صادق الطائي*
■ الحديث عن مدينة الصدر – الضاحية الشرقية لبغداد ـ حديث ذو شجون.
فبدءا باسمها الذي تغير أكثر من مرة مع التغيرات السياسية التي مرت على العراق، حيث انشئت باسم مدينة الثورة، في بداية الستينيات من القرن العشرين، لتصبح مدينة صدام في مطلع الثمانينيات من القرن نفسه، ومحرقة الحرب العراقية الايرانية تأكل الالاف من شبابها، لتتحول اخيرا إلى مدينة الصدر مع الإطاحة بنظام صدام مع مطلع القرن الحالي، في إشارة إلى النفوذ الكبير لرجل الدين الشيعي محمد محمد صادق الصدر، ومن ثم ابنه مقتدى- في المدينة التي انشئت لتضم مئات الالاف من الفلاحين المهاجرين من جنوب العراق، وليرتبط تأسيس المدينة في المخيال الشعبي العراقي بالجنرال عبد الكريم قاسم، الذي نفذ اسكان المدينة ابان ترأسه للوزارة بعد الاطاحة بالنظام الملكي عام 1958.
وجذر مشكلة الهجرة من الريف إلى العاصمة بغداد يمتد إلى سبعينيات القرن التاسع عشر، في فترة حكم الوالي مدحت باشا للعراق (1869-1872)، الذي حاول أن يشق للحداثة طرقا في البلد، عبر إنجاز عدد من المشاريع الانمائية وسن التشريعات القانونية، فأطلق عام 1870 ما عرف (بقانون الطابو) أو تسجيل الاملاك العقارية والاراضي، بعد أن كانت البنية القبلية هي السائدة في ريف العراق (اكثر من نصف المجتمع العراقي)، وكانت الأرض مشاعا للقبيلة تنتج منها ما يكفيها بطرق اقتصاد الاكتفاء. لكن القانون الجديد سجل الاراضي الزراعية باسماء شيوخ القبائل، وطالبهم بدفع الضرائب للدولة، في محاولة من الوالي لتوطين العديد من القبائل الرحل، ولترسم نمط الدول الحديثة القائمة على مواطنة المواطن الدافع للضرائب، الذي له حقوق على الدولة بالمقابل، لكن بدائية تطبيق القانون حول شيوخ القبائل إلى اقطاعيين يتحكمون بابناء قبائلهم تحكمهم بالعبيد المشتغلين في اراضيهم، وفتت البنية الاجتماعية التقليدية للقبيلة القائمة على التماسك والتراحم والمساواة بين افرادها، لتحل محلها حالة شبيهة بالقنانة في اوروبا العصور الوسطى.
ومع تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، وارتباط الاقتصاد المحلي باقتصاد السوق العالمي تحول الشيوخ القبليين – ملاك الاراضي – إلى كومبرادور محلي مرتبط بالسوق العالمي، وهذا ما أدى إلى انعكاس أزمة الكساد العالمي الكبرى نهاية العشرينيات على الاقتصاد العراقي، حيث ضرب الكساد سوق المنتجات المحلية التي تزرع في جنوب العراق، كالحبوب والتمور، ما أدى إلى كارثة اقتصادية حولت القرى في جنوب العراق، خاصة محافظتي ميسان وذي قارالى بيئة طاردة، بسبب الفقر والكساد وظلم الاقطاع، وفي الوقت نفسه ومع توسع العاصمة وما تحويه من خدمات وتشكيل الجيش العراقي وقوى الأمن وطلبها العديد من المتطوعين، تشكلت بيئة جاذبة في العاصمة التي شهدت موجة هجرة كبرى، بدءا من ثلاثينيات القرن العشرين لتتزايد في عقدي الاربعينيات والخمسينيات.
موجات المهاجرين الجدد غير القادرين على التأقلم مع حياة المدينة والمتخوفين من أجوائها، ونمط الحياة الحديث فيها سكنوا في حزام فقر في خاصرة العاصمة الشرقي، خلف سدة ترابية كانت تمثل حدود بغداد الشرقية ولتحميها من خطر الفيضان، هي سدة ناظم باشا، نسبة لوالي عثماني متأخر أمر بإنشائها قبيل الحرب العالمية الاولى، كما سكن عدد منهم في جانب بغداد الغربي في أحياء صفيح محاذية لبغداد.
ومع تزايد مشكلة المهاجرين واكتظاظ حزام الفقر المحيط ببغداد بعوائلهم، اخذت حكومات العهد الملكي تفكر بحلول للمشكلة، لكن تغير الوزارات السريع لم يتح لها أن تنجز حلا حتى منتصف الخمسينيات، فمع تأسيس (مجلس الإعمار) عام 1950، وفق اتفاقية ابرمها العراق مع صندوق النقد الدولي، عندما طلب العراق قرضا لانشاء سدود في الحبانية والثرثار تحمي بغداد من خطر الفيضان المتكرر، أشار صندوق النقد الدولي على العراق بإنشاء مجلس يتولى عملية التطوير والاعمار والاسكان في كل قطاعات العراق وفي كل محافظاته وليس في بغداد فقط، على أن توضع عائدات النفط العراقي في خزينة الصندوق، وتكون ادارته مستقلة عن الحكومات المتغيرة، حتى لا تتعرض مشاريعه للتأثر بتغير الوزارة، وهذا ما كان، ومما ساعد في اتمام الامر، تعديل المعاهدة النفطية بين العراق وشركات النفط عام 1950، لتصبح حصة العراق نصف ما ينتج من العائدات البترولية، مما وفر له ثروة كبيرة للبدء بتنمية شاملة في البلد.
في عام 1955 مع تصاعد الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي وأمريكا، ومع أفول شمس الامبراطورية البريطانية، اخذت أمريكا تزيح بريطانيا من مواقعها القديمة في الشرق الاوسط لتحل محلها في المنطقة، التي مثلت خاصرة الاتحاد السوفييتي، ولتعمل على انشاء ما عرف بحائط الصد المانع لانتشار الشيوعية في المنطقة، وقد تم ذلك عبر الاحلاف العسكرية حينا وبالدبلوماسية الناعمة احيانا كثيرة، وفي هذه الفترة كانت الولايات المتحدة تنفذ مشروع مارشال لإعمار اوروبا، وتخوض حربا على جبهة اخرى لجمع الحلفاء الاوروبيين بوجه السوفييت، وكانت تعمل على ذلك في كل القطاعات. تشير الكاتبة البريطانية ف. س.سوندرز في كتابها المهم «الحرب الباردة الثقافية»، الى أن المخابرات الامريكية كانت تنفذ معاركها في حربها الباردة عبر مؤسسات خاصة ورجال اعمال وشركاتهم، مثل مؤسسة فورد ومؤسسة روكفلر ومؤسسة كارينجي…الخ، وما تم عقده من مؤتمرات ونشاطات قامت بها هذه المؤسسات تنفيذا لخطة المخابرات الامريكية، فمثلا تبنى متحف الفن الحديث في نيويورك، الذي تشرف عليه مؤسسة روكفلر، الموجة التعبيرية التجريدية في الفن وقدمها على انها النموذج الحر الذي يمثل امريكا في مواجه الواقعية الاشتراكية، التي تمثل الكتلة الاشتراكية، وخلقت المؤسسات الامريكية نماذج فنية وجعلتها رموزا لهذا الصراع وتوّج الرسّام جاكسون بولاك نجماً ثقافياً جديداً للولايات المتحدة الأمريكية. ورأى المسؤولون في الأسلوب التعبيري التجريدي لبولاك جميع المزايا الضرورية لتقديم صورة جديدة عن أمريكا لقارة أوروبا القديمة: فأسلوب رسم بولاك كان ينضح بأيديولوجية المشاريع الحرّة، وكان جديداً وحيويّاً وقوّياً – على الضد تماماً من فنّ الواقعية الاشتراكية المتمسك بالتاريخ، الذي بدا جامداً وساذجاً. فكان على هذه التعبيرية التجريدية ألا تعتبر فقط ابتكاراً أمريكياً فحسب، إنما تجعل من نيويورك بديلاً لباريس كمركز قديم للفنّ.
أما على صعيد العمارة فقد كان المهندس اليوناني الشاب كوستانتيان دوكسيادس (1914-1975) هو حصان السباق في هذا المضمار، فمن خلال علاقاته مع صناع القرار في المخابرات الامريكية وبتنسيق عمله مع مؤسسة فورد وجامعة هارفرد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أصبح مكتبه أشهر مكتب عمارة وتخطيط مدن في العالم، وقد منح دعما ماليا قدر بخمسة ملايين دولار، حصل عليه من المؤسسات الامريكية لينفذ مشاريع في مختلف بقاع العالم، في العراق وباكستان والبرازيل والاردن ولبنان وايران وايطاليا وليبيا والسعودية والسودان وامريكا وزامبيا وغيرها.
اذن ما الذي قدمه دوكسيادس للامريكان ليقنعهم بانه عبقري في تخطيط المدن؟ تشير المؤرخة المعمارية ميشيل بروفوست في مقال لها عن دوكسيادس إلى انه قدم للمؤسسات الامريكية نظريته المتماسكة الجديدة، التي اطلق عليها اسم (اكستكس Ekistics ) وهي ما عرف بالمستوطنات البشرية القائمة على المربعات الهندسية التي استلهمها من النظام العسكري الاغريقي، القائم على تكرار الوحدة السكنية مرات ومرات لتشكيل قطاع مغلق على نواته التي تحوي السوق والمدرسة ومكان العبادة ولا يفصل بين الوحدات السكنية إلا شوارع ضيقة، بينما تمر الشوارع الرئيسة بجانب الاحياء مما يخلق مدنا جديدة قابلة للتمدد تعيش على هامش المدن القديمة، ولكنها لا تتواصل معها ولا تستعير من قيمها المعمارية والثقافية أي شيء، ما يجعلها توصف بانها مثل «الخبز الأبيض» الذي هو خبز بسيط طريّ وبلا طعم إلى حدّ ما. وعلى هذه المشاريع أن تمهّد الطريق أمام نمط غربي آخر للحياة، نمط حياتيّ فعّال ومحبّ للسلام، فتساهم هذه المشاريع بتحويل بلدان العالم الثالث إلى حضارات عقلانية، بحسب رأي دوكسيادس.
لقد استغرق مشروع عمل دوكسايدس في العراق قرابة الثلاثة اعوام (1955-1958) وقد كان من المفترض توفير إسكان لحوالي مئة الف نسمة من سكان احياء الصفيح شرق بغداد، بحسب الاحصاء العام للسكان عام 1957، أي حوالي 16 الف وحدة سكنية موزعة على ثمانية قطاعات (اكستيكس)، ولكن قيام الانقلاب العسكري الذي اطاح بالنظام الملكي عام 1958 اوقف التعامل مع دوكسيادس لاسباب كثيرة لا مكان لذكرها هنا، وليرث النظام الجديد ضمن ما ورثه من النظام الملكي تخطيط دوكسيادس لمدينة الثورة الذي تم بتوجيه من المخابرات الامريكية.
٭ كاتب عراقي
1207 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع