اعتدنا منذ زمن بعيد مشاهدة فرق الغوص اثناء قيامها بعمليات الإنقاذ والانتشال في عرض البحر, وكانت في معظمها بإشراف الموانئ العراقية أو ضمن تدريبات سرية الضفادع البشرية التابعة للقوة البحرية,
ولم يخطر على بالنا إن أساتذة جامعة البصرة, الذين يحملون شهادات الدكتوراه والماجستير سيرتدون بدلات الغوص, ويحتذون بأرجلهم الزعانف المطاطية, ويحملون على ظهورهم اسطوانات الأوكسجين, ويغوصون في ظلمات البحر, ليجازفوا في مواجهة أسماك القرش القاتلة, ويتجشموا مشقة الأمواج المتلاطمة ومزاجها المتقلب, فيسبروا أغوار الأعماق السحيقة, ويتعرفوا عن كثب على طبيعة شعابها المرجانية وثرواتها السمكية الغنية بالأنواع, ويواصلوا أبحاثهم تحت الماء على غرار الفرق العلمية التي اعتدنا مشاهدتها في برامج (ناشيونال جيوغرافي). .
كانت مفاجأة كبيرة لي عندما رأيت سفينة الأبحاث التابعة إلى مركز علوم البحار وهي تلقي مرساتها خارج مقتربات خور الخفقة, ثم يقفز منها مجموعة من الغواصين بأجهزتهم الثقيلة ومعداتهم المعقدة, فاتصلت لاسلكيا بربانها (حسين غازي خليفة) للاطمئنان وتقديم المساعدة له ولطاقمه, والاستفسار عن طبيعة المهمة المكلف بها, فعلمت منه إن السفينة تصطحب نخبة من ملاكات مركز علوم البحار في جولة تدريبية تحت الماء. .
لم أصدق ما قاله كابتن (حسين) فليس من المعتاد أن يغوص الأكاديميون إلى الأعماق السحيقة, وليس من السهل أن يغطسوا في جوف البحر, فمثل هذه المهمات الصعبة المحفوفة بالمخاطر يفترض أن تناط برجال الضفادع, أو بفرق الإنقاذ والانتشال البحري, لأنها تحتاج إلى الجرأة والتحلي بروح المغامرة والتحدي, وتحتاج إلى المؤهلات الجسدية العالية, والمهارات الفنية الفائقة في الغوص والسباحة والمطاولة, وتحتاج إلى الممارسة العملية في تحمل تبعات الأنواء البحرية القاسية. .
فاتصلت هاتفيا بالدكتور شاكر غالب عجيل مستفسراً عن المسار الجديد الذي سلكه مركز علوم البحار, فاخبرني أن المركز يحث الخطى الآن لتدريب ملاكاته على الغوص العلمي, ويسعى لتأسيس وحدة متخصصة للغوص, يتحدد دورها برفد المركز بكادر مدرب لمساعدة الباحثين بكل ما يحتاجونه من جمع العينات, والتصوير والمسح تحت الأعماق, وبما يهدف إلى رفد جامعة البصرة بغواصين متخصصين عن طريق الدورات التدريبية المكثفة, وربما سيأتي اليوم الذي تتكفل فيه الجامعة بتدريب فرق الإنقاذ التابعة للموانئ, أو التابعة للمؤسسات البحرية الأخرى. .
يبدو إن مدير مركز علوم البحار الأستاذ الدكتور (مالك حسن علي) قد أعد العدة للنهوض بهذه المهمة العلمية مستفيداً من تفعيل برنامج التعاون العلمي مع جامعة فرايبرغ الألمانية بموجب اتفاقية التعاون الثنائي المبرمة مع المركز عام 2009 لتدريب ملاكات المركز على الغوص العلمي, وتأهيلهم لنيل الشهادات العلمية والمهنية في هذا المضمار, وتضمنت الاتفاقية تقديم الخبرة والمشورة في شراء الأجهزة والمعدات للغوص العلمي تمهيداً لدراسة المشاكل البيئية للمياه الإقليمية العراقية, وإجراء المسوحات الهيدروغرافية لقاع البحر, ودراسة حياة الكائنات الحية باستخدام معدات التصوير تحت الماء, ونصب أجهزة الرصد, وثبيت معدات المراقبة لتسجيل المتغيرات والمستجدات وتحليلها. .
من المؤمل أن تجني هذه الدورة ثمارها في المستقبل القريب, من خلال توسيع دائرة النشاطات الميدانية, التي سيوفرها الغوص العلمي, باعتباره من الاختصاصات النادرة التي سينفرد بها مركز علوم البحار من بين المراكز البحرية العربية في عموم أقطار الخليج العربي وحوض البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر, فالغوص العلمي هو النافذة التي سيفتتحها المركز على العوالم البحرية الغامضة والكائنات الكامنة في الأعماق السحيقة. وستتوسع النشاطات المستقبلية لجامعة البصرة تحت الماء وبالاتجاهات التي تدعم المشاريع النفطية والمينائية في حوض الخليج العربي على وجه العموم. .
بدأت الدورة في الشهر الخامس من عام 2012 ولم تنته حتى الآن, وكانت بإشراف خبير الغوص الألماني الدكتور توماس, ومساعده الدكتور الألماني (سامح وسام المقداد) من أصل عراقي. .
حصل المتدربون على التأهيل العلمي للغطس في الأعماق السحيقة في مبادرة علمية ميدانية غير مسبوقة في حوض الخليج العربي, واشترك فيها: الدكتور شاكر غالب عجيل, والدكتور مصطفى سامي الفداغ, والمدرس المساعد غسان عدنان النجار, والمدرس المساعد مهند كاظم طاهر, ومساعد الباحث أسعد عبد الكريم عبد الحافظ, والغواص عبد الله نزار النصر, والسيد حسين والي زاير. .
مارسوا كلهم الغطس العملي شمال الخليج العربي بين خور الخفقة وخور العمية على مرحلتين, اشتملت كل مرحلة على ثماني غطسات في المياه العميقة, تراوحت كل غطسة من عشرة دقائق إلى ستين دقيقة في أعماق وصل بعضها إلى عشرين مترا, في حدود المياه الإقليمية العراقية. .
انحصرت الغطسات كلها في الساعات النهارية, جمعوا خلالها كميات لا بأس بها من عينات الكائنات البحرية غير المكتشفة من الشعاب المرجانية, وأنواع متباينة من نجم البحر الهش, وواجهوا مخاطر اسماك القرش المفترسة, في مناطق كانت فيها الرؤية تحت الماء محدودة بفعل بقايا الترسبات العالقة.
قاموا بآخر غطساتهم جنوب ميناء البصرة النفطي, في منطقة غير مطروقة وغير مكتشفة, على اعتبار أن معظم مناطق التدريب لفرق الغوص التابعة للقوة البحرية أو لقسم الإنقاذ التابع للموانئ العراقية جرت كلها في مياه أم قصر أو في مياه شط العرب. .
لم يواجه فريق الغوص أي مشاكل حدودية مع زوارق الدورية التابعة لدول الجوار, ولم يواجه أي تقلبات جوية سيئة سوى في بعض الحالات النادرة التي ارتفعت فيها الأمواج إلى ثلاثة أمتار, وكانت فيها سرعة الرياح الشمالية الغربية في حدود عشرين عقدة, ولم يتعرض الفريق للإصابة باستثناء بعض الإصابات الطفيفة التي تمت معالجتها ميدانياً من قبل طاقم سفينة الأبحاث. .
ختاما نبارك لمركز علوم البحار هذه الخطوة العلمية الرائدة, ونسجل للأستاذ الدكتور (مالك حسن علي) إحرازه قصب السبق في هذا المضمار الصعب, ولابد لنا أن نثني هنا على الدور الكبير الذي نهض به طاقم السفينة (الباحث) بقيادة ربانها المتميز الكابتن (حسين غازي خليفة), ومساعده (نعيم مهدي جابر) لتحملهم عبء الإبحار طيلة أيام التدريب العملي, ولوقوفهم خلف فريق الغوص, ومؤازرتهم له على الوجه الأكمل. .
824 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع