أ.د. محمد الدعمي
على الرغم من وجود عدة جماعات سرية يوحدها إطار معارضة مؤسسات الدولة، لم تظهر جماعة سرية بدرجة “إخوان الصفا” Brothers of Purity في تعقيد تنظيمها وكتمان عملها وغموض أهدافها.
من ناحية عضوية هذه المنظمة، ارتقى “إخوان الصفا” بأنفسهم فوق أنواع المعتقدات والأديان والطبقات الاجتماعية، زيادة على ارتقائهم بأنفسهم على ما ينسب إليهم، حصرًا، من صفة إسماعيلية محدودة، وهي الصفة التي ربما اكتسبوها عبر مرحلة تأسيسها كي ترادفها مذاك حتى هذا اليوم. لقد نزع “إخوان الصفا”، كل ما يشير إلى شخصية طائفية محدودة من خلال كسبهم أطيافًا اجتماعية متنوعة واسعة للغاية من الأعضاء المنحدرين من جميع مضامير الحياة والاختصاصات والمستويات الطبقية، درجة اضطرار المرء إلى تشبيهها بأشهر المنظمات السرية في التاريخ. لقد جسد إخوان الصفا السرية والكتمان على نحو مثير للدهشة بحق، خاصة في توكيدهم على كتمان طقوسهم وسرية تنظيماتهم زيادة على إخفاء هويات الأعضاء. بل ولا يقل أهمية عن ذلك هو توكيد إخوان الصفا على الآصرة الأخوية الناتجة عن الانضمام إليها، تلك الآصرة التي كانت تجمع أعضاءها سوية برباط شبه مقدس، بغض النظر عن التنوعات الإثنية والتباينات الدينية والطبقية، بضمن هرمها التنظيمي الداخلي المعقد. وقد شكل هذا الهرم نسخة موازية لسواها من المنظمات السرية العالمية لأن درجاته تبدأ من درجة “الصانع” أو “الحرفي”، أدنى الدرجات، صعودًا إلى درجة “الأنبياء والفلاسفة”. وبينما يمكن لأي شخص راشد (خمس عشرة سنة فما فوق) أن ينظم إليها، صانعًا، شريطة تميزه بالصدق والمحبة، فإن درجة القمة، وكما يعكس عنوانها ذلك، هي حكر على الشواخص التاريخية العظيمة كالأنبياء والفلاسفة الكبار، من عيار العباقرة ممن تركوا آثارهم على التاريخ الإنساني.
الوثيقة الوحيدة التي خلفها إخوان الصفا للأجيال اللاحقة هي عمل فكري عملاق مكتوب، عماده عدد من المباحث والمقالات الفكرية والجدلية، أطلق على كل واحدة منها عنوان “رسالة”، مؤلفة بمجموعها كامل الكتاب الموسوم بـ(رسائل إخوان الصفا)، الذي سنختزل الإشارة إليه بلفظ (الرسائل). لنلاحظ مبررات ما أذهب إليه من تشبيه إخوان الصفا بالمنظمات السرية العالمية، ومن أهمها أن هذه (الرسائل) التي نجهل مؤلفها أو جامعها تقدم مسحًا لنوعية أعضاء هذه الجماعة التي يلفها الغموض. هذا هو الاستعراض المهم الوارد في (الرسائل) ذاتها. يذكر هذا النص المهم أن عضوية إخوان الصفا تجمع الملوك والخلفاء والأمراء والسلاطين والقادة والوزراء والإداريين وجباة الضرائب والضباط والنبلاء، زيادة على خدم الملوك. وإذا كانت أغلب العناوين الواردة أعلاه ذات صلة بالدولة والحكومة، فإن القائمة التالية تشير إلى أن من بين أعضائها، كان هناك التجار والصنعة والمزارعون ومربو الماشية والبناؤون والإقطاعيون والأغنياء من ذوي الجاه والنبلاء من أهل الفضل. زد على ذلك أن كاتب (الرسائل) المجهول، وفي سبيل التعريف بنفوذ المنظمة، يشير إلى أن من بين المنتسبين إليها تجد كذلك الخطباء والشعراء والباحثين المتمنطقين ورجال الثقافة والفقهاء والمساحين والمنجمين والفيزيائيين وعلماء الطبيعة ومفسري الأحلام والخيميائيين، زيادة على سواهم من أصحاب التخصصات.
إذا لم تكن هذه القائمة المطولة من عناوين ومهن أعضاء “إخوان الصفا” كافية للاستدلال على افتراض صلتها أو تشابهها بالمنظمات السرية التاريخية، فإن مجهولية أسماء أفرادها تقدم دليلًا آخر على ما أذهب إليه في هذا السياق. ربما كان في عنوان هذه المنظمة “الأخوية” المطول ما يؤكد ملاحظتي في أعلاه نظرًا لغموض دلالاته وغيميتها: “إخوان الصفا وخلان الوفا وأهل الحمد وأبناء المجد”، فمن يكون هؤلاء؟ إنه لسؤال مضن بحق. وللموضوع بقية.
1129 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع