د.علي محمد فخرو
في خضم الفوضى والضياع والقلق الذي يجتاح كل مجتمعات العرب تنمو مجاميع من القراء التي تعترض على ادماج أي فكر أو أي مبادئ أيديولوجية في الكتابات السياسية حول الأوضاع العربية الراهنة، المطلوب هو الكتابة عن الأحداث، ثم ذكر ما يوافق الكاتب عليه أو يعترض عليه، دون أن يستند التوافق أو الاعتراض إلى مرجعية فكرية تعبر عن أيديولوجية متماسكة وشاملة يؤمن بها الكاتب.
بالنسبة لهذا النوع من القراء كل شيء نسبي ومؤقت عابر، وبالتالي لا ارتباط له بالتاريخ أو الجغرافيا أو الهوية أو المبادئ والقيم الضرورية لضبط العملية والسيرورة السياسية العربية، وبالتالي فان المناداة بأن تحكم الحياة السياسية العربية وتصرفات الأنظمة المبادئ السياسية والثقافية الجامعة والموحدة والطموحات القومية المستقبلية والعوامل التضامنية المقوية لمناعة الأمة ضد الأخطار الخارجية، ان تلك المناداة بالنسبة لأولئك القراء هي نوع من التنظير الذي لا يرتبط بالواقع العملي ونوع من هلوسة المجانين ومن أحلام اليقظة التي يتصف بها المراهقون في السياسة.
ولكن هل حقا أن ما يجري في كل أرض العرب من حرائق ودمار وتوجه محموم نحو الخروج من الحضارة العصرية التي تعيشها الانسانية لا يحتاج الى ايديولوجية جديدة عقلانية متماسكة تنطلق من نقد موضوعي لحال الأمة، ثم تضع للأمة أهدافا تتوجه نحوها، وتقترح وسائل ومنهجيات لتحقيق تلك الأهداف؟
نحن هنا نتحدث عن أيديولوجية لا تتخلى عن الكثير من الأسس التي قامت عليها الايديولوجيات السابقة ولكنها تنقدها وتنقحها وتضيف اليها مكونات جديدة تأخذ بعين الاعتبار المستجدات التي طرأت على الحياة العربية والساحة العالمية في السنين الأخيرة.
وكجزء من التعلم من دروس الماضي وتجنب بعض الأخطاء التي وقعت فيها الايديولوجيات السابقة، سواء أكانت قومية أم ليبرالية أم يسارية ماركسية أم اسلامية سياسية، فانها لن تطرح نفسها كايديولوجية تمثل الحقيقة الوحيدة المطلقة، ويتبناها حزب قائد طليعي يقود ويعلو فوق الأحزاب الأخرى، وانما كواحدة من بين ايديولوجيات أخرى متعددة تطرح جميعها نفسها كايديولوجيات متنافسة بشفافية، وذلك كأفكار وبرامج سياسية اجتماعية لا تكتمل أي حياة ديموقراطية بدونها.
وهي لن تقبل أن تكون ايديولوجية دولة مستبدة أو فاشستيه ترغم المجتمع على تبنيها بالسوط وبالابتزاز،انها بذلك تتجنب أن تكون ايديولوجية منغلقة على نفسها، متزمتة ورافضة للمراجعة المستمرة والتغير المستجيب للحاجات المستجدة في حياة الشعوب والمجتمعات العربية.
ثم، لننظر الى الواقع البحت: هل يمكن تجاهل مشاعر الانتماء للهوية العروبية في قلوب وعقول الملايين من العرب التي ترعرعت وتراكمت عبر القرون، وتجاهل الواقع العالمي الذي لا سبيل لاتقاء الشر فيه الا بقيام التكتلات الكبيرة المتضامنة، وتجاهل عشرات العوامل الثقافية المشتركة، في التاريخ وفي الحاضر بين شعوب هذه الأمة، وبالتالي هل يمكن تجاهل التأثير الكبير لما يحدث في أي قطر عربي على بقية أقطار الوطن الكبير؟ ان الجواب العقلاني القاطع هو كلا.
اذن، فاننا لا ننظر ولا نمارس الأحلام الساذجة عندما نربط بين ما يجري في سورية أو العراق أو السودان أو اليمن أو هذا القطر العربي أو ذاك وبين مصير ومستقبل الوطن العربي كله، اننا في هذه الحالة نمارس النظرة الواقعية الشاملة، لا النظرة المجزأة المعزولة.
كذا نظرة للأمور تستدعي مرجعية أيديولوجية تقوم على الايمان بضرورة توحيد هذه الأمة، حتى لو أختلفنا حول نوعها وتوقيتها ومراحلها وأساليب تنفيذها.
ومن أجل أن تكون تلك الوحدة بين شعوب، لا بين حكام أو أنظمة سياسية، لابد أن تحتوي تلك المرجعية الايديولوجية على الايمان بالديموقراطية التي وحدها ستمكن الشعوب من قول كلمتها بحرية ومسؤولية.
والشعوب لايمكن أن تكون حرة وحاملة للمسؤولية دون العيش تحت نظام اقتصادي اجتماعي قائم على العدالة الاجتماعية التي لن تتواجد الا بتبني الكثير مما تنادي به الاشتراكية الديموقراطية وأنظمة التزام الدولة بالرعاية الاجتماعية الانسانية العادلة.
وكذلك لا يمكن للشعوب أن تكون حرة ومسؤولة دون أن تكون مبادئ حقوق الانسان المقرة دوليا، بما فيها على الأخص حقوق المرأة، جزءا من تلك المرجعية الايديولوجية.
الواقع أن مسيرة الأنظمة الديموقراطية حيثما وجدت تؤكد أن النظام الديموقراطي الذي لا يستند الى مرجعية ايديولوجية عقلانية انسانية، تتعامل مع واقع مجتمع ذلك النظام وتطلعاته المشروعة، وتعترف بحق الايديولوجيات الأخرى بالتواجد معها،،، ان ذلك النظام سينقلب الى نظام تنافس وصراع على السلطة والثروة بين أشخاص مغامرين انتهازيين وديماغوجيين يعيشون على الاثارة والكذب.
الأوضاع العربية البائسة تحتاج الى أبعد الحدود الى أيديولوجيات جديدة تأخذ أفضل ما في الماضي وتضيف اليه أفضل ما يعالج المستجدات، دون ذلك سنبقى في الضياع والتخبط.
1021 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع