سيف الدين عفانة
في الخريف، البرد القارس يدفعني إلى الكتابة.. والفراغ. ففي الخريف تغيب الشمس سريعا كما يغيب الأصدقاء .. وأختلي بنفسي قسرا. فأكتب أو أقرأ أو أستمع إلى برنامج حول آثار الحضارات الإنسانية التي أبقت لنا أكثر مما نستطيع اليوم أن نطلع عليه بكثير ... أقفز بين الكتابة والقراءة .. بين التزود بالمعرفة والفنون وبين محاولة تشكيل وولادة ما أسميه إبداعا.
في الخريف يبرد كل العالم تقريبا ويتوقد جسدي. يشتعل قلمي فأحمل حطب أفكاري قاصدا وحدتي علّني أدفأ العالم معي قليلا.
وفي هذا الخريف رأيتها. في بدايته. وعند إشارة المرور كانت شرارة نار الكتابة قد أخذت طريقها إلى حطبي.
اليوم رأيتها بعد سبع سنين عجاف ثقال مروا دون أن أشعر بالراحة ولا بالتعب. لم أشعر خلال تلك البقعة السوداء من حياتي بالمحبة أو الكره، بالجوع أو الشبع. كان كل شيء عندي بلا قيمة. عشت سبعا لياليهم صباح ومساءهم بؤس وصباحهم آخر لحظات الثمول.
أقول عشت زورا. فكيف يعيش من لا يحب أو يكره ولا يحَبّ أولا يُكره؟
عند إشارة المرور توقت سيارتي العجوز إذن اليوم. والسحاب يبكي بؤس هذا العالم بتؤدة. وبما أني تعلمت حين سافرت إلى سويسرا العام الماضي أن المواطن الذي لا يحترم إشارة المرور لا فرق بينه وبين البطة الضائعة قررت الانتظار وسط صف من السيارات الغاضبة. أشعلت سيجارتي المهربة عير حدود الجزائر وانطلقت أبعثر الدخان في حركاتي المجنونة المعتادة مميلا رأسي من اليمين إلى اليسار والعكس باعثا سحبا من الدخان لا تكفي لثقب طبقة الأزون ولذلك لا أكترث لها.
وبين السحاب المبعثر داخل سيارتي العتيقة ترائى لي وجه لا أعرف في حياتي غيره. ولأني لم أزل شابا حسب بطاقة تعريفي الوطنية استبعدت أن أكون قد أصبت بالجنون الفعلي. ولأن الشمس تكاد تغرب تفطنت إلى أني لست سكرانا ولا ثملا... ولذلك تساءلت في نفسي عن حقيقة ما أرى. أتكون هي التي تقود تلك السيارة الحمراء؟ العينان عيناها والشفتان شفتاها والخد الأيسر الوردي لا يمكن أن يكون إلا خدها ويدها اليسرى التي مسكتها احدى عشر سنة وقبتها عشر سنوات وعانقتني تسعا ولعبت بشفتاي ثمان وباتت على صدري سبعا... لا يمكن أن أنساها ما حييت.
هي أميرة، تلك الطفلة التي ولدت على يدي امرأة ثم كبرت لتصبح أجمل طفلة أحملها على كتفي ثم اختفت كالحلم لما أفقت على صوت طبول الفشل. تلك التي طردتها وأخرجتها بدي من قلعة حياتي التي ضربها البؤس والخوف. تلك التي خرجت ولم تعد فحملت معها كل أحلامي التي لم أعد أذكر منها غير فتات لازلت أصارع من أجله. تلك الجميلة والرقيقة والحنون. تلك القصيرة التي لا أشعر إلا أمامها أنني مازلت طفلا ولا أشعر إلا معها أني مطمئن ولم أدرك إلا من خلالها حاجة الرجل اللامتناهية إلى صدر امرأة.
إلى اللقاء في الجزء الثاني و والأخير (الأسبوع المقبل) مع الشكر
1390 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع