د. علي محمد فخرو
من فواجع الوضع الحياتي العربي المتردي عدم ايلاء الاهتمام الكافي بمواضيع العلم والتقانة، سواء من قبل الحكومات أم من قبل المجتمعات. ولا يحتاج الانسان للتذكير بأن بناء وتطوير واغناء مكونات وأدوات هذا الموضوع يعتبر في عصرنا الحالي من أهًّم المداخل للتقدم، وعلى الأخص في حقول الصناعة والزراعة والبيئة والغذاء والصحة والتواصل والأمن الوطني. وبالتالي لم يعد من الممكن الحديث عن الأمن الشامل لأي أمة دون العلم وقوى العلم والتقانة.
نحن هنا نتحدث عن بناء القدرات العلمية والتقانية العربية الذاتية وليس عن استعمال العلم والتقانة التي ينتجها الآخرون، وذلك من خلال الاكتفاء بشرائها أو استئجار من يجيدون نقل تطبيقاتها الى الواقع العربي.
لعل أبرز مايشير الى عدم اهتمامنا ببناء القدرات العربية الذاتية ماكتب عنه الكثيرون مراراً وتكراراً، ونعني به موضوع البحوث ومراكز البحوث وما يصرف عليها في كل بلاد العرب.
فهناك دراسات احصائية كثيرة تقارن بين ناتج مجموع البلدان العربية المترامية من البحوث العلمية المنشورة وبين ناتج بلد مثل كوريا الجنوبية الصغيرة أو الكيان الصهيوني الأصغر أو البلدان الأوروبية الصغيرة الحجم، اذ تظهر تلك المقارنة فوارق كبيرة بين قلة أو ضعف الناتج العربي وبين وفرة وقوة الناتج عند الآخرين.
وبالطبع فان أحد أسباب تلك الفوارق هو ضعف نسبة ما تخصًّصه بلاد العرب للصًّرف على البحث العلمي من ناتجها المحلي مقارنة بنسبة ما تخصصه البلدان الأخرى من ناتجها المحلي. فالبلاد العربية مجتمعة تخصًّص أقل من عشر ما يخصصه مثلاً الكيان الصهيوني للبحث العلمي. ومع الأسف فان دوائر الحكم العربية لا تدرك بعمق أن ذلك يفسر الى حد بعيد القدرات العسكرية والصناعية الصهيونية الهائلة، وليس، كما تعتقد، المساعدات الأميركية المقًّدمة بكرم الى الكيان الصهيوني.
اضافة لذلك الوضع الكارثي للبحث العلمي هناك جوانب نقص كثيرة في التعامل العربي مع العلم والتقانة.
فحتى نتائج البحوث المحدودة والعلماء الذين ينتجونها والمراكز البحثية التي تجري البحوث فيها لايستفاد منها بشكل كاف في تطوير الصناعات والخدمات والمشاكل البيئية والزراعية العربية، وعندما توجد مشكلة في هذه الحقول فان أول ما تفعله الحكومات العربية هو الاستعانة بقدرات الخارج بدلاً من الاستعانة أولاً بالقدرات المحليًّة من أجل أن تقوى وتتطوًّر وتراكم الخبرة. ومع الأسف فان البلدان العربية لم تعط اهتماماً كافياً لتجارب بلدان من مثل كوريا وماليزيا والهند وتايوان في دمج العلم والتقانة المحلية لانماء اقتصاداتها، ما ساهم في رفع قدرات الجانبين : العلم والتقانة من جهة والاقتصاد من جهة ثانية.
ان ما يحز في النفس أن المئات من المليارات قد جرى تخصيصها للتصنيع في بلاد العرب، لكن معظمها قد نفًّذ بقدرات وعمالة الخارج، وبالتالي لم تسهم في بناء القدرات العلمية والتقانية العربية ولا في تطوير ما هو موجود منها.
ولعلً ما يجعل كل بلد عربي يتجه الى الخارج الضَّعف المحزن للتعاون العربي المشترك في حقل العلم والتقانة، فكم قليلة هي المشروعات المشتركة، وكم قليلة هي المؤسسات والجمعيات واللقاءات العلمية المشتركة، وكم قليل هو التواصل والتعاون والتفاعل بين علماء العرب.
ويبرز الضعف في الرغبة في التنمية العربية العلمية الذاتية حتى في حقل التثقيف العلمي من خلال وسائل الاعلام العربية . فمؤسسات الاعلام العربي تشتري وتبث البرامج العلمية التي أنتجها الآخرون للتعامل مع بيئاتهم وحاجاتهم، والتي في الكثير من الأحيان لا صلة لها بواقع ومحيط الانسان العربي، وذلك بدلاً من الطلب من جهات علمية أو بحثية عربية لتنتج برامج علمية تثقيفية تربط الانسان العربي ببيئته وقضاياه المعيشية وتحسن وعيه العلمي لحل قضاياه الحياتية وفي الوقت نفسه لربطه بالتطورات العلمية والتقنية في العالم.
ويشعر الانسان بالاحباط وهو يرى العلماء المبدعين غير العرب وهم يتصدرون شاشات التلفزة العربية بينما ينزوي العلماء المبدعون العرب وراء ظلال التهميش والتجاهل.
وحتى الآن لم ندرك بعد أن بناء وتطوير حقل العلوم والتقانات هو موضوع لا يحتاج الى المال فقط، ولا فقط لحكومات تحتضنه، وانما يحتاج أيضاً الى بيئة مجتمعية تحتضنه وتتفاعل مع علمائه، بما فيها وجود مؤسسات مجتمعية تناضل ليل نهار لتركيز الجهود وللاستثمار الكبير في حقلي العلم والتقانة.
وأخيراً، هناك الدور الهائل الذي يمكن أن تلعبه المدرسة والجامعة في عملية البناء والاحتضان تلك. وهو موضوع واسع ومتشعب يحتاج الى مجلدات لابراز تفاصيل أدوراه المتعددة.
تقدم في السياسة والاقتصاد والأمن والتجديد الحضاري لا يقوم على رافعة العلم والتقانة هو تقدم مؤقت وفي خطر الانهيار، ان لم يكن حديث خرافة.
938 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع