ا.د. محمد الدعمي
سيكون المعلم إلكترونيًّا، طي شاشة الحاسوب(الكمبيوتر)، بينما تتلاشى الدروس اللاصفية التي كنا نحبها ونحن أولاد صغار كالرسم والرياضة والزراعة، ومعها تختفي، بطبيعة الحال العشرات من المهارات والمواهب التي كانت تطورها هذه الدروس. لذا فإن النظام المدرسي ونظام الحضور الصفي على طوابير المقاعد أمام السبورة والمعلم أو المعلمة، هما نظامان مهمان لأنهما طالما رسخا عادات تفكير وطرائق عقلنة في دواخلنا عبر رحلة التعلم والتنشئة والمحاكاة المستطيلة.
إذا كانت “شبكة المعلومات الدولية”، الإنترنيت، قد ثوّرت (بتشديد الواو وفتحها) العديد من مضامير الحياة والاتصال والعمل، فإن للمرء أن يفترض بأن أهم الثورات التي فجرتها هذه الشبكة، هي ثورة، “دمقرطة” The democratization of data، أو “مشاعية” المعلومات، بمعنى أن المعلومات والمعارف لم تعد حكرًا على المكتبة أو المؤسسة أو الدولة أو المدرسة أو الجامعة أو المستشفى، لأنها مكنوزة كاملة اليوم في الشبكة أعلاه ولا يحتاج المرء للكثير من الجهد في سبيل إيجاد مبتغاه حول أي حاجة أو مرض أو كتاب أو أداة أو آلية سوى استعمال محرك البحث، وربما كان من الأيسر إتقان إحدى اللغات الأوروبية (الإنجليزية بخاصة).
ألاحظ ثورات الإنترنيت بألم، وأذكر الجزء الأكبر من سني حياتي التي قضيتها منغمسًا بين الكتاب والمدرسة، الجامعة والقلم، الامتحانات وتصحيح دفاتر الطلاب: وهو تيار الوعي الذي انتابني وأنا أستمع إلى إعلان، نصه هو: سجل أبناءك في المدرسة الابتدائية عبر الإنترنيت Online. صدمني هذا الإعلان وأعادني لساعات الخوف والقلق من الذهاب إلى المدرسة وعذابات لحظة النهوض من النوم والاستعداد وتهيئة حقيبة الدفاتر والأقلام أيام الشتاء القارصة، عندما كان المرحوم والدي يسبب لي هذه المكابدات صباح كل يوم من حرصه على مستقبلي، فرحمة الله على روحه في فردوس الأعالي. المهم في هذه الاستذكارات هي الخشية من اضمحلال النظام المدرسي ثم تلاشيه في وقت قادم ما. وبكلمات أخرى، سيكون المعلم إلكترونيًّا، طي شاشة الحاسوب(الكمبيوتر)، بينما تتلاشى الدروس اللاصفية التي كنا نحبها ونحن أولاد صغار كالرسم والرياضة والزراعة، ومعها تختفي، بطبيعة الحال العشرات من المهارات والمواهب التي كانت تطورها هذه الدروس. لذا فإن النظام المدرسي ونظام الحضور الصفي على طوابير المقاعد أمام السبورة والمعلم أو المعلمة، هما نظامان مهمان لأنهما طالما رسخا عادات تفكير وطرائق عقلنة في دواخلنا عبر رحلة التعلم والتنشئة والمحاكاة المستطيلة. والحق، فإني كنت دائمًا ما أسأل معلم الرياضيات عن الفائدة المرتجاة من المسائل الرياضية المعقدة، ومن المعادلات والمثلثات، الجبر والهندسة، فيجيب المعلم طيب الله ذكره، بأنك لن تحتاج إلى هذا كله في الحياة العملية، لا عندما تبتاع الخضراوات أو الفواكه، ولا عندما تلعب كرة القدم مع أقرانك في الحي. إذًا، لماذا وجع الرأس هذا؟ استدرك معلمي بعد لحظات ليقول بأن هذه المسائل الرياضية والحسابية والهندسية تفيدك في تعميق تفكيرك وفي زرع وترسيخ طرائق التفكير المنطقي والعقلاني المتسلسل الذي يعتمد الافتراض والاستنتاج والبرهنة، وإلى آخر قائمة المهارات التفكيرية الذهنية والتأملية التي تمكن المرء من التعامل مع المجردات والأفكار اللاملموسة على نحو عقلاني وعقلي مفهوم من قبل أقرانك من البشر.
ربما كانت تساؤلاتي لمعلم الرياضيات أعلاه أهم أسباب تشبثي بطرائق التدريس والتعليم الكلاسيكية القديمة حتى لحظة خرجت بها من صف دراسي في الأردن، الأمر الذي يبرر تهمة العديد من زميلاتي وزملائي وتلامذتي بأني “معلم رجوعي”، لا أومن بالرياضيات المعاصرة ولا بالتعلم عن بعد ولا بالجامعات من نوع الدراسة على الإنترنيت Online. ولم أزل أطلب من تلاميذي حفظ الشعر عن ظهر قلب كما كان يفعل الشاعر الكاظمي، ولم أزل أطلب الالتزام السلوكي الرفيع عند الحضور في الصف الدراسي وارتداء الملابس اللائقة، خاصة عند حضور المعلم.
بيد أن أصدقاء الماضي (الرجوعيين، من أمثالي) لا بد وأن تزيحهم ثورة التعلم والمعلومات يومًا، ولن يبقى منهم أحد، ربما فقط في الصور الجامعة لغبار الزمن على حيطان المتاحف. نحن جيل مغادر، لا محال. والجيل الجديد سوف يحضر دروسه وهو يرتدي البيجاما ويفترش سريره، أو وهو يأكل ويمضغ “العلكة”، دون أن يتعرض لتوبيخ المعلم، كما كنا نفعل عندما نمسك بطالب لا مبالٍ وهو يلوك العلكة في فمه.
للمرء أن يلاحظ ما تقدم، وهو يتساءل: كيف تهيئ وزارات التربية والمعارف في العالم العربي الأنظمة التعليمية لاستيعاب ركب الإنترنيت الذي سيكتسح مدارسنا وجامعاتنا: هل نحيل الجامعات إلى متاحف أو إلى فضاءات سكن، والمدارس إلى مجالس للاجتماعات، وما حسبنا فاعلين بكتائب المعلمات والمعلمين الذين تضخهم كليات التربية في الجامعات العربية بالجملة؟ إنها أسئلة تستحق التأمل بحق!
703 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع