وفي نهاية ذلك العام ،وفي شهر كانون الاول وفي ليلته الثالثة انهارت الارض فوقنا كاشفة عن حجرة واسعة ولما بدانا تنظيفها وجدنا اكواما من الرقم المكتوبة والمفخورة “ بمختلف الاشكال والاحجام” ولما تفحصناها وجدنا انها تشابه الرقم الطينية التي وجدها لايارد في قصر سنحاريب في القسم الجنوبي من موقع التل قبل عام. ولم يوجد بجانب الرقم التي عثرنا عليها شيىء اخر،مما يدل على انها كانت موضوعة هنا منذ القديم، وكان بعضها شديد الاحتراق مما يشير الى انها كانت موجودة عند احتراق القصر، وقد كانت احجامها تتراوح بين بوصتين مربعتين - وثمانية بوصات طولا وثلاثة بوصات عرضا،وبلغ مجموع الرقم التي عثر عليها زهاء 1500 او كسرة من رقيم .” (3)
بعد اشهرقليلة عرض على هرمزد وظيفة نائب مندوب حكومة الهند البريطانية في عدن، ومن هنا ستبدأ متاعب هرمزد الحقيقية: كانت وظيفته خطيرة ،اذ كان عليه ان يكتب المراسلات بنفسه بالاضافة الى انه المترجم السياسي للقنصل البريطاني الذي عليه ان يحاور روؤساء القبائل في جنوب الجزيرة العربية وخاصة في منطقة عدن. وكان وظيفته مرهقة اذ كان عليه ان يقنع القبائل العربية بالحكم البريطاني. وفي عام 1860 حدثت اضطرابات في زنجبار وذلك لوقوع خلاف بين حاكم زنجبار وسلطان مسقط فزادت من اعباء هرمزد .
وفي عام 1864 كان ملك الحبشة ثيودور قد قام باعتقال القنصل البريطاني في مدينة (جندالة ) ومعه ضابط الاتصال ومساعد القنصل، واودعهم في السجن لفترة طويلة، وقد اختير هرمزد ،هذا الرجل الطيب ليقدم للملك مذكرة احتجاج وزارة الخارجية البريطانية على اعتقال اعضاء القنصلية وبعض اليهود البريطانيين الذين كانوا يتفقدون احوال اليهود في الحبشة. ولما وصل هرمزد بصحبة مرافق عسكري ،لم يرد عليهم الملك، وكان عليهم الانتظار شهرا بعد اخر حتى انقضت سنة كاملة، فسمح لهما بالمثول امامه. ولما قدما المذكرة تم اعتقالهما وايداعهما بالسجن وهما مثقلان بالاغلال، وبقيا في السجن ( الرهيب ) بحسب وصف هرمزد، لمدة سنتين كاملتين . واخيرا تحركت بريطانيا العظمى، فارسلت وحدة عسكرية، فلما وصلت هذه القوة مدينة جندالة،تم اطلاق سراح جميع المعتقلين. وكان ذلك في عام 1867 . وظل هرمزد يعاني من آثار سجنه سنوات طويلة.
وحال عودته استقال من وظيفته،واستسلم للراحة. وبعد حوالي سنة تزوج هرمزد. لكن بعد سنتين من زواجه، طلب منه المتحف البريطاني ان يترأس بعثة اثرية الى المدن القديمة في الموصل ،فقبل لانه اراد اثبات قدرته في الكشف عن الاثار، فسافر الى العراق. وعاد الى التنقيب في آثار نينوى، ثم انتقل الى البحث في مدن جديدة : فنقب في قرية بلاوات التي تقع بجانبها بلدة امكر-بيل الاشورية،والتي شيد فبها الملك شلمانصر الثالث قصرا فخما،كاستراحة له بعيدا قليلا عن نينوى كانت بوابة القصر تضم نقوشا وصورا محفورة على البرونز الرقيق الازرق،تضم ،ابرزها زورقان فينيقيتان يجلبان الهدايا الى الملك شلمانصر حينما احتل صور عاصمة فينيقيا . ولم يكتف هرمزد بما وجد،بل ذهب للبحث في خرائب مدينة بابل في عام 1879 ،فاكتشف تحت معبد ايساكيلا حجرا اسطوانيا مسجل عليه اعمال الملك كورش الذي احتل بابل، بعد ان خان البلاد قائد جيش بابل، واشار الى الاماكن الضعيفة في سور بابل المحصن. ويذكر ان المتحف البريطاني سلم هذه الحجرة الاسطوانية الى ايران بعد مباحثات مطولة، ولا نعرف ماذا تسلم البريطانيين مقابل هذا الاثر التاريخي؟
كما عثر رسام على اسطوانة الملك البابلي الاخير نابونائيد التي تعود الى فترة سقوط بابل والتي ضمت معلومات كثيرة ،من بينها تحدثه عن الملك سرجون الاكدي وابنه نرام سين، كما وجد تمثال لرأس سرجون الاكدي يبدوا ان نابو نائيد كان معجبا به ولكن هيهات. كما نقب رسام ايضا في مدينة كوثا وكذلك في مدينة سيبار فعثر على جزء من مكتبة سبار(4)، لاننا سنجد ان بعثة امريكية في عام 1974 ستعثر على ماتبقى في المكتبة التي كانت من اكبر المكتبات في العالم القديم. وذكر الاثاري اندريه بارو ان رسام عثر في نينوى على تمثال صغير الى (عشتار العارية) وهو من اجمل التماثيل في الشرق الادنى،كم وجد المسلة البيضاء التي تتحدث عن واحد من اهم الملوك الاشوريين وهو آشور-ناصر-بال .
محنة هرمزد واضطهاده
لما عاد هرمزد رسام بعد اكتشافه مكتبة اشور بانيبال لاهميتها التاريخية ،كان يتوقع ان تعترف ادارة المتحف البريطاني و المجتمع البريطاني بانجازاته وجهوده .لكن لم يحصل اي شيىء من توقعاته، وتوضحت له نظرة الموظفين البريطانيين في المتحف البريطاني على الشرقيين ، وخاصة امين المتحف اي. اي. واليس بوج .
وكتب الباحثان بينكوفسكي وميلارد في معجمهما ما يلي: على الرغم من منجزات هرمزد رسام والاثار النفيسة التي عثر عليها ونقلت الى المتحف البريطاني ،فان المجتمع البريطاني لم يقبل به مكتشفا آثاريا متميزا ،وكذلك ادارة المتحف البريطاني ،التي كانت تقلل من شأن انجازاته”(4)
ولم يكتفي البريطانيون بذلك، بل كان الاثارييون البريطانيون ايضا، ينظرون اليه نظرة استعلاء، اذ مالبثوا بعد عودته،وهو مثقل بالكنوز العراقية، ان اتهمه امين المتحف البريطاني ،بان اقاربه منعوه من ارسال القطع المهمة من الاثار الى المتحف. واضطر هرمزد ان يرفع دعوى قضائية على امين المتحف الذين اتهمه واساء الى سمعته . وبعد محاكمة طويلة كسب هرمزد الدعوى، وغرمت المحكمة امين المتحف، الذين اساء كثيرا الى سمعته مبلغ ليرة انكليزية واحدة ! (5) واضطر بعد ذلك الى الانسحاب من حياة المجتمع البريطاني،ليعش حياته الاخيرة حزينا منطويا على نفسه جراء اضطهاده .واضطر ان يطبع كتابه عن نشاطه في التنقيب عن الاثار العراقية القديمة و حول اكتشافاته لمواضع عدة وخاصة في قصر اشوربانيبال ، في دار نشر في الولايات المتحدة الامريكية .
وقد كتب عن معاناة هرمزد ايضا الاستاذ ديفيد دمروش من جامعة كولومبيا قائلا:”ان هرمزد رجلا غير اعتيادي “ كما أكد هو الاخر”التمييز الذي مارسه البريطانيين عليه بالحط من منجزاته وبالنظر اليه من عل”. كما ذكر دمروش، ان هرمزد كان مخلصا لتاريخ بلاده وان له الفخر في نتائج تنقيباته ومنها عثوره على معظم محتويات المكتبة الملكية في نينوى ، حيث وجد من الرقم المسمارية اكثر من10000 رقيم وقطعة من رقيم ؟ ويعني ان الرقم التي حصل عليها المتحف البريطاني تزيد على ما اعلنت عنه؟ كما يعزى اليه العثور على :(اسطوانة كورش او سايروس التي كتب فيها اخباره المبالغ بها او غير الصحيحة والتي افاد انه لم يقتل الملك نابونائيد، لكن معظم المؤرخين يشككون في ما سطره اتباعه، والدليل على ذلك ان اخبار نابونائيد اختفت نهائيا بعد القاء القبض عليه ، كما اختفت عن القائد كوباروا الذي ساعد المحتلين الفرس بالدخول الى بابل . (6) كما ان المتحف البريطاني في النصف الثاني من القرن العشرين ، و في موقعه الالكتروني ،اكد بان الاثاري العراقي هرمزد رسام الموصلي هو الذي عثر على مكتبة اشور بانيبال، وكان ذلك بعد موت هرمزد بحوالي نصف قرن من الزمن !
عائلة هرمزد
صار هرمزد عضوا في الجمعية الجغرافية البريطانية ، منذ ان شرح كيف عثر على ملحمة كلكامش اعظم ملحمة في العالم القديم . توفي هرمزد رسام في مدينة برايتن البريطانية في 16 تشرين من عام 1910 . خلف ولدا واحدا وست بنات، ابنه انطوني، التحق بالبحرية البريطانية حتى اصبح ضابطا ،وكان ضمن الاسطول البريطاني قرب نيوزيلاندا،اما ابنته ( اليزا) فقد اصبحت احدى مغنيات الاوبرا.
ومن حسن الحظ ان رئيس واساتذة قسم الاثار في جامعة الموصل ; كانوا قد قدموا اقتراحا باحياء مكتبة آشور بانيبال ،في عام 2000 وساروا قدما في مشروعهم الجليل ،ونتوقع بعد اكتمال المشروع ، ان تكون صورة هرمزد رسام الموصلي في صدر المكتبة مع تمثال للملك المثقف آشوربانيبال امام المكتبة .
مؤلفاته:
الف هرمزد رسام ثلاثة كتب اهمها كتابه الاول الذي طبع في نيويورك ،ولم يصل حتى الى مكتبة المتحف العراقي، اذ بحثت عنه في عام 2000 ولم اجده. وذكر ان كاتبا آخرا قام بطبعه حديثا 2007 واضاف اسمه مع هرمزد رسام وهو ويليام روجرس، ولا نعرف السبب!
1- آشور و ارض نمرود Assur and the Land of Nimrud. ويقصد بارض نمرود مدينة كالخو التي سماها البعض باسم ملك اسطوري هو نمرود ،سجل فيه نتائج حفرياته في مدينتي نينوى وكالخو، وربما اشار الى مدينة امكر -بيل الاشورية (بلاوات) وهي قرية موجودة في شمال الموصل. وقد طبع هذا الكتاب في امريكا في عام 1897 .
2- Biblical Nationalities :Past and Present .
3- The Garden of Eden or Biblical Sage (1893).
4--The British Mission to the Theodore King of Abayssinia (1896
كما كتب مقالتين الاولى عن الطوائف المسيحية في الشرق الادنى لم نعثر عليها، والمكتشفات الاشورية-البابلية . ويبدوا ان هرمزد كان مقلا في كتاباته.
واهم المصادر باللغة الانكليزية عن سيرة هرمزد رسام عدا ما ذكرنا :
1- تاريخ الحملة على اثيوبيا او الحبشة 1868 بقلم كليمنت ماركهام.
2- النيل الازرق بقلم الان مورهيد.
3-البعثة المعتقلة (اوراق برلمانية )1867-1869
4- مذكرات الاثاري البريطاني كنيث لوفتس.
5- رجال مارك،1881 .
6-جريدة التايمز في 17 تشرين اول 1910 ، التي كتبت نعيا له بعد يوم وفاته.
المصادر
1- (Directory of National Biography .1912.Vol.1. Oxford Univ. Press.
2 _قزانجي،فؤاد :مكتبة اشوربانيبال،اعظم المكتبات القديمة. 2002 بغداد (الموسوعة الصغيرة) دار الشؤون الثقافية .
3- ,H.Rassam .Assur and the land of Nimrud
4 ),Directory of the ancient near east . Bienkowski and a. millard .2000. p.238
(5)Hormuzd Rassam : The British Museum .org
(6) Damrosch, David .The Buried Books.,H. Holt, 2007.p.20
1019 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع