نزار ملاخا
حيّا عمّا كلدايا
سألني أحد الإخوة الأعزاء عن معنى الوعي القومي والكلداني بالذات، مما جعلني أنتبه إلى نقطة في غاية الأهمية وهي، هل حقاً أننا أستطعنا أن نوصل لبناء شعبنا ما هو مفهوم الوعي القومي؟
عندما ننادي ونهتم بمسألة الوعي القومي ربما لم ندخل إلى قلب الموضوع الأساس وهو : ــ ماذا نقصد بكلمة الوعي القومي والكلداني تحديداً؟ أليس المفروض بنا أن نعطي مفهوماً صحيحاً لهذا المصطلح بطريقة سهلة ومبسطة ومن ثم نعلنه للجميع وبعدها نطالبهم به ؟لذلك ارتأيت أن اقدم نبذة مختصرة عن هذا المفهوم لأقول بأن الوعي في معناه العام هو الفهم وسلامة الإدراك، هكذا جاء في قاموس المعاني، وهناك الكثير من التحليلات حول مفهوم هذه الكلمة، وبعكسه هناك اللاوعي، والمراد به تلك المشاعر والميول والعوامل النفسية الكامنة في باطن الإنسان والتي لا يعيها ولا يدركها، وعندما يقال وعى الشخص، اي نهض من نومه وإغفاءته، ووعى الأمر أي أدركه على حقيقته، وفقد وعيه، أي بما معناه إنه فقد مشاعره وأحاسيسه.
أما الوعي القومي فهو ذلك الشعور أو الإحساس بالإنتماء إلى قوم معين يتبع ذلك أو في تفاصيل ذلك أن تكون هناك مشتركات وثوابت لهذا الإنتماء منها الأرض واللغة والعادات المشتركة والتاريخ المشترك والمصير المشترك والتقاليد والحضارة والمجتمع وغير ذلك من تعاريف ومكونات القومية، لذلك قد يتصرف الفرد على ضوء ذلك، ومن ثم يشعر أو يحس بأن ذلك التاريخ الذي ينتمي إليه يكون مدعاة فخر وإعتزاز وذو أمجاد ، فيبدأ بالتباهي بتاريخه وأمجاد أجداده وما تركه له الأولون من تراث بحيث يصبح له رمزاً وعنواناً وهدفاً له يستلهم منه العِبَر ليبني ويشق طريق المستقبل، مما يجعله يفكر في قرارة نفسه ويسأل نفسه السؤال التالي ( إن كان أجدادي على هذه العَظَمَة وهذا التاريخ فكيف يجب أن أكون أنا ؟ وكيف يمكنني من حَمل هذه الأمانة وحفظ هذا الإرث العظيم ) وإن كان أجداده قبل عدة مئات من السنين قد أخترعوا الكتابة والفنون والعلوم وتوصلوا إلى علم الكواكب والنجوم فكيف يكون هو اليوم وضمن هذه التحولات والمستجدات اليومية على جميع الأصعدة وتوافر مختلف الوسائل التي تسهل عملية حفظ وتطوير التاريخ.
ما هو العامل الذي يؤدي إلى توحيد أبناء الأمة الكلدانية؟ هل أن توحيد ابناء الأمة الواحدة يعتمد على عامل واحد فقط ؟ وحسب مفهومنا فإن الوحدة ضمانة أكيدة لديمومة الأمة، وهي بمفهومها العام مقاومة الوضع الإنفصالي الذي نعاني منه كأمة كلدانية والذي تتربع على قمته الأنانية والمصلحة الشخصية والذاتية، على حساب الجميع، لذلك فإن التخلص من هاتين الصفتين يتطلب جهوداً جبارة وثورة ذاتية داخلية مع الإيمان الفردي بالتغيير من الفردية إلى الشعب والأمة.وهل نحن اليوم أمة متوحدة ؟ أم أمة اصابها التمزق ونال منها الإنهار وأخذ منها التشرذم مأخذ؟ ما هو السبب؟ هل بسبب ظهور مفاهيم جديدة على الساحة، أم بسبب التفكير في أن هناك كعكة أو منصب أو كرسي أو مادة أو مال، أم أن هناك سبباً أكبر وهو محاولة تغييب وتهميش متعمدة، أم أن هناك دوافع تاريخية وأحقاد دفينة على الأمة الكلدانية يحاول البعض جعلها حالة إنتقام .هل نسينا تاريخنا وأهملنا واجبنا تجاهه، أم تعرضنا إلى هجومات وإعتداءات أصابت العظم مِنّا بعد أن ذهبت باللحم.وهناك الكثير من هذه الأسئلة،
هل يمكن ان يكون الدين عاملاً اساسياً للوحدة؟ وهل تقوم الوحدة( وحدة اي شعب أو مكون) على اساس الدين ؟ وإن قامت على ذلك هل ستكون وحدة ناجحة ؟ كما حدث في القومية العربية عندما أصبح الدين الإسلامي سبباً في توحيد العرب ومن ثم ظهور المصطلح الجديد( الأمة الإسلامية) لكي يشمل العرب وبذلك أنمحى واندرس أسم المسيحيين العرب واصبحت القومية العربية بنسبتها الغالبة مسلمين. فهل يمكن تطبيق ذلك على الكلدان وخاصة بأن هناك مسلمين يعلنون جهاراً بأنهم كلدان مسلمين، وهل يصح القول مسلم سومري أو مسلم أكادي على غرار مسلم عربي ومسلم كلداني ومسلم كردي وغير ذلك، والأمثلة على الوحدة كثيرة ومتعددة على سبيل المثال وحدة القبائل الجرمانية ووحدة تركيا وقبائل آل عثمان، لا سيما وأن مفهوم الوحدة والوعي القومي بدأ بالتبلور في حدود ما قبل أربعة أو خمسة قرون على الأغلب.
قوة الوعي القومي
الوعي القومي الذي تحدثنا عنه له قوة خفية، اين تكم قوته، إنها تتمثل بقوة افراده وشعبه وسلالته، إنها قوة وتماسك وترابط العائلة والعشيرة والقومية، إنها قوة التمسك بالأرض واللغة والدين والهوية والأسم والوطن، إنها شعور وإندفاع لا إرادي غايته المحافظة على كل هذا الإرث وهذا التاريخ والعادات والتقاليد والأخلاق، إنها تلك القوة التي تصمم عَلَما للأمة وتضع نشيداً وطنياً له ويتمسك بهما كل من ينتسب إليهما، إنها تلك القوة وذاك الإندفاع وتلك التضحية التي تبذل جهودها في سبيل تنشئة جيل وفق تلك المفاهيم التي ما زال الكلداني يفتخر بها أينما حل وأينما كان.الأمة الكلدانية عَلَماً وبيرقاً يرفرف عالياً في سماء التاريخ والحضارة.
بدايات الوعي القومي الكلداني
بداية يجب أن نقول ما قاله التاريخ، ونؤمن بأن بدايات الوعي القومي الكلداني كانت منذ أن بدأت أول عائلة كلدانية توثق تاريخها، منذ بدايات كلدو وكشدو وكسديم وكلواذِ، منذ أن ابتدأ المؤرخ الكلداني الكبير بيروس (برحوشا) الذي قام بتدريس العلوم الكلدانية منذ عام 341 قبل الميلاد حيث كتب تاريخ ملوك بابل والذي أخذه من الألواح التي كانت محفوظة في هياكل بابل، إذن بداية الوعي القومي الكلداني كانت منذ بداية الكتابة على الألواح وتدوين تاريخ بابل وكلدو، هذا المؤرخ الكلداني الذي علّم في أثينا نصبوا له تمثالاً لسانه من ذهب وذلك من شدة حبهم له، فكم كانت كلماته درراً وحديثه أغلى من الذهب. بالمناسبة فإن بيروس أو برحوشا كان قد دوّن مؤلفه الشهير (البابليات أو الكلدانيات) تأريخ بابل منذ فجر الخليقة وحتى حكم الأسكندر الكبير ذاكراً فيه 191 ملكاً كلدانياً، كما استخدم الصفة القومية (كلداني) ليصف ملوك اكد. الوعي القومي الكلداني تبلور منذ أن عثروا على كتابات رافدية قديمة كانت تسمي الكلدان القدماء (كلدايي) ومفردها (كلدايا) وموطنهم (كلدو) ولغتهم الأم (كلديثا) وإنتمائهم لهذه الأرض واللغة (كلدايوثا)، وما زال هذا الوعي يتبلور يوماً بعد يوم ، وها هي قافلة المثقفين الكلدان تزداد يوماً بعد يوم، تؤرخ، تكتب، توثق، وتدوّن تاريخ أمّتها بكل أمانة وإخلاص مساهِمة برفع ما علق بهذا التاريخ من غبار واتربة ارادت أن تهمّشه، وتثور ثائرتها عندما تشعر بأن أحداً ما يحاول أن يزوّر هذا التأريخ، وينتفضون عندما يحاول البعض تشويه تاريخ أمّتهم، والدليل على ذلك أنتفض الشرفاء المخلصون من أبناء أمتنا الكلدانية حينما حاول البعض من أذناب الغرب أن يستبدلوا أسمنا بتسمية قطارية غريبة عن تاريخنا( كلداني آشوري سرياني) هذه التسمية القطارية التي لم ينجب التأريخ مثيلاً لها، فهل سمع العالم كله بتسمية ثلاثية ؟ وهل يقبل العرب والأكراد والتركمان بتسميتهم( عربكردوتركمان) بسبب أنهم يعيشون في العراق، أو لأنهم كلهم مسلمون، وغير ذلك من مبررات لا تستند إلى منطق علم أو تاريخ، ورفضوا التسمية المزدوجة(كلدوآثور) فإنها ليست تسمية قومية، نحن كلدان مذ أن خُلقنا ونبقى كلدان ونموت كلدان، من الممكن للإنسان أن يغير دينه ولكن من الصعوبة جداً أن يغير هويته القومية، كما أن إنتفاض الكلدان على أسم لغتهم ما هو إلا دليل وعي قومي كلداني يفوق حدود التصور، فاراد البعض أن يسمي لغتنا الكلدانية بالسريانية، وقلنا في وقتها ونشرنا مقالات حول ذلك بأن لغة القوم يستدل عليها من اسم القوم انفسهم، فلا يمكن للعرب أن تكون لغتهم هي التركمانية، عدا أن هناك سياسات إستعمارية استخدمت اسلوب التتريك اي ترك اللغة الأم وفرض لغة اخرى بديلة كما حدث في الجزائر، ولكن هذا وضع شاذ وأنتهى بزوال المستعمر، إن اللغة الكلدانية بشهادة المؤرخين هي لغة الكلدانيين الذين كانوا أشهر قوم ليس في بابل فقط وإنما في العراق كله، ولذلك عندما أنعقد مؤتمر كلداني في أمريكا – سان دييگو 2011 وكنت أحد أعضاء المؤتمر، سمي بمؤتمر النهضة الكلدانية، وهي التسمية الصحيحة للمؤتمر، وهي بداية نهوض الكلدان من جديد، لأن الكلدان موجودين دائماً وأبداً، ولكن تشتت جمعهم، وضرب النخر عظامهم، فتفرقوا بناء على قوة الأنا الداخلية وما اصابهم من حب الذات والأنانية، فمنهم مَن ركب القطار الثلاثي، ومنهم من تمسك بقشور الوحدة الثنائية(كلدوآثور) وآخرون بحثوا عن أسم آخر لهم وكأن اسم الكلدان لا يعجبهم، ومنهم من بقي محافظاً على أصوله صامداً بوجه كل هذه التقلبات وضد كل هذه التيارات التي جرفت الكثيرين( تيار المال والمناصب والخديعة والكرسي وعدم وضوح الرؤيا) فبين كل هذا الكم الهئل من التيارات التي أفرزتها الظروف القاهرة التي تعصف بوطننا الحبيب العراق وبشعبنا الكلداني على وجه الخصوص أفتقد البعض إلى الرؤيا الواضحة وطغت الضبابية على عيون الآخرين، فبدأت الإجتهادات تنهال علينا من كل حدب وصوب وبدأ المشككين بهويتنا يبرزون على السطح وأول هؤلاء المشككين هم بعض قادة كنيستنا الذين طالبوا بالإحتكام إلى إختصاصيين في التأريخ لكي يعلّموننا ما هو أسم قوميتنا وما هو تاريخنا، وبهذا أنقسم الكلدان إلى فئات متناحرة كل يدافع عن نظريته، وبدأ الواحد ينهش لحم الثاني، مستغلاً الظروف السيئة السلبية التي فُرضت قسراً على العراق والعراقيين وتسببت فيما تسببت به من ألام ومآسي بحيث جعلت المواطن يناضل لا من أجل شئ وإنما لأجل كسرة خبز يسد بها رمق طفله الجائع المسكين الذي يفترش الأرض ويلتحف السماء، وبهذه الحالة فاي حديث عن اللغة والهوية القومية والإنتماء إلى أحزاب وتأسيس تنظيمات وجمعيات تصبح هراء في هراء، فحالة الفوضى وإنعدام الأمن وعدم الإستقرار وسوء الأوضاع الإجتماعية وحالات الهروب الجماعية والسكن في المزابل والأكواخ والمخيمات ونزوح الالاف وتهجير آلاف أخرى من دورهم وفرار البعض من الوطن لرفضه حالة الذل والهوان في خضم ذلك كله يصبح من المستحيل الحديث عن الهوية والوطن والقومية واللغة، هذا كله أحدث فراغاً سياسياً كبيراً متعَمَّداً من قبل الدول المحتلة لبلدنا، فاستغلت هذا الفراغ بعض التنظيمات الموالية لقادة عملية التغيير ونشطت دولاً أخرى في أستقطاب أشخاص نفعيين لاتهمهم مصلحة الوطن والشعب بقدر ما أعمت عيونهم تدفق المادة إلى جيوبهم واصبحوا قادة كارتونيين أو قادة من ورق، وبدأوا يفعلون فعلتهم في تمزيق شعبنا الكلداني بعد أن أحكموا قبضتهم ونفذوا مخططهم في تمزيق العراق ككل ارضاً وشعباً، ولذلك يكون الحديث عن الأمة الكلدانية والقومية الكلدانية واللغة الكلدانية والشعب الكلداني، حديث ذو شجون وليس في محله أو في وقته. في ظل غياب كل هذا الكم الهائل من أسس الدولة الحديثة ومستلزمات العيش الآمن والحرمان تٌفرض على ذلك اما أن تؤدي إلى حالة من الهيجان وتتسبب في ثورة الشعب وفي حالة عدم ديمومتها أو عدم توفر أدواتها(قادة وستراتيجية وهيكل تنظيمي) ستُخمد ولن ترى النور، أو أن تقود في أضعف الإيمان إلى هجرات جماعية بعيداً عن مناطق النزاع سواء داخل الوطن أم خارجه، أو أن تنصاع للأمر الواقع وتخضع للظروف وتتأقلم مع دوافع المسيطر، والتجارب في هذه الحال كثيرة ومتعددة وخاصة في العراق مثل هجرات بسبب الدين او المعتقد أو الإضطهاد القومي والإثني العرقي والطائفي والمذهبي ,
يجب أن تكون هناك محاولات إستنهاض لهذا الشعب، ان يساعده المتمكنون بالدعم الدولي لكي ينهض من كبوته وينقذونه من انياب الذئاب التي بدأت تنهش بلحمه إبتداءاً بالتنظيمات المعادية للكلدان وإنتهاءاً بداعش فكما يقول المثل العراقي " الشَّگ چبير والرُگعة أزغَيرَه"
المصادر /
أدي شير ، تاريخ كلدو وآثور، ج1
عامر حنا فتوحي، الكلدان منذ بدء الزمان
حسن النجيفي، المعجم العراقي للمصطلحات والإعلام في العراق القديم
زهير الداوودي، نشوء الوعي القومي وتطوره عند الكرد
إقليمس يوسف داود، اللمعة الشهية في نحو اللغة السريانية، ط2، 1896
وللحديث بقية
02/06/2015
1139 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع