المسألة البيئيّة في الأديان الإبراهيميّة

                                                    

                                د. عزالدين عناية
 
"إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة،
 فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها"
حديث نبويّ رواه البخاري وأحمد

تُعدّ مسألة البيئة من جملة المسائل التي باتت تؤرق الضمير البشري في عصرنا الراهن، وليست الأديان والمعتقدات البشرية في منأى عن هذا التحدي. ربما وحدة التراث الإبراهيمي الجامع بين اليهودية والمسيحية والإسلام، ما يجعل تلك الديانات في صدارة تحمّل تلك المسؤولية في عالمنا اليوم، نظرا لاتساع رقعة أتباعها ولما تملكه من مخزون تراثي هائل، وبالتالي قوة أثر هذين العاملين في المساهمة في رفع ذلك التحدي لو تيسر توظيفهما التوظيف الحسن.
جدل الاتصال والانفصال بين الألوهية والكون
لقد شكلت الأديان الإبراهيمية، مع اليهودية والمسيحية والإسلام، تحوّلا فارقا لدى الإنسان في التعامل مع الكون والنّظر إليه. كان الإنسان طرفا من الطبيعة وامتدادا لها في آن واحد، وبما يماثل ذلك كانت آلهته أيضا، من الطبيعة وفي الطبيعة. غلب ذلك التصوّر دهرا على عقول البشر، وطغى أثناءه منزع الدين الطبيعاني -Naturism- المؤلِّه لشتى العناصر الخارقة، ومنزع الدين الأرواحي -Animism- الناظر إلى الأشياء عبر قياس مستوحى من ذات الإنسان. ولم يتجاوز وعيُ الإنسان عناصرَ الطبيعة المهيمنة على روحه ووجدانه، حتى بات رهين تلك الطبيعة وجودا ومصيرا.
غير أن ما طرأ مع الأديان الإبراهيمية، في فترة لاحقة، من إضفاء بُعْد مفارق على مأتى الإنسان وعلى مآله، كان بالفعل تحوّلا عميقا في علاقة الإنسان بمحيطه. حيث تهاوى ذلك التمازج في الديانات المُجِلّة للطبيعة، ليفسح المجال للتمايز في الديانات الإبراهيمية، التي أعطت الكون مصدرا خَلْقيا ومستقلاّ بذاته. لكن وبرغم حدوث ذلك التحوّل، ما برح الإنسان على صلة وطيدة بالحاضنة الكونية، حيث غدت تلك الصلة مبنية على معادلة اتصال وانفصال، على خلاف النظرة السالفة التي رأت في الكون، فيه معاش الإنسان وفيه مآله. ولئن استمر الإنسان يشكل جزءا وطرفا في هذا الكون، وعلى وعي بحضوره فيه، فقد بات على إدراك بيّن أن في ذلك الكون مبدأه وليس فيه منتهاه. وبالمثل، وإن لاح أن فناءه المادي فيه، فإن مصيره الروحي يتخطّاه وخارج عنه، وهنا البعد المتجاوز الذي أطلّ مع الأديان الإبراهيمية.
مع هذه النظرة المستجدّة، ليس الإنسان فحسب من تعالى على هذا الكون المادي بل إلهه ومعبوده أيضا، فبعد أن كانت الآلهة جزءا من الطبيعة وامتدادا لها، باتت الألوهية المتعالية في الأديان الإبراهيمية مصدر ذلك الكون وعلّته، وغدت صلة الألوهية بالكون مختصرة ومجملة في قصة خالق ومخلوق. حيث لا مكان في الأديان الإبراهيمية لمفهوم الطبيعة العمياء بل هناك خلقٌ بقدر. وليس الكون نابعا من تفرّع عن آلهة، أو عن كائن مفارق، أو عن جوهر شامل، وإنما هو ناشئ عن صنيع إلهي واع ومقصود. وبصفة ذلك الكون مخلوق فهو في حدّ ذاته ليس محلاّ لأية قدسية أو عبادة، بل الثناء والإجلال لبارئه، وبالتالي انهار الوعي القديم بالطبيعة ليفسح المجال لمفهوم الخَلق الوارد مع الديانات السماوية.
غدت الطبيعة مجرد شاهد على الخلق لا محلاّ للألوهية أو القدسية، كما تم إفراغ الكون من قواه السحرية ونزع طابع الأسْطرة عنه، وهذا ما انتهت إليه الديانات الإبراهيمية والنظريات العلمية الحديثة سويا، التي أعادت العالم إلى وضع "الشيء"، وهو ما نجد تأكيدا له في الفكر العقلاني الديكارتي الذي اعتبر الطبيعة آلية ناشطة لا غير، فيها الإنسان هو السيد والمهيمن، وبمقتضى هذا التجاوز حصل تولّد الحداثة.
التأمت حول مفهوم الخلق العديد من العناصر الأخرى، فليس الزمن نهرا متدفّقا منذ الأزل يجري إلى ما لا نهاية "نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر"، كما عبر القرآن الكريم عن ذلك في (سورة الجاثية: 24)، بل له منطلق ومنتهى. فكان التاريخ في الأديان الإبراهيمية خطّيا تصاعديا، ينتهي عند يوم حشر لا ريب فيه. وهو معتقد يتغاير مع ما هو سائد في أديان أخرى، تميزت بنظرة دورية أبدية للزمن والفصول والكائنات، باعتبار المسار دائريا وليس خطيا، وهي نظرة شائعة في الديانات الهندية، عبرت عنها بالخصوص عبر مفهوم التناسخ.
وضمن ذلك السياق الإبراهيمي صاغت اليهودية رؤية جذرية مغايرة عن الإنسان في الكون، تلخّصت في المقول التوراتي: "فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وأنثى خلقهم. وباركهم الله قائلا: أثمروا وتكاثروا واملأوا الأرض واخضعوها. وتسلّطوا على سمك البحر، وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يتحرك على الأرض" (سفر التكوين1: 27-28). وعبّر القرآن الكريم من جانبه في مواضع عدة عن تلك العلاقة المستجدة "هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" (سورة هود: 61)، و"هو الذي جعلكم خلائف في الأرض" (سورة فاطر: 39). فكان التمكين والاستخلاف والوصاية للبشر تكليفا واتمانا على الكون لا تسلّطا عليه.
وفي اعتقاد اليهود والنصارى كان خَلْق الإنسان على شبه الرب، ما خوّل له التحكّم بقدر ذلك الكون، تصديقا لما جاء في الكتاب المقدس "أثمروا وتكاثروا واملأوا الأرض، لتطغ الخشية منكم ورهبتكم على كل حيوان الأرض وطير السماء، وعلى كل ما يتحرك على الأرض، وعلى سمك البحر، فإنها كلها قد أصبحت خاضعة لكم" (سفر التكوين9: 1-3). ونصادف شبها لمضمون ذلك القول في آيات الاستخلاف القرآني، الشبيهة من حيث المقصد لا من حيث الصياغة "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم" (سورة النور: 53). ولكن الملاحظ أن الأديان الإبراهيمية ربطت هذا التمكين في الأرض، بعدم إتيان الفساد واجتناب العبث بالخلق، ولم يكن دون قيد أو شرط. نقرأ في الكتاب المقدّس "وأخذ الرب الإلهُ آدمَ ووضعه في جنة عدن ليفلحها ويعتني بها" (سفر التكوين2: 15)، وبالتالي هناك معنى المسؤولية الدائم بغرض المحافظة على هذا العالم . بصفة عنصر الفساد مرفوض أصلا، حتى وإن أمْلت الضرورات عملا فهو يقدّر بقدرها، وهو ما عبرت عنه التوراة بقولها: "وإذا حاصرتم مدينة حقبة طويلة معلنين الحرب عليها لافتتاحها، فلا تقطعوا أشجارها بحدّ الفأس وتتلفوها لأنكم تأكلون من ثمارها. هل شجرة الحقل إنسان حتى يهرب من أمامكم في الحصار؟ أما الأشجار التي لا يؤكل ثمرها فاتلفوها واقطعوها، لاستخدامها في بناء حصون حول المدينة المحاصرة المتحاربة معكم، إلى أن يتم سقوطها" (سفر التثنية 20: 19-20)، وبالمثل ورد في القرآن الكريم في عدة مواضع "ولا تبغ الفساد في الأرض إنّ الله لا يحبّ المفسدين" (سورة القصص: 77)، وكذلك في قوله: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس" (سورة الروم: 41).
لاين وايت ونقد الرؤية اليهودية المسيحية للكون
غير أن تلك الرؤية الناشئة مع الأديان الإبراهيمية، التي تناولناها بالشرح والتوضيح سلفا، اُعتبرت في مرحلة لاحقة أصل ارتباك العلاقة بين الكون والكائن البشري لدى البعض. إذ ثمة فكرة شائعة في أوساط "البيئويين"، أنصار تقديس البيئة، أن تحوّل البشرية من البانثيون التعدّدي إلى التوحيد الخالص، بعد مغادرة مرحلة التماهي مع الطبيعة، شكّل كارثة مفهومية أورثت تبعاتها البيئة ضررا. حيث انهار ذلك التوحّد وتصدّع ذلك التمازج بين البشر مع حاضنتهم الكونية، على مستوى روحي ومادي، ليفسح المجال لمفاهيم دينية مفارقة تقطع مع ذلك التمازج .
وبالفعل تعرّضت تلك الرؤية للكون وللطبيعة، في الأديان الإبراهيمية، إلى ما يشبه الهجمة والتشكيك، منذ أن نشر المؤرخ الأمريكي لاين وايت، سنة 1967م، دراسته الشهيرة "الجذور التاريخية للأزمة البيئية"، التي تُعدّ حجر الزاوية في النقد الحديث الموجه لرؤية الكتاب المقدّس للكون. حيث نحا لاين وايت باللائمة على المسيحية الغربية، تقديرا منه لما تستبطنه من إلحاح على المركزية البشرية في الكون، وبما تحرّض عليه من استغلال مفرط للطبيعة من قِبل الإنسان، لإشباع نهمه لا حاجته، كون ذلك السلوك يأتي نتيجة لإرادة الرب، فهذا التمشي يسوّغ خراب الأرض على حدّ زعمه . ووفق لاين وايت تتضمن التقنية وتستبطن "فظاظة مسيحية"، معتبرا إعادة إصلاح العقلية الدينية في تعاملها مع البيئة، هو السبيل الأوحد للخروج مما يتضمّنه الاعتقاد المسيحي عبر سلوك معتقديه من عسف وحيف تجاه العالم، كون تجاوز المركزية البشرية وحده الكفيل بتطهير المسيحية من خطيئتها تجاه الطبيعة.
ومنذ نشر تلك الدراسة أُثيرت العديد من النقاشات الموسعة من قبل المنشغلين بالشأن البيئي. ويمكن اعتبار ما ذهب إليه وايت هو إكمال لتلك الحلقة النقدية الواسعة التي استهدفت الدين، سواء مع ماركس أو مع فرويد أو مع داروين. ويتسم الخطاب المتهجم على التراث الكتابي عموما بمقاربة كارثية للمسألة، فضلا عما يتميز به في معالجة مسائل البيئة من نبرة فاجعة، وهو خطاب أحيانا غير واقعي ومغال، بما يوشك أن يخلّف ذلك التكرار والإلحاح حالة من التعوّد والفتور لدى عامة الناس.
وضمن الرد على المؤرخ لاين وايت، ذهب نيل جوزيف لوفينجر إلى أن موقف وايت يعبر عن قراءة مبتورة وسيئة لسفر التكوين، خالصا إلى أن تلك القراءة سطحية وعارية من الصحة، إذ بحثت عن كبش فداء لمسألة هي أعمق من أن يُكال فيها الاتهام لدين مّا . فقد استند وايت إلى نصّ التوراة الداعي إلى السيطرة على الطبيعة ولم يتنبه إلى قصة نوح مثلا، التي ترمز إلى الحفاظ على التنوع البيئي، خالصا "إلى أن المسألة بصفتها في العمق دينية فهي بحاجة إلى إصلاح من الجنس نفسه" ومرشّحا القديس فرانشيسكو الأسيزي إلى تلك المهمة.
لقد كان استناد لاين على مقطع مختصر وارد في الكتاب المقدس حاسما، مع اعتبار ذلك المقطع محوريا في الدين المسيحي، في حين يطفح الكتاب المقدس بالعديد من المواقف المتنوعة والإيجابية من الطبيعة. علاوة أن الأضرار التي لحقت بالطبيعة في القرون الأخيرة قد تضافرت مع تراجع في سلطة الدين، وبالتالي ليس من الصواب أو الجائز تحميل الدين تلك المضار الحاصلة .
وضمن سيل الانتقادات التي انهالت على المسيحية، خلصت الباحثة سالي مافاغ إلى أن الأزمة البيئية قد اندلعت جراء تلاقي السلوك الاقتصادي الرأسمالي مع الثقافة الاستهلاكية النابعة من المسيحية . لقد فتح لاين الباب واسعا أمام انتقاد التراث المسيحي بشأن الطبيعة، وتضافر ما ذهب إليه مع ما دعا إليه بعض أنصار البيئة من إعادة تقديس للطبيعة، بما يشبه الانبعاث المستجد لديانة إحيائية تتأسس على العودة إلى الطقس القديم للأرض، باعتبارها أمّا وآلهة، وهو ما سعت الديانات الإبراهيمية جاهدة لإبطاله. وإن تلتقي الرؤية غير الدينية مع نظيرتها النابعة من الأديان الإبراهيمية في مقصد المحافظة على البيئة، فإن ما يميز التصور الحاصل في الأديان الإبراهيمية وهو الرفض الصارم للرؤى "البيئوية"، التي تريد تحويل الانشغال بالبيئة إلى ما يشبه الشعيرة الدينية ذات الطابع القداسي، باعتبار الأمر وثنية مستجدة. فقد حضرت في الكتابات البيئية المعاصرة نزعة تقديس تُجلّ البيئة إلى مستوى يضاهي إجلال الألوهية، ما جعل الكثير من القيادات الروحية في تلك الأديان تنظر إلى تلك المسألة باحتراز، وتنأى عن تلك التوجهات، مع حرص في الأثناء على إنتاج قاموسها الخاص في معالجة الشأن البيئي. حيث نلحظ حرصا في الأدبيات الإيمانية اليهودية والمسيحية على استعمال كلمة "الخلق" بدل كلمات "البيئة" و"الوسط الطبيعي" و"الطبيعة"، في حين تتلاشى تلك الحساسية الاصطلاحية في الكتابات الإسلامية، على قلتها.
نحو تأصيل مسألة البيئة في الأديان الإبراهيمية
بشكل عام انطلقت الكتابة في مجال العلاقة بين البيئة والدين في الغرب مع مطلع سبعينيات القرن الماضي، وكان ذلك مع ريني ديبو -René Dubos- (1973)، وأوجين هارغروف –Eugene Hargrove- (1986)، وكالفين دي ويت –Calvin De Witt- (1987)، وتتابع ذلك مع جون إلدر –John Elder- (1992)، ودانيال هرفيو-ليجي –Danièle Hervieu-Léger- (1993)، وريني كوست –René Coste- (1994)؛ وبالمثل بدأت المسألة تشغل بال اللاهوتيين أيضا، منذ أن تناول رجال دين الموضوع من زاوية دينية بحتة، كما كان مع توماس بيري –Thomas Berry- (1988)، وهانس كونغ –Hans Küng- (1991)، وماثاو فوكس –Mathew Fox- (1995)، وليوناردو بوف –Leonardo Boff- (1995)، ويورغن مولتمان –Jürgen Moltmann- (1998). وأما من الجانب الإسلامي فقد جاء أبرز تناول للموضوع من وجهة نظر إسلامية، في دراسات وأوراق ضمن أعمال مؤتمر "البيئة في الإسلام"، المنعقد في أكاديمية آل البيت الأردن في 27 سبتمبر 2010. لكن في العموم تبقى الدراسات في الشأن محدودة ويطغى عليها طابع الترصيف والعرض لما ورد في الكتاب والسنة، حيث لا يزال الخطاب فخريا ولم يتحول إلى خطاب علمي تأصيلي بشأن البيئة.
وجراء ما ساد من خلط بشأن الخطاب الديني تجاه البيئة، حري الإقرار أن ليس من الصواب في شيء اتهام التراث الروحي، أكان إبراهيميا أو غيره، بإلحاق المضرة بالطبيعة أو المس بالتوازن البيئي، وهو تراث ثريّ بالحثّ على التكامل بين الإنسان وبيئته. ويكفي أن نتمعن في قصة سفينة نوح الواردة في التوراة والقرآن حتى ندرك رمزية ذلك الحرص على المحافظة على التنوع البيئي . يقول ميرسيا إلياد في هذا الصدد: "في كافة الأديان ذات الطابع الكوني، تشجّع الحياة الدينية تلك الروح من التضامن السارية بين الإنسان والحياة والطبيعة" . فلو تتبعنا على سبيل المثال تعامل الدين الإسلامي مع البيئة نجد لوامع تنمّ عن موقف في غاية الحرص والمسؤولية. فقد ورد عن النبي (ص) نهيه: "لا يخبط -يقلع- شجره ولا يعضد -يقطع- إلا ما يساق به الجمل" ، بشأن شجر المدينة وما جاورها. وكان عليه الصلاة والسلام "ينهى أن يقطع من شجر المدينة شيء" . وقال الإمام أبو يوسف: "حدّثنا مالك بن أنس أنّه بلغه أن النبي حرّم عِضاه –شجر- المدينة وما حولها اثني عشر ميلاً وحرّم الصيد فيها أربعة أميال حولها". قال أبو يوسف: "وقد قال بعض العلماء إنّ تفسير هذا إنما هو لاستبقاء العضاه" ، وبالمثل وضمن السياق نفسه روي عن النبي (ص) بشأن مكة قوله: "إنَّ الله حَرَّم مكَّة... لا يُختلى خَلاها، ولا يُعْضد شجرها، ولا يُنفّر صيدها" ، فهذا الحث على الاعتناء بالمحيط وإنشاء المحميات، ينبئ عن حرص مبكر رافق الإسلام منذ عهده الأول، وليس أمرا غريبا عن تعاليم دينه.
لكن من المهم الإحاطة بالخطاب البيئي في تراث الأديان الإبراهيمية ضمن أطره، فالطبيعة حاضرة في العهد القديم وفي القرآن الكريم، بشكل واسع ومتكرر، حيث تأتي كأحد العناصر الأساسية في الخطاب الإيماني والقصصي والوعظي للحث على الاعتبار والتذكّر لدى البشر، لكن ما لم يكن حاضرا وهو غياب المنظومة البيئية التأصيلية، حيث سادت قراءة غير بيئية عبر القرون أسقطت الطبيعة، لعدم توفر الحوافز أو المثيرات أو الدواعي لذلك، أما اليوم فإن اجتراح تلك المفاهيم، أو بالأحرى إيقاظ تلك المفاهيم المضمرة والمتوارية، صار حاجة ماسة أمام الإشكاليات التي تتهدد الحاضنة الكونية. ومن هنا لا بد من إدراك طبيعة دلالات الخطاب حتى لا نقوّل النص المقدّس ما لم يقله، ولأجل تفادي الانحراف به باتجاه تأويلات خاطئة، قد تحصل من هذا الجانب أو ذاك.
ولذلك من المجدي إبراز الفلسفة العميقة والبعيدة الغور، المعبرة عن أصالة الديانات الإبراهيمية بشأن البيئة، التي لا تجد لها نظيرا، في بعض الجوانب، حتى في فلسفة الخطاب البيئي السائد اليوم. ففي تعاليم تلك الديانات يمكن الحديث عن عمق وجودي في الحفاظ على الطبيعة، يتجلى في مفاهيم محورية وتأصيلية لدى المؤمن. ولعل ضوابط الكاشير وغير الكاشير في اليهودية، والخطيئة وغير الخطيئة في المسيحية، والمحلّل والمحرّم في الإسلام، التي تنظّم المأكل والمشرب والفعل، بالإضافة إلى محطات التفرّغ المقدسة، مثل السبت، واليوبيل، والصوم الكبير، والجمعة، والأشهر الحرم، والإحرام وما شابهها، من الأدوات التي تناهض العبثي وغير المنضبط.
من جانب آخر، يلوح من خلال التراث الديني المسيحي مثلا أن الإنسان مستأمَن على الكون، وهو ما يشترك فيه مع الدينين الآخرين، لكن مع التحوّلات الاجتماعية الحديثة التي باتت فيها المسيحية وكأنها ديانة الرأسمالية العالمية أثيرت شبهة التنافر. والواقع أن المسيحية السمحة ليست وراء ما يتهدد البيئة، بل الرأسمالية المنفلتة والليبرالية الاقتصادية الجشعة، ولذلك حري التمييز بين روح الديانة المسيحية الأصيلة وبين عقيدة الرأسمالية الجشعة وتجنب ذلك الخلط المتعمّد أحيانا.
ولكن أن يقال إن الأزمة البيئية فاجأت الأديان وهي في غفلة عن المسألة فهو صواب، فمن جانب الديانة المسيحية جاء تنبه لاهوتها متأخرا، على إثر تعرّض البيئة إلى أضرار جمة وبعد تداول تلك المسائل في الأوساط غير الدينية . ولكن أمام الانتقادات التي وُجّهت إلى المسيحية تجاه المسألة البيئية بدعوى تقصيرها في الحفاظ على النظام البيئي، استنجدت الكنيسة بسِيَر بعض القديسين لدفع تلك الشبهات، حيث عُدّ القديس بنديكتوس (480-547م)، والقديس فرانشيسكو الأسيزي (1182-1226م)، واللاهوتي بيار تايلار دي شردان (1881-1955م) من أعلام ذلك الخط، باعتبارهم من أيقونات التعامل المتقدّم مع البيئة، ومن أنصار العناية بالطبيعة والالتحام بها، قبل ظهور موجة الانشغال والكلف بالشأن البيئي، التي بدأت في الانتشار مع ستينيات القرن الماضي، رغم ذلك لم يشفع الأمر لدحض الاتهام المسلّط. وفي الواقع إن جماعات الرهبنة في التراث المسيحي الغربي قد انتبذت مكانا قصيا في الطبيعة بحثا عن العزلة الروحية، وليس كلفا أو انشغالا بالمسألة البيئية، حتى لا يتم تحميل تراث الرهبنة ما لا يحتمل.
ولكن لا ينبغي إغفال حالة الانسجام العالية مع الطبيعة، التي عاشها ودعا إليها عدد من الأنبياء، بما يبرر التساؤل بشأن إمكانية الحديث عن روحانية طبيعية في الأديان الإبراهيمية؟ أي أن الطبيعة والكون بشكل عام كانا محل تأمل دائم للاقتراب من الخالق من خلال التمعن في عظمة خلقه. لقد تطورت العديد من التيارات الروحية، سواء في اليهودية أو في المسيحية أو في الإسلام، واتخذت من الجبال والأدغال والصحارى أماكن خلوات وعبادة ومعاش. كما حبذت الخلاء والعزلة في الطبيعة البكر بعيدا عن ضوضاء العمران، كل ذلك طلبا للصفاء قصد مناجاة الواحد الأحد، لذلك كان العيش في انسجام مع الطبيعة شكلا من أشكال عيش الإيمان. وربما التأمل في سِيَر العديد من الربانيين وتتبع التجارب الروحية للأنبياء، مثل موسى (ع)، الذي مكث في الصحراء طويلا حتى تنزلت عليه فيها الألواح، أو النبي يحيى -يوحنا المعمدان- (ع)، الذي اتخذ مكانا نائيا في البرية، أو النبي محمّد (ص) الذي اعتزل في غار حراء طلبا للتحنث، هو دعوة عميقة لمناجاة الإله الأوحد في الطبيعة البكر.
غير أن ذلك الاحتفاء الكبير بالطبيعة في الأديان الإبراهيمية، تراجع في العهود الأخيرة. فمثلا في عصرنا الحالي لا يرد الحديث عن البيئة والكون والوسط الطبيعي، داخل البيع والكنائس والمساجد، إلا لماما وبشكل عابر. فهو ليس من المواضيع التقليدية المتطرّق إليها في العظات والخطب بشكل عام. وإن يقع تناول المسألة، فهو عموما يرد ضمن النهي عن الإفساد في الكون والحث على إعماره، بمدلول عمراني لا بمدلول بيئي، من هنا وجب تطوير الحديث عن الكون وتعميقه بما يساير الحاجة والضرورة. ولكن، ومن جانب آخر، هناك تبلور لخطاب أكاديمي بدأ يطلّ في الجامعات الدينية اللاهوتية المسيحية خصوصا، من خلال إنجاز البحوث والرسائل، وإن كان لا يزال شحيحا تناول المسألة في الجانب الإسلامي. وبشكل عام، ما انفكت الكتابات الإيمانية مصبوغة بطابعين بارزين، إما ذات منزع ردودي داحض للاتهام أو ذات منزع فخري، بما تستعيده من نصوص التراث وتتغافل فيه عن واقع البيئة بين أتباع تلك الأديان. ولم يتحول التناول لديها إلى خطاب واقعي علمي مع تبنيه طروحات دينية في الشأن.
رغم ذلك نلحظ تطورا للأنشطة والدعوات والكتابات لرفع هذا التقصير، ما انجر عنه سيل من الأدبيات في هذا المنحى، لا سيما في الجانب المسيحي، ما يمكن نعته باللاهوت البيئي - Theoecology-. وقد تكثفت تلك الاهتمامات منذ اعتلاء يوحنا بولس الثاني سدّة البابوية وتدعمت مع تولي خلفه البابا بنديكتوس السّادس عشر ذلك المنصب، معلنا بتوليه قولته الشهيرة: "تكاثرت الصحارى الخارجية في العالم بموجب اتساع رقعة الصحارى الداخلية. فغدت ثروات الأرض ليس في خدمة تشييد جنة الله، التي يمكن أن يعيش الجميع فيها، بل في خدمة قوى الاستغلال والتدمير" . ولا مراء أن موضوع البيئة في الخطاب العالمي المعاصر قد نشأ خارج اهتمامات رجالات الأديان العالمية التقليدية، ولكن بعد أن انعقد مؤتمر ستكهولم سنة 1972، ومؤتمر ريو دي جانيرو سنة 1992، وانشغالهما بموضوع البيئة، إضافة إلى تشكّل منظمات عالمية للغرض نفسه، مثل الاتحاد العالمي للوقاية (iucn)، والصندوق الدولي للطبيعة (wwf)، وبرنامج الأغذية العالمي (wep)، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (umep)، دبّ تنبه للمسألة، ساهمت الأديان مساهمة قيّمة في التحريض عليه، بما تكنه من عناية للطبيعة. إذ شعرت الأديان الإبراهيمية، ممثلة بأتباعها ورجالاتها، وكأنها مفرّطة في شأن مستأمنة عليه، فانبرى تدفق الأنشطة حثيثا باسم تلك الأديان لتفادي عواقب ذلك التفريط. والملاحظ أن مجمل الكتّاب والباحثين الذين تناولوا بالدراسة علاقة البيئة بالدين، وتعرضوا إلى أثر المعتقدات والتصورات ذات الطابع الديني على السلوك والتعامل مع الطبيعة، قد بينوا الدور الفاعل الذي يمكن أن يسهم به الدين في الخروج من الأزمة. لكن وبرغم أن مجمل الأديان لها مواقف إيجابية من البيئة فلا تزال فجوة بين التعاليم الدينية والممارسات العملية للأتباع مستحكمة حتى الراهن.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1222 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع