خالد القشطيني
آمل أن يتذكر القراء ما سبق ورددته مرارا، وهو أنني لا أقرأ أي مذكرات أو يوميات سياسية عربية لأنني أفترض في كثير منها الكذب. وأنا لي مرجعيتي وأتبع فتواها في هذه الأمور بحرص.
ومرجعي هو معلمي جورج برنارد شو. وأوصانا في فتواه فقال: «احرص على سلامة دماغك مثلما تحرص على صحة معدتك. وكما تصون معدتك من الأكلات الدسمة الضارة، صُن دماغك من قراءة الأفكار السقيمة السامة».
ولكنني خرجت عن هذه الفتوى مؤخرا كما يفعل سائر المتبعين بما لديهم من فتاوى. وكان ذلك بأن قرأت مذكرات الدبلوماسي العراقي السابق عبد الملك الياسين في كتابه الصادر مؤخرا «ذكريات ومحطات - لئلا تضيع الحقيقة». وقرأت هذا الكتاب بشوق لسبب بسيط، وهو أن المؤلف صديق حميم لي وطالما استضافني في بيته حيثما حضر وتعلمت منه الشيء الكثير وآمل أنه لم يتعلم مني أي شيء.
وجدت في الكتاب كثيرا من الدرر المؤنسة والمغنية والمرشدة لكل الضالين من أيام هذا الزمان النحس. يروي المؤلف أنه بدأ حياته المهنية معلما في مدرسة الطاهرة الابتدائية. ياما مررت في صباي بهذه المدرسة التي تقع في محلة عقد النصارى من بغداد. وبالتالي فإن أغلبية الطلاب فيها كانوا مسيحيين. يذكر عبد الملك بأنه رغم أن المدرسة كانت مدرسة رسمية وأن معلميها موظفون في الدولة فإن دروس الدين فيها كانت تقوم على الدين المسيحي وحياة السيد المسيح عليه السلام. وكان يقوم بتدريس هذه الدروس رهبان من الكنيسة الكلدانية ويتلقون رواتبهم من الدولة بالطبع. وكانت المدرسة برمتها تلتزم بالطقوس الدينية المسيحية وتراعي مناسباتها، كيوم الكريسماس وعيد الفصح... إلخ.
ماذا عن الطلبة المسلمين؟ كانوا مخيرين بالاستماع للدروس الدينية المسيحية أو ترك الصف خلالها. وكانوا بالطبع مُعفَين من أداء الامتحان في هذه الدروس، علما بأن أول مدرسة دخلتها كانت مدرسة يهودية في الأعظمية. كانوا يدرسون فيها الديانة الموسوية والتوراة، وكان غير اليهود مخيرين بحضور تلك الدروس أو الغياب عنها. واخترت أنا حضورها. انتقلت في ما بعد لمدرسة العسكري حيث كان أكثر الطلبة مسلمين. كان معلمنا جواد هبة الدين الشهرستاني. وعلى نفس الغرار كان المسيحيون واليهود مخيرين بين سماع درس الدين الإسلامي أو الخروج من الصف وقضاء الساعة في لعب الكرة. وكنا نحسدهم على هذه الميزة. والسيد جواد كان شيعيا وكان يلقي الدروس علينا من زاويته الدينية. ولم يعبأ أحد من آبائنا بذلك.
كانت أيام خير في عراق الخير والخيرات. لا السني تشيع ولا المسلم تنصر ولا اليهودي تمسلم. ولكنهم كبروا وعندما كبروا انشقوا، كما يروي المؤلف إلى شيوعيين وقوميين وبعثيين وراحوا يفتك بعضهم ببعض. ولم يكتفوا، فانشق القوميون وانشق الشيوعيون وأخيرا انشق المسلمون أيضا وراح كل منهم يدعي الحقيقة لنفسه. وكله مصداقا لما قاله الحجاج عنهم. والمؤلف يتابع كل هذه الهيصة بصبر جميل. ولِمَ لا وقد عاشها وذاق مرها وحلوها؟
734 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع