برغم حذري الشديد ومشيي المتأني للغاية لم أستطع أن أقطع مسافة الثلاثين متراً من الباب الرئيس لكراج النهضة إلى محطة الانتظار الخاصة بسيارات كركوك والسليمانية وأربيل من دون أن يتسخ حذائي على نحو تراجيدي ويتبلل بنطلوني في اليوم التالي ليوم مطير في بغداد.
الكراج، كما العاصمة كلها، كان يوم الجمعة الماضي، وهو يوم سفرنا إلى أربيل، الزميل سرمد الطائي وأنا، في حال لا تسرّ حتى العدو، فمطر أول الشتاء حوّل بغداد إلى مستنقع اختلط فيه الطين بالقمامة الطافية والمياه الآسنة الراكدة التي لا تجد منفذاً لتتصرف.
ونحن في الانتظار قال سرمد: لو يجيء هادي العامري (وزير النقل) إلى هنا ماذا سيقول لنفسه وهو يتذكر الكراجات الفسيحة المرتبة والنظيفة في طهران التي عاش فيها ردحا طويلاً من الزمن؟ بماذا إيران أحسن منا ليكون أهم كراج في البلاد بهذه الحال البائسة؟
ولم تكن الطريق من النهضة إلى حدود العاصمة أفضل حالاً من الكراج أو شارع الشيخ عمر.
في المقابل وفي يوم العودة من أربيل (الأحد) كان المطر ينهمر بغزارة لافتة .. بعض الشوارع تحولت جزئياً إلى جداول يتدفق فيها الماء بقوة وسرعة لكنه لم ينحبس بفضل شبكة التصريف، بيد أن احدهم لم يعجبه أن يتجمع الماء في ذرة الهطول المطري فعلق قائلاً: انه الفساد الذي يجعل شبكة التصريف لا تبتلع المطر في الحال.
مع المطر أصبحت أربيل أنظف وألوانها أكثر إشراقاً بخلاف بغداد التي يكون المطر بلاء عليها كما بلاء الجفاف.
في الطريق من أربيل إلى مصيف صلاح الدين كان سرمد الطائي يسأل السائق باندهاش واضح وهو يلتفت يمنة ويسرة ويشير إلى المباني والمشاريع ومخططات المشاريع: ما هذه؟ مشاريع؟ يجيب السائق بإيجاب متحدثاً عن معامل وفنادق ومجمعات تسويقية. ويعود سرمد ليسأل نفسه هذه المرة: "لعد شبينا؟ ليش ما نصير مثلهم؟ وين تروح المئة مليار دولار سنويا؟".
قلت لسرمد: هل تعرف أن الكرد عندما ثاروا على الحكومات العراقية لم يكن لديهم أي شيء.. لا شيء غير الجبل وبيوت الحجر.. اخترعوا البيشمركة الذين استبسلوا من أجل الحصول على الاعتراف بقوميتهم. الآن لديهم أسباب أكثر قوة للاستبسال. هذا النعيم الذي تفصح عنه الأبنية والمشاريع والشوارع النظيفة والمولات والأمن سيكون دافعاً قوياً لهم للتضحية. ولكن السؤال: عماذا سيقاتل ويدافع الجنود الذين أرسلتهم حكومتنا الى تخوم كردستان ورأينا بعضهم مع دباباتهم في الطريق على مشارف طوزخورماتو؟ أعن بحيرات الطين المخلوط بالقمامة الطافية والمياه الآسنة التي تجتاح مدننا وقت المطر؟ أم عن الكهرباء المقطوعة؟ أم عن الفساد المالي والإداري؟ أم عن البطالة؟ أم عن الحصة التموينية البائسة التي استكثرتها الحكومة علينا؟ أم سوء الخدمات العامة وبخاصة الصحة والتعليم؟
958 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع