دلع المفتي
هناك روايات ما إن تنتهي من آخر صفحة منها حتى تنسى ما قرأته، وهناك روايات تتلبسك، تسكنك، وتلاحقك. هذا بالضبط ما حصل معي مع رواية «خرائط التيه» لبثينة العيسى.
كنت أمشي في الحرم الشريف وأسمع صوت سمية وهي تصرخ «مشاري»، باحثة عن ولدها الذي فقدته بين ملايين الحجاج. وكلما رأيت طفلا تائها وددت لو أحضنه وأخفيه عن أعين ذات القفازات البيضاء التي خطفت مشاري. رأيت سمية وفيصل ومشاري وسعود وحتى جرجس حول الكعبة يركضون في هلع. هكذا أضاعتني خرائط بثينة.
عندما يحب الإنسان أمرا ما بشغف، يبدع. وهذا بالضبط ما تفعله بثينة وما فعلته في روايتها الأخيرة «خرائط التيه» الصادرة عن الدار العربية للعلوم، ناشرون.
كتبت بثينة من قبل، وانتشرت رواياتها محليا وعربيا ونالت العديد من الجوائز على إصداراتها، لكن بثينة كاتبة ذكية، وفي كل اصدار جديد لها خطوة نحو الافضل تشعر بها فوراً، فالتجربة التراكمية للكاتبة جعلت رواية خرائط التيه تصلنا بأسلوب روائي ناضج ولغة جميلة وحدث يركض ليركض القارئ خلفه وهو يلهث.
«كان كل شيء على ما يرام».. كان... ثم تاه مشاري، وتاهت أمه وتاه أبوه، كل في متاهات مختلفة، فالحياة تسير على ما يرام إلى أن يأتي الحدث الذي يضع الخط الفاصل بين -ما قبل وما بعد- اللحظة الفارقة. بين السعودية والكويت ومصر واثيوبيا، تأخذك الكاتبة في رحلة عبر الطفولة المعذبة، العنصرية، الاتجار بالبشر، ورحلة النفس بين الشك واليقين، بحثا عن الإنسانية، عن الحب، عن بساطة العيش في لحظات تمر بنا ولا نقدرها إلا بعد أن نخسرها.
رواية مؤلمة حد الوجع، حزينة حد البكاء، مرهقة، تستنزف الأعصاب وتجعلك تتساءل ما هي القيمة الحقيقية للإنسان في هذه الحياة؟ «ماذا لو كانت قيمة الإنسان ميتا أعلى منها حيا؟».
استمتعت بكل كلمة في الرواية، إلى أن وصلت الى الفصل الحادي عشر والثالث عشر، هنا فقط تملكني شعور بـ «التيه» أيضا. فبينما استمر الأب بالبحث عن ابنه في سيناء- مصر، كنا نحن القراء نعرف أن الطفل لا يزال في السعودية. هنا فقدت بثينة حبل التشويق، إذ كان من الممكن ترك هذا الاكتشاف لما قبل نهاية الرواية واختزال الفصلين، ليعود القارئ للبحث عن مشاري حيث كان.
رواية خرائط التيه دخلت «لجنة» في وزارة الإعلام الكويتية، والتحقت بزميلتها رواية سعود السنعوسي «فئران أمي حصة» التي ما زالت في أدراج اللجنة منذ شهور، مما يعني أنها غالبا ستمنع من قبل الرقابة، فاسعوا إليها في «كل» الدول العربية.
راهنت على بثينة العيسى عندما تعرفت عليها منذ سنوات، منذ أن كانت صبية تداري ضحكتها خجلا بينما تندفع بكل جرأة عندما تناقش قصيدة أو نصاً. قلت إنها ستصبح أديبة الكويت القادمة، وها أنا أكسب رهاني.
1432 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع