د. منار الشوربجي
رد الفعل الأوروبي لأزمة قوارب الصيد المتهالكة التي تعبر البحر المتوسط بآلاف البشر يبدو منفصلاً تماماً عن أصل المشكلة ويعالج قشورها لا حقيقتها، الأمر الذي يجعل المشكلة مرشحة للتفاقم لا الحل. فقد أعلنت أوروبا مواجهة الموقف بالقوة العسكرية.
فبعد التدفق غير المسبوق لأعداد ضخمة من البشر، وصلت إلى 21 ألف شخص، في الشهور الأربعة الأولى من العام الحالي قادمة من السواحل الليبية، في قوارب متهالكة إلى السواحل الإيطالية، أعلنت أوروبا عن مهمة عسكرية هدفها القضاء على عصابات الاتجار في البشر وتدمير القوارب، ومنعها من أن تعبر أصلاً البحر المتوسط من شمال أفريقيا.
ووفقاً لتقديرات وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين، فإن العدد الإجمالي الذي وصل شواطئ اليونان ومالطا وإيطاليا، معاً هذا العام، قد تخطى 36 ألفاً، ناهيك عن أكثر من ألفين كانوا قد تعرضوا للغرق في عرض البحر وأكثر من ألف وسبعمئة آخرين في عداد المفقودين.
وهذا كله لا علاقة له بالمأساة الإنسانية التي وقعت في شهر أبريل وحده وراح ضحيتها حوالي تسعمئة شخص. فالذين يستقلون تلك القوارب المتهالكة يأتون من بلدان شتى حيث لا تمثل ليبيا سوى «المحطة» التي يخرجون منها إلى عرض البحر. وهناك محطات أخرى، فهناك طريق آخر يمر عبر دول البلقان إلى شمال أوروبا مباشرة دون المرور بسواحل البحر المتوسط. لكن الأوضاع في ليبيا شجعت على اتخاذ الساحل الليبي الممتد مسرحاً لعملياتها.
والعام الحالي ليس هو بداية سقوط ضحايا، فقد ظلت أعداد كبيرة تترك ديارها طوال الأعوام الفائتة ولا يفلح الكثيرون منهم للوصول للشواطئ. لكن الأزمة تفاقمت حين أن أنهت السلطات الإيطالية في نوفمبر من العام الماضي برنامجاً للإنقاذ كان يسمى «مير نوسترم» بعد كارثة غرق أكثر من ثلاثمئة شخص في أكتوبر قرب سواحلها. وقد تم استبدال ذلك البرنامج بآخر يموله الاتحاد الأوروبي، وهو أقل تكلفة بكثير ويدعى «تريتون».
والبرنامج الأوروبي لم يقم بالبحث عن العالقين في البحر أو مساعدتهم كما كان يفعل البرنامج الإيطالي، وإنما هو برنامج يقوم بمهام أقرب لحراسة السواحل الأوروبية من أي من يقترب منها. وقد استمر ذلك البرنامج الأوروبي رغم انتقادات كثيرة من الأمم المتحدة لأن دولاً أوروبية، على رأسها بريطانيا، اعتبرت أن البرنامج الإيطالي، أو ما يشبهه في التوجه، كان يشجع المزيد من المهاجرين على الرغبة في الوصول لشواطئ أوروبا.
والحقيقة أنه لا يمكن النظر إلى الموقف الأوروبي من أزمة العالقين في البحر المتوسط دون النظر إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة في دول أوروبا ذات السواحل المتوسطية، سواء في إيطاليا واليونان أو حتى إسبانيا التي كانت قبل أعوام قليلة إحدى الدول التي تصب فيها موجات اللجوء من دول أفريقيا جنوب الصحراء. لكن وضع الأمور في سياقها خصوصاً الاقتصادي والاجتماعي في أوروبا لا يعني الاتفاق مع الموقف البريطاني الذي يعتبر أن إنقاذ الذين تتلاطمهم أمواج البحر يشجع المزيد من الناس على ترك بلادهم طمعاً في الوصول لأوروبا.
فمستقلو القوارب، وفق الأمم المتحدة، أتوا في الفترة الأخيرة من سوريا وليبيا، إلى جانب إرتريا والصومال وأفغانستان فضلاً عن أبناء عدد من دول أفريقيا جنوب الصحراء التي تعاني حروباً أهلية أو فقراً وخراباً. وهؤلاء يواجهون في أغلب الأحيان بديلين، الأول هو الموت المحقق في بلادهم، أو الموت المحتمل في عرض البحر فيفضلون البديل الثاني.
واللافت للانتباه أن أزمة قوارب الصيد في المتوسط يتم تكييفها، بالضبط كما كان الحال بالنسبة للقوارب التي وصلت الشواطئ الأميركية، باعتبارها قضية مهاجرين، وليس قضية لاجئين، وهو ما يؤدي لفارق كبير في طريقتي الاستقبال والتعامل. فالتعامل وفق القانون الدولي مع الهجرة، حين تكون غير شرعية، يختلف بالضرورة عن التعامل مع اللاجئين. وبالتالي فإن رد الفعل العسكري الذي اتفقت عليه أوروبا لم يكن بالإمكان قبوله لو أن القضية تقدم كقضية لاجئين.
ورد الفعل العسكري الأوروبي من شأنه أن يفاقم الأزمة.
فالتركيز على قصف قوارب الصيد التي تستخدمها شبكات المتاجرين في البشر لا يمثل رادعاً بأي حال لتلك الشبكات. كل ما في الأمر أن هؤلاء سيختارون وسائل أقل أمناً بكثير من تلك القوارب المتهالكة أصلاً طالما ظلت هناك حاجة لأعداد هائلة من البشر أن تترك بلادها. بعبارة أخرى، فإن التوصيف السليم للأزمة باعتبارها أزمة لاجئين، لا مهاجرين قد يكون أحد مداخل العلاج تلك المأساة الإنسانية.
فكلما ازدادت أعداد الدول التي يصيبها الدمار والفقر، ارتفعت أعداد المستعدين للهروب بأنفسهم وأسرهم وللمخاطرة سواء في عرض البحر أو عبر أي طريق آخر.
وسيتعرضون للاستغلال والإذلال سواء من جانب التجار الذين يشترون، بالمناسبة، من الصيادين الفقراء قوارب الصيد في آخر لحظة، أو من جانب غيرهم ممن سيسهلون لهم الخروج من ديارهم عبر طرق أخرى.
1169 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع