خالد القشطيني
تناولت في مقالتي السابقة موضوع المقاهي الثقافية في بغداد، وكان ذلك تعليقًا على الفيلم الوثائقي البديع للمخرجة العراقية إيمان خضر. بيد أن للمطاعم أيضًا مكانتها في قلوب المثقفين، أو بالأحرى «مصارينهم» وجيوبهم.
وللموضوع حكايات وأساطير لا تنتهي، ولن تنتهي بهذه المقالة، لا سيما بالنسبة للعلاقة بين زبائن المطعم وخدامه وأصحابه. نجد أن العلاقة بين النادل والزبون في المطاعم علاقة متوترة دائمًا. النادل يكره باطنيًا زبائنه، فخدمته لهم تنطوي على شيء من المذلة والشعور بالنقص. عليه أن ينفذ أوامرهم مهما صعبت، ويتحمل انتقاداتهم وإهاناتهم بأدب واحترام. القاعدة التجارية تقول الزبون دائمًا على حق. والزبائن من ناحيتهم أيضًا يشعرون بالنقص تجاه النادل، فهو الذي يعرف أكثر مما يعرفون عن الأكل والشرب وأصوله وآدابه. وتتوقف وليمتهم على حسن ذوقه وخدمته.
ولكن كثيرًا ما يجد النادل وسيلة ماكرة للنيل والانتقام منهم في حدود الأدب والخدمة. كانت بعض المطاعم في بغداد تحمل لوحة على بابها تقول «خاص بالمسلمين». أعطى ذلك النادل فرصة النيل من أي زبون لا يعجبه: «آسف أفندي.. هذا محل خاص للإسلام ما يجوز ليهودي مثلك ياكل فيه. تفضل اطلع». وعندئذ يقتضي على المسكين أن يثبت أنه مسلم قبل أن يأكل ماعون باميا فيه. اختفت هذه اللوحة بتنور الجمهور ونمو الوعي.
المعتاد عندنا أن ينادي النادل بأعلى صوته في طلب الوجبة. تسمعه يصرخ «واحد باذنجان واتنين كباب للشباب هنا». أعطاهم ذلك خير وسيلة لتحقير أي زبون. كان هناك نادل في مطعم كباب سليمانية في الحيدرخانة يبهدل أي أفندي عندما يصرخ قائلا للطباخ: «نص ماعون كباب للأفندي هنا بدون سكينة وشوكة».
سأل النادل أحد زبائنه عما يريد، فأجابه: «خليني أفكر دقيقة». عاد إليه بعد دقائق فأجابه: «تمن وباذنجان رجاء». فنادى النادل بأعلى صوته: «الأستاذ هنا بعد التفكير باذنجان!»، وهذه مادة يقرنها العراقيون بالجنون.
كانت المطاعم الشعبية مزدانة برسوم جدارية: منظر دجلة، جسر مود، صورة بطة أو حصان. وأصبحت هذه المناظر نقاطًا لتحديد مكان الزبون. ينادي النادل على الطباخ: «ماعون كباب للأفندي جوه الجسر». أو «باقلا وخبز للحصان»، أو البطة... وهلم جرا. وهكذا أصبح على الزبائن أن يتحاشوا المناظر المشينة ويجلسوا بعيدًا عنها.
للنادل أيضًا براعته في حسن المخلص. احتج أحد الزبائن على قطعة الـ«ستيك» التي وجدها صلبة جدًا. فنادى على النادل وقال: «شنو هذي؟ أضغط على السكينة بكل حيلي وما أقدر أقصها!»، فابتسم النادل ونادى على زميله الآخر: «يا محمد، جيب سكينة حادة زين للأستاذ جوه البطة».
بيد أن زبونًا آخر عالج هذا الموضوع بلوذعية أحسن. نادى على النادل وقال: «اسمع هنا.. إذا كنت أريد ستيكاية قوية مثل الحجر، عندي في البيت مرتي تعملها»!
935 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع