قراءة في تصريح الجنرال اودييرنو.. جدل تقسيم العراق

                                                    

                                 د.هدى النعيمي

اكد رئيس الأركان الأمريكي المنتهية ولايته الجنرال ريموند أودييرنو في آخر مؤتمر صحفي له في البنتاغون في 12 أغسطس/آب الجاري، إن تحقيق المصالحة بين مكونات الشعب العراقي لا ينفك يزداد صعوبة، معتبرا أن تقسيم العراق ربما قد يكون الحل الوحيد لتسوية النزاع، مستبعدا عودة العراق مستقبلا إلى ما كان عليه في السابق. وكان رئيس الوزراء حيدر العبادي قد رد على تصريحات أودييرنو واصفا اياها بغير المسؤولة وتعبر عن جهل بالواقع العراقي.

الدوافع والمحددات

شهد العراق منذ احتلاله في عام 2003، تكريسا للاستقطاب الديني – الطائفي والمناطقي والعشائري، ما اسهم بتشكل دولة السلطة، التي عملت على تقويض الهوية الوطنية الواحدة، عبر إيجاد اقطاعيات طائفية وإثنية تنتشر فيها ثقافة التهميش والترهيب الطائفي والفساد والإفساد.

وفي هذه المرحلة، ومع تصاعد التهديد العسكري لتنظيم “الدولة الاسلامية” وانهيار الجيش واستشراء الفساد في اغلب المفاصل الحكومية، يبدو العبادي في موقف صعب رغم اطلاقه لرزمة من الاصلاحات استجابة لضغط الحراك الشعبي، لجهة تمكن الميليشيات الشيعية من لعب ادوارمؤثرة عسكريا وسياسيا. بعد ان اضحت القوة النافذة المهيمنة في البلاد، كونها جزء رئيس من تلك الدولة العميقة التي اوجدها المالكي في كل المؤسسات خلال دورتين من حكمه، والعائق الأكبر بوجه حكومة العبادي، بقصد افشالها وبيان عجزها.

وليس التحليل القائل بان عمل هذه الميليشيات، انما يراد به تعزيز السياسة الإقليمية لإيران في المنطقة، بالأمر المجانب للصواب، لجهة تحولها الى مجموعات قتالية عابرة للدول تعاضد التمدد الإيراني في المنطقة، وهو ما يوفر نفوذا لطهران في دول تضم اقليات شيعية، ويتبدى ذلك واضحا في لبنان والعراق، وكذلك الحال بالنسبة لنظام الاسد. وبما يحقق لطهران مزيدا من القوة والتأثير في اية تسويات مستقبلية بخصوص مصالحها ومصالح حلفائها.

وما يلاحظ هنا أن الإجراءات الاصلاحية التي اعلن عنها رئيس الوزراء العراقي لم تعالج خروقات الميليشيات الموالية لإيران، ممثلة بعمليات التطهير الطائفي التي تقوم بها في مناطق انسحب منها تنظيم “الدولة الاسلامية”، وعلى الارجح، لن يكون بمقدور العبادي محاسبة هذه الميليشيات، التي تحظى بدعم ومباركة إيرانية، اضحت معهما على قدر من الاستقلالية والتأثير في عملية اتخاذ القرار في البلاد بعدما كفت الدولة يدها عن الملف الأمني الذي تم تسليمه لمليشيات “الحشد الشعبي”.

وبذات المعنى، فان تصاعد عمليات التطهير الطائفي التي قامت بها هذه الميليشيات في المناطق السنّية، يراد بها ترسيخ مشروع إقليمي يؤسس لدول طائفية، لتقوية الجغرافية الشيعية في الفضاء العربي المشرقي، الذي يحتل الشيعة فيه مساحة ضيقة، بما يسمح بكسر الامتداد السني الذي يحيط بإيران في اجزائها الشمالية والشرقية والجنوبية، فالكتلة الشيعية الاثقل في العراق وإيران ما هي في واقع الحال الا اقلية محدودة النطاق، في تكتل  سني واسع. وبالتالي فان اي خطوات اصلاحية تعرقل هذا المشروع ستلقى رفضا، استناداً إلى التداعيات الاقليمية والدولية للاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى، وما يمكن ان تضفيه على مكانة طهران واستراتيجيتها حيال المنطقة.

ومن جهة ثانية، فان مطالب المتظاهرين الداعية إلى محاسبة رئيس الوزراء السابق لفساده واغراقه البلاد في دوامة الطائفية والاحتراب الاهلي، وتسببه بضياع اجزاء كبيرة من الاراضي العراقية، لن تلقى بالا بالنظر لما يشكله المالكي من اهمية على مستوى صيانة المصالح الايرانية، حيث وصفته  وسائل الاعلام التابعة للحرس الثوري بانه أحد أبرز أقطاب جبهة “المقاومة والممانعة” في المنطقة. وينظر له باعتباره رجل طهران القوي في العراق، على الرغم من فقدانه الموقع التنفيذي الأول، إذ يتفوق تأثيره في القرار الحكومي على معظم الشركاء في داخل حزب الدعوة او على مستوى العملية السياسية.

وتأكيدا على ما تقدم، افردت وكالة تسنيم الإيرانية تحليلا عن زيارة المالكي إلى طهران التي بدأها اعقاب قرارات العبادي الاصلاحية في 14 اغسطس/آب الجاري للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للمجمع العالمي لأهل البيت، مؤكدة ان بعض العراقيين لا يريدون قراءة أبعادها على نحو صحيح؛ خصوصا وانها جاءت بعد شهادة المرشد الاعلى بحق رئيس الوزراء السابق، والتي عدتها الوكالة بمثابة تقويم شرعي واستراتيجي دقيق ورسالة واضحة الى بعض الساسة الشيعة بضرورة الكف عن اتهامه، رغم نتائج لجنة التحقيقات البرلمانية حول الموصل، والتي اكدت مسؤوليته عن سقوط المحافظة بيد تنظيم “الدولة الاسلامية”.

والعراق اليوم في مقدمة بلدان العالم من حيث الفساد والرشوة وابتكار الشركات الوهمية والمشاريع التي لا وجود لها إلا على الورق، بحسب تقرير منظمة الشفافية العالمية الأخير الصادر في يوليو/تموز الماضي، وبحسب ما اورده نائب رئيس الوزراء المستقيل بهاء الأعرجي في لقاء متلفز وموجود على موقع “يوتيوب” فان العراق خسر خلال سنوات حكم المالكي الثماني 1000 مليار دولار (تريليون دولار) من دون انجاز يذكرعلى مستوى التنمية والبناء.

وبحسب التقارير الرسمية، كان هناك أكثر من 4600 مشروع وهمي في موازنة العام الماضي، صُرفت مبالغها بالكامل دون تنفيذ، ومن بين المتورطين بهذه المشاريع مسؤولين كبار، سابقين وحاليين في الحكومة العراقية. ” وتأكيدا على ما تقدم قالت عضوة اللجنة المالية في مجلس النواب ماجدة التميمي، إن “الخزينة العراقية شهدت ضياع 228 مليار دينار عراقي ما يعادل 189 مليون دولار امريكي، في مشاريع وهمية خلال عام 2014، كان من المفترض أن تنجزها الجهات المختصة في الحكومة السابقة.”

وبالتالي، ستكون الخطة الاصلاحية التي اطلقها العبادي تجاوبا مع التظاهرات الشعبية التي احتجت على تردي الأوضاع المعيشية للمواطنين وطالبت بوضع حد للفساد في أجهزة الدولة، محفوفة بالمخاطر في مجتمع تأصلت فيه صفة ابتزاز المال، فضلاً عن وجود لاعبين سياسيين متنفذين يرفضون فكرة الخسارة من جراء التغييرات التي ستطرأ على الوضع الحالي.

كما تتضمن خطة العبادي الاصلاحية، المبادرة بإجراء التحقيقات ووضع حد للنظام الطائفي المتبع في اختيار المناصب العليا في الحكومة، وإلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ونواب رئيس الوزراء، وإقالة وزيري الكهرباء والموارد المائية وخفض عدد الوزارات والهيئات لرفع الكفاءة في العمل الحكومي وتقليص النفقات وإصلاح النظام القضائي، وتحرير التعيين في المناصب العليا في الدولة من معايير المحاصّة الحزبية والطائفية.

ولعلها معضلة اخرى تواجه عملية الاصلاح، فالعملية السياسية تعتمد التحصيص الطائفي والإثني، إذ فشل “التحالف الشيعي” في الاتفاق على صيغة ترضي جميع الأطراف، خلال اجتماع عقد في 13/8/2015 وشهد مشادات كلامية بين المالكي والعبادي، بسبب قرارات الأخير التي ألغت مناصب نواب رئيس الجمهورية، ما حمل المالكي على التهديد بتقديم طعن إلى المحكمة الاتحادية، لعدم دستورية الإصلاحات الحكومية التي وافق عليها البرلمان، لتتفق معه عدة أطراف من التحالف مهددين بالانسحاب من العملية السياسية وإثارة الشارع ضد الحكومة بحجة خرقها للدستور.

كما لا يتيح نظام المحاصصة إمكانية وجود اشخاص اكفاء مستقلين من التكنوقراط في مواقع المسوؤلية، خصوصا وان اغلب الزعامات السياسية والدينية والطائفية توحدت حول فكرة محاربة التوجه المدني واصباغ الحكومة بالصبغة الطائفية، ما يعني صعوبة القضاء على التراكمات والمشاكل التي تعاني منها العملية السياسية والتي لن تحل الا بعد مراجعة الدستور وتعديله.

ندلل على ما تقدم، غياب التوافق حول عملية الإصلاح، التي تتضمن مشاريع قوانين رئيسة مثل الحرس الوطني، والعفو العام، وقانون العدالة المساءلة لانعدام الثقة بين الفرقاء السياسيين، وغياب الإرادة اللازمة للتغيير. كما اضحت العشائر السنية تنظر إلى الحكومة المركزية بريبة أكثر من أي وقت مضى، بعد رفض طلبات الأسلحة التي تقدموا بها من قبل إلى الحكومة في محاولتهم صد هجمات التنظيم المستمرة منذ أواخر العام الماضي على الرمادي.

ويضيف توسع الخلاف النفطي بين بغداد واربيل على خلفية التباينات التي تعرض لها الاتفاق الذي جمع الطرفين ووقع العام الماضي، في محاولة لرسم خطوط واضحة وعريضة لآلية استخراج وتصدير النفط العراقي وكذلك توزيع موارده، تبعات على الشراكة بين الجانبين وعلى وحدة العراق واستقراره، فضلا عن جهود الاقليم والمركز في محاربة تنظيم “الدولة الاسلامية”.

ومن جانب آخر فان صراعا كرديا تتصاعد وتائره، يحمل في طياته تنافسا تاريخيا، مع ازدياد قوة الاحزاب الكردية وتنامي دورها الإقليمي ومكانتها الدولية نتيجة صمودها في مواجهة تنظيم “الدولة الاسلامية” منذ يونيو/حزيران الماضي. ما افضى إلى المزيد من التعقيد على المشهد الكردي بحيث تغيرت خريطة التحالفات، باتجاه تشكيل تحالف ضمني بين الاتحاد الوطني في العراق والاتحاد الديمقراطي في سوريا ضد الحزب الديمقراطي وزعيمه البارزاني. ويجد هذا التحالف دعماً من حزب العمال الكردستاني، الذي يساند الاتحاد الديمقراطي في سعيه للسيطرة على جميع المناطق الكردية في سوريا، منذ أن أعلنها إقليماً متمتعاً بالحكم الذاتي في أول ديسمبر/كانون الاول 2013 بعد صدامه المسلح مع قوى كردية أخرى في منطقة رأس العين في يوليو/تموز من العام ذاته.

تقسيم العراق.. مشروع  ترفضه إيران

اعادت التظاهرات التي عمّت العاصمة العراقية ومدنا أخرى منددة بفساد الطبقة السياسية في البلاد، الحديث عن الوضع السياسي والتركيبة الطائفية التي هيمنت على المجتمع واثرت في معادلاته المتنوعة، وامكانية إيقاع التأثير الجاد في أنماط سلوك صناع القرار العراقي تأمينا لمطالبها في التغيير. سبقها حديث عن تقسيم العراق تداولته نخب فكرية وسياسية غربية من بينها الجنرال اودييرنو المرشح لمنصب هام في الادارة الامريكية، بالنظر لجولات من الصراعات الاهلية التي نشبت اعقاب عام 2003، لتعيد حديث التقسيم إلى المشهد السياسي.

ويدعونا استقراء الواقع العراقي إلى عدم المبالغة في التعويل على احداث تغيير حقيقي وتحول شامل رغم الاصلاحات التي طرحها العبادي ضد الفاسدين من حزبه ووزارته. ولعلنا ندرك تأثير الولاءات الفرعية التي ترسخت في العراق منذ عقد من الزمان، مصدعة النسيج الوطني، إذ اضحى المواطن اسيرا لميوله المذهبية التي تتلاعب بها القوى السياسية والدينية، من خلال اعلاء الانتماء الطائفي على الوطني، ليكون شريك الوطن عدوا ومتحالفا مع الارهاب، ما يقتضي استئصاله، ليكون الحديث حول إعادة الاصطفاف السياسي بما يفرز واقعا سياسيا جامعا صعب التحقق. ومع هذا، فان مناخا على هذا النحو قد يكون سببا للمطالبة بتفعيل الإدارة الفيدرالية بالنظر للتقاطعات والخلافات، التي نتج عنها غياب الثقة المجتمعية وطغيان مفهوم الجماعة القائل بالفروق والمظلوميات على المجتمع الواحد براوبطه القانونية الجمعية.

ولعل ما اوجدته منظومة الأفكار والرموز والطقوس التي غرستها الجماعة مع تأثير مدخلات الفقر والتخلف، انما هو تكريس لواقع لا يسمح الا برؤية احادية لا يشك في صدقيتها، وما دونها يعد مصطنعا، فالتوظيف السلطوي والسياسي للطائفة الشيعية، افسح لها المجال للتحكم في تسيير الاتجاهات السياسية في البلاد، لتغرق في سياسات الانتقام والعنف، وبما يجعل الآخر خاضعا لها، غير مستعد لمعارضتها، خشية من العقاب.

وبالنتيجة، فان الاتجاه نحو تقسيم العراق الذي توقعه اودييرنو، لن تقبل به إيران ذات النفوذ الاكبر في البلاد، وهي بذلك تنقلب على لغة الهويات التي دفعت باتجاهها عند كتب الدستور عام 2005 . ويضمر هذا الموقف بعدا مصلحيا استراتيجيا، إذ يشكل غرب العراق، حيث الاغلبية السنّية معبرا ورابطا بين طهران وحلفائها، وسيفضي التقسيم إلى قطعه ومنع اكتمال هلاله الشيعي، ومن جهة ثانية فان الساسة السنّة قدموا مصالحهم الشخصية وقبلوا بمزايا منحت لهم، دون ابداء مواقف تراعى فيها مصالح ناخبيهم، ما يعني توافقهم مع الرؤية الايرانية، التي تريد الهيمنة على العراق رزمة واحدة غير مجزأة.

ومع هذا، فان الدولة العميقة ماتزال تتحكم بمسارات الأمور، وقد تفضي المظالم المتراكمة في مجتمع يتسم بالقلق وعدم الاستقرار، إلى المزيد من الضغط الشعبي والحراك الوطني المؤثر، ليكون مدخلا لتعامل حضاري حداثي يعيد تشكيل المشهد السياسي.

ربما ..ما زلنا نعيش الامل..

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1275 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع