بهنام سليم حبابه
طالعت هذا الكتاب النفيس قبل مدة فوجدت موضوعه طريفا بعد أن استهواني عنوانه، ورحت أتصفحه مرة ومرتين وثلاثا وقد وجدت بين فصوله من الأخبار الطريفة والنوادر والملح التاريخية الشيء الكثير، ولا عجب فهو سفر تاريخي جليل غني بالأخبار والأحداث الجديرة بالاعتبار والتاريخ والتخليد نظرا لأهميتها البليغة على مر الزمن.
اما مؤلف هذا الكتاب فهو من المؤرخين العالميين المعروفين، بانه الراهب الدومنيكي الاب (حنا فييه) الفرنسي الجنسية وقد أمضى في بلادنا 35 سنة من عمره في البحث والاطلاع واكتشاف تراثنا وأمجادنا التاريخية التليدة وبخاصة في المناطق الشمالية الغنية بآثارها وجمالها وعظمتها وكتب في ذلك من البحوث ما يستحق الاعتبار بكل موضوعية وتدقيق وبلغ مجموع بحوثه ورسائله ومنشوراته وكتبه أكثر من (130) عدّا توفي الأب (جان موريس فييه) -وهذا اسمه بالفرنسية- في بيروت مساء 10/11/1995، والقلم بيده، بعد عودته من الجامعة اليسوعية فهو أستاذ متمرس فيها منذ مغادرته العراق.
سوف استعرض في هذه الأسطر بعض ما ورد في الكتاب المذكور من نوادر تاريخية طريفة وحكم بليغة. ولابد من التنويه بأن مؤلفات المؤرخ العلامة (حنا فييه) كلها مكتوبة بالفرنسية- وهي لغتهُ الأم- مع انه كان يعرف العربية (واللهجة الموصلية) وذلك بفضل إقامته الطويلة في العراق ثم لبنان.
إن هذا الكتاب موضوع كلامنا هو أصلا بالفرنسية، قام بترجمته إلى اللغة العربية أحد ألأدباء اللبنانيين وهو مسلم شيعي اسمه (حسني زينه) وذلك سنة 1990، يقول هذا المترجم، وهو محامٍ معروف كان صديقا للاب الراهب الدومنيكي (حنا فييه) (قرأت الترجمة العربية على المؤلف في جلسات مطولة لاتُنسى كان من ثمارها مزيد من التدقيق في بعض المصادر)، هذا ماورد في ص32 من الكتاب. يلي ذلك مقدمة الكتاب للمؤلف عينه وهي في عشر صحائف مترجمة إلى العربية (ص33-42.(
هذا وسوف أسردُ للقراء الكرام قسما من الأخبار الطريفة والأحداث التاريخية الظريفة الواردة في كتاب (أحوال نصارى العراق في خلافة بني العباس) موضوع هذه الأسطر، وبعد ذلك أورد نبذةً عن المؤرخ العلاّمة (الأب فييه) في ترجمة لحياته. ويقول المترجم الأستاذ حسني زينه إن هذا الكتاب هو جزء من ثلاثية تتناول أحوال نصارى العراق في ظل الساسانيين ثم العباسيين فالمغول. وقد مهدّ المؤلف لهذه الثلاثية بأربعة مجلدات ذكر فيها كثيرا من معلوماته عن الديارات والكنائس والأماكن النصرانية في العراق ومقالات عديدة عن المسيحية في ايران جُمعت في مجلد نُشر في لندن.
إلى جانب مؤلفات وشخصيات وأحداث مهمة في تاريخ المسيحية في بلاد الشرق، وقد أورد المترجم الشعار الذي اتخذه المؤلف شعارا له مقولة شيشرون الفيلسوف (قبل الميلاد) وهو من رجال روما العظام ومن خطبائها المعروفين في التاريخ، وهي حكمة بليغة تقول ( لاتُقدم على قول الباطل ولا تصبر على كتمان الحق) كم إنها جديرة بالاعتبار والتطبيق!!
والآن إلى بعض الأخبار والعبر والطرائف التي يتضمنها كتاب (أحوال نصارى العراق) هذا:
- ورد في قول لسعيد بن البطريق أن اسم بغداد هو اسم راهب كانت صومعته في الموضع الذي بنى فيه الخليفة المنصور مدينته. والحقيقة انه كانت هناك بليدة (بلدة صغيرة) بهذا الاسم على نهر الصراة.(ص64).
- أبو يوسف يعقوب المتوفى سنة 798م، حوالي 170 هـ، ينسب إلى الخليفة عمر بن الخطاب قُبيل وفاته قوله (أوصي الخليفة من بعدي بذمّة رسول الله ان يوفي لهم بعهدهم – والكلام عن النصارى- وان يقاتل من ورائهم ولا يكلـَّفوا فوق طاقتهم) فأين نحن من هذا؟؟
- أمر المنصور بإجلاء النصارى عن الثغور (المدن الحدودية)، وهؤلاء يسميهم ميخائيل السرياني (جرمقايي) أي الجرامقة السريان.(ص67).
- جرى في تلك الأيام أمر يكشف عن العقليات السائدة. فقد أراد الخليفة المنصور أن يهدم طاق كسرى ليستعمل حجارته في البناء ببغداد! فحاول الوزير خالد البرمكي الذي هاله الأمر أن يجد الأعذار ليصرف الخليفة المنصور عما عزم عليه، قال: لا تفعل يا أميرَ المؤمنين فانه آيةُ الإسلام وهو مصلّى علي بن ابي طالب وان مبالغ نقضه أكثر من نفعه فقال له المنصور: أبيت يا خالد إلا ميلا إلى العجمية!! وأمر بهدم قسم من الطاق وفاقت النفقة الوفر المرتجى لان كل نقلة كانت تستغرق يومين ذهابا وايابا إلى بغداد. عندئذ أراد المنصور الرجوع عما قرر سابقا فقال خالد: قد صرنا إلى رأيكَ وتركنا هدم الديوان إلاّ أن خالدا نصحَ له بمواصلة الهدم لئلا يقال إن الخليفة أضعف همة مما بناه غيره. فكان أن أمر الخليفة وتوقف الهدمُ حتى أنه أمر بترميمه فيما بعد! كان ذلك قبل وفاة المنصور بأربعة أعوام (ص52).
- كان للرهبان دور كبير الأهمية فيما قيل عن بناء مدينة بغداد، فقد كان هنالك على مقربة من المكان الذي بنى فيه المنصور قصرَ الخلد ديرٌ للرهبان، كما كان بالقرب من قرية العتيقة دير آخر على اسم ماربثيون نزل به المنصور وطردَ منه بعض المسلمين الذين اغتصبوه (ص53) في العام 148هـ، وبعد ثلاث سنوات من تأسيس بغداد مرض المنصور وفسدت معدته، ولما عجز اطباء المدينة عن شفائه ذُكر له احد معلمي جنديسابور الشهيرة ومدير بيمارستان تلك المدينة جورجيس بن جبرائيل من آل بختيشوع، وهذه قصة طريفة عن الهدية التي أهداها الخليفة لطبيبه في عيد الميلاد سنة (151 هـ)، فلما بلغ المنصور ان جورجيس قد غادر في عيلام زوجته التي شاخت وأقعدها الوهن عن القيام على رجليها. بعث المنصور اليه ثلاثة الآف دينار مع ثلاث جوارٍ روميات حسان بصحبة سالم الخصي، ولكن جورجيس ردَّ الجواري وقال للخليفة: هؤلاء لا يكونون معي في بيت واحد لأننا معشر النصارى لا نتزوج بأكثر من واحدة مادامت المرأة حية لا نأخذ غيرها، فحسن موقعه من الخليفة وأمر في وقته ان يدخل جورجيس على حظاياه وحرمه، ولما مثل بين يدي الخليفة ليستأذنه بالسفر دعاه الخليفة إلى الإسلام قائلا: أسلم وأنا اضمن لك الجنة!! ولكن الطبيب تجرأ على الرد قائلا: رضيتُ حيث آبائي في الجنة او في النار...
- وحصل جورجيس على هدية وداع بلغت عشرة آلاف دينار (ص152)، هذا وقصة فحص البول للخيزران وإنبائها بمولود معروفة أيضا، في سنة 190هـ أستدعي جبرائيل بن بختيشوع الى بغداد حيث تحققت على يده سلسلة من الشفاءات المذهلة بدءا بالمحظية مشلولة اليد! فقد وقفت أمام الطبيب بحضرة الخليفة الرشيد وتقدم جبرائيل ليكشف عن ثوبها فبسطت يدها بحركة غريزية لستر عورتها اذ خافت ان تنكشف.. وشفيت يدها!! ونال جبرائيل عن شفائها 500 الف درهم (ص92).
- -مات الخليفة المنصور على طريق الحج سنة 157هـ.
- -كان حي الشماسية في عهد الرشيد هو حي البرامكة الارستقراطيين (ص84).
- -أبو زكريا يوحنا بن ماسويه صار في خلافة المأمون رئيسا للمترجمين (ص84)، عن الرشيد قال: كل من له اليّ حاجة فليخاطب بها جبرائيل لأني أفعل كل ما يسألني فيه ويطلبه مني (ص62)، وجبرائيل هو الطبيب ابن يختيشوع.
-قال الرشيد بعد عودته من الحج لجبرائيل بن بختيشوع: "دعوت لك والله في الموقف كثيرا. فقال أحدهم بحياء: إن الطبيب ليس الا ذميا!فردَّ عليه الخليفة: نعم..ولكن صلاح بدني وقيامه به، وصلاح المسلمين بي، فسارع الجميع الى الموافقة على قول الرشيد.(ص93).
-كان كحّال الخليفة رجلا نصرانيا اسمه جبرائيل هو اول من يدخل عليه كل يوم(ص119).
-إن رجلا من اعيان النصارى اسمه ابو عيسى المنذر بن النعمان العبادي، هو الذي ادرك لوقا مطران الموصل على جسر دجلة هاربا متنكرا في زيٍّ غير زيـّه ليتحاشى رسامة الجاثاليق الجديد(ص124).
- لما انتشرت المجاعة في بغداد سنة 331هـ-942م وانهد جسر السفن الوحيد على دجلة تحت وطأة الفيضان، اجتاح الروم قليقية واستأسروا من المسلمين خلقا كثيرا، وكتبوا الى الخليفة انهم لا يطلقون الاسارى الا اذا دُفع إليهم منديل كنيسة الرها عليه صورة وجه السيد المسيح وكانت الرها في ايدي المسلمين، فاستحضر الخليفة علي بن عيسى والفقهاء والقضاة واستشيروا فأشار علي بن عيسى على الخليفة بتخليص المسلمين من الأسر، فسلم المنديل ونقل الى القسطنطينية سنة 814 (ص 128).
- شاهد على قبر يحيى بن عدي الفيلسوف اليعقوبي(+13 آب 974) في كنيسة القديس توما بقطيعة الدقيق ببغداد:
رُبَّ ميتٍ صار بالعلم حيا ومبقىً قد مات جهلا وعيـّا
فاقتنوا العلمَ كي تنالوا خلودا لا تعدّوا الجهلَ في الحياةِ شَيّا
ص(241).
-في سنة 830 حمل ديونوسيوس الهدايا الى الخليفة ولحق به الى دمشق حيث حيث راينا أن المأمون كان ينزل من قبل ضيفا على سبريشوع مطران المشارقة(ص117).
- في 354هـ -1031م هجم قطاع الطرق على المتنبئ (الشاعر) قرب دير قنّي قرب العزيزية وقتلوه.
- في العام 423هـ غلاء ووباء وجدري مات منه بالموصل أربعة آلاف صبي، وأصيب به الخليفة وسلـِم، واشتدت المجاعة في بغداد والبادية حتى ان البدو أكلوا اولادهم! (ص277).
- -ان زبيدة كانت تكرم طيمثاوس كثيرا وتميل إلى النصارى وتستخدمهم وقد شاركت في عمل أعلام الشعانين وعملت الصلبان من الذهب والفضة وأعطت طيمثاوس اوانٍ من الذهب والفضة وبعض الاقمشة الفاخرة (ص46)، كانت خلافة الرشيد كأيام العرس بالنسبة الى النصارى وذلك بفضل جبرائيل والسيدة زبيدة وفضل طيمثاوس خاصة (ص97).
-صادف المعتصم رهبانا وابتاع منهم سنة 221 هـ (835م)، ديرا مع ضياعه في الموقع الذي بنى فيه مقره بسامراء (ص128).
- -ابو تمام ولد نصرانيا وكان أبوه ثيودوس خمارا بدمشق، ولما اسلم ابو تمام سمى أباه أوسا ولفق نسبا يرتقي إلى بني طي (وفاته في الموصل -228هـ)، له شاخص على نهر دجلة أزاله الداعشيون!
- -في عهد المتوكل: الطبيب بختيشوع بن جبرائيل العيلامي كان يجالس الخليفة على سدة الملك (ص44).
- هذا وتذكر كتب التاريخ سبب ميل السيدة زبيدة زوجة الرشيد الى النصارى في أيام طيمثاوس المذكور آنفا، هو (أن الرشيد لما ندم على اليمين بطلاق زبيدة وأجمع الفقهاء على تزويجها من يستحلها له وعرف طيمثاوس صعوبة ذلك على الرشيد أشار بأن تتنصّر على يده فيوجب عليها القتل وترجع تسلم فتحل له، وأمضى ذلك الفقهاء وبهذا حظي طيمثاوس عندها وعاونته على سائر أموره وأعطته أدوات الذهب والفضة وغيرها!! (ص75)، من كتاب المجدل لماري بن سليمان طبعة روما (1899).
أين العراق وأهله اليوم من مسلمين ومسيحيين بعد 1200 سنة؟!
- وبعد هذه كلمة عن المستشرق المؤرخ الأب جان موريس فييه الراهب الدومنيكي الشهير باسم (ابونا حنا) الذي أعطي لقب (يوحنا الموصلي) لاهتمامه بتاريخ الموصل وخدماته فيها.
- هو واحد من المؤرخين الأعلام المعروفين، فرنسي المولد عام 1914 أمضى 27 سنة من خدمته في الموصل وسبع سنين في بغداد إشتهر بمؤلفاته العديدة التي أهلته للحصول على الدكتوراه الفخرية من جامعة ديجون الفرنسية، كما جرى تكريمه مع أربعة علماء متميزين بدكتوراه شرف بالعلوم الشرقية من قبل المعهد الشرقي في روما، وتعين عضوا في لجنة التاريخ الدولية منذ تأسيسها.
- حل الأب فياي منذ 1939 في بلادنا وهو راهب شاب فسحرته الحدباء بموقعها وآثارها وتاريخها وأهلها فخدمها وخدم العراق كله بتتبعاته واهتماماته التاريخية فأصبح حجة ومرجعا وقدم للبلاد مؤلفات تاريخية دقيقة من أهمها:
-(أخبار الموصل المسيحية)، ترجم الى العربية - آشور المسيحية بثلاثة أجزاء، ترجم الى العربية - أبرشيات المشارقة في الخليج العربي - ايشوعياب الكبير الجاثاليق - البحث في الديارات القديمة في شمال العراق - تكريت ..خلاصة تاريخية
- جغرافية دير بيث عابي ومنطقة الصفصاف - الموصل مدينة الأنبياء - مؤلفو الموصل تاريخ أربيل وآخر عن يوحنا الديلمي.
الى جانب المقالات الكثيرة والبحوث والدراسات المتعددة، ورد ذكره في معجم المؤلفين السريان (ص165)، ولم يكتفِ هذا العلّامة بهذا فقط بل انصرف الى التربية والتعليم وفتح ثانوية سماها (كلية الموصل) تولى ادارتها وهيأت للوطن مئات الطلاب الممتازين، وقد اغلقت كلية الموصل أبوابها في 1959 بعد خدمة 15 سنة، انتقل أبونا حنا إلى بغداد أواخر 1966 مواصلا أبحاثه وخدماته واتصالاته بالعلماء والمؤرخين، وبعد سبع سنين عاد إلى الموصل فالقاهرة ثم بيروت وكان دائم السفر إلى أوربا لإلقاء المحاضرات، وكان شديد الشوق لزيارة العراق لولا ظروف الحصار لكن المنية لم تمهله إذ باغتته في بيروت يوم 10/11/1995، وأقيم له حفل تأبيني في بغداد يوم 6/1/1996 رثاه فيه البطريرك مار روفائيل بيداويذ والأستاذ صالح أحمد العلي رئيس المجمع العلمي العراقي والقي الدكتور يوسف حبي عضو المجمع. كما أقيم حفل تأبيني آخر في الموصل يوم 16/1/1996 نظرا لمكانته العلمية، حضره عدد من الشخصيات والقيت فيه عدد كلمات منها للاستاذ المؤرخ سعيد الديوه جي والاستاذ بسام ادريس الجلبي
وبعد.. فنظرا لشهرة هذا العلامة الجليل المؤرخ الاب حنا، كان الصديق العزيز البحاثة الاستاذ بسام ادريس الجلبي قد طلب من الآباء الدومنكان حضور الاب جان موريس فييه الى الموصل بنية تكريمه والاحتفاء به لما قدمه من خدمات جليلة للمدينة وأهلها. وخلع عليه لقب (يوحنا الموصلي) لكن المنية عاجلته رحمه الله، ورحمة الله على صديقنا الاستاذ بسام ادريس الجلبي المتوفى بتاريخ 20-11-2015 في الموصل.
1209 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع