عبدالقادر القيسي
كان مجلس النواب العراقي صوّت، يوم الاثنين 14/9/2015 الماضي، على قرار يلزم وزارة الاتصالات بحجب المواقع الإباحية، التي هي ليست أكثر اباحية من مشاهد القتل والاختطاف والابتزاز الذي تمارسه المليشيات جهارا نهارا ومعها داعش، المواقع الاباحية لا علاقة لها بقيادة عمليات بغداد التي لا تمتلك الحماسة الفائقة وتتنحى جانبا عندما تمر ارتال المليشيات لتخطف(18عامل تركي ووكيل وزارة وحمايته وغيرها) وبعدد من السيارات المضللة ويمرون من امام سيطرات عمليات بغداد ومفارزها الاستخبارية ويتنقلون بالمخطوفين بين المحافظات، ولا علاقة لها بالشباب الفاقد لأي امل بحياة كريمة والدليل انهم هاجروا قبل حجبها، والقرار من اغرب القرارات، ودوران في حلقة مفرغة لعدة اعتبارات، منها:
الاعتبار الأول/ لم يكن موفقا في التوقيت: فيما الشعب يتظاهر من اجل الخدمات وهناك هجرة لشباب العراق تجاوزت مئات الالاف، وكأن الشباب العراقي لا هم له غير مشاهدة هذه المواقع وتناسوا ان الشعب يعاني من الفساد والفقر وضعف الخدمات ويعلوا مشهده اليومي تجوال مليشيات مسلحة بسيارات حكومية تمارس عمليات القتل والخطف والابتزاز، ونستغرب التعامل الناعم او الخجول او المتحفظ من ممثلي الشعب في التردد بإدراج مسالة المليشيات وتغولها في المشهد الأمني اليومي بكامله او عدم إدراج قوانين حيوية تحارب الفساد وتحاول استرجاع المبالغ المسروقة من خلال التصديق على الاتفاقيات الدولية الخاصة بمحاربة الفساد ليتسنى لنا ارجاع الأموال المسروقة بصورة قانونية، ان مجلس النواب يتغافل مطالب المتظاهرين ويصدر قانون محاربة الضوضاء وكأن الشعب ثائر بسبب الضوضاء، ويصدر بعد ذلك قرار بحجب المواقع الإباحية؛ فهذا السلوك أصبح غير مقبول في زمن المساءلة المجتمعية والشفافية والمكاشفة، وغير مقبول من مجلس تنعقد كل الآمال عليه في الانتقال من الاصلاحات السياسية والتشريعية الشكلية والتجميلية، الى اصلاحات حقيقية يلمسها الشعب.
أوقفوا الفساد وعمل المليشيات ونشاطاتها والتي لها مقرات واضحة وتقلق المواطن وبات من الضروري تشريع قانون للتصدي لها أفضل من تشريع قانون حماية الحيوانات الفطرية، دعوا الامن يستتب والامور تستقر والاراضي تتحرر وقرروا مثل تلك القرارات، اما ان تقرروا في وقت المحن قرارا هزيلا وبراي الشعب انه يثبت انكم أكثر ضوضاء من قانون محاربة الضوضاء.
الاعتبار الثاني/ اعتبارات دستورية: ان الدستور العراقي النافذ أكد على حرية التعبير والراي والاختيار والمعتقد طالما ان ما يقوم به الفرد لا يعارض القانون، وبالتالي أي تقييد لتلك الحرية تحتاج الى قانون وليس قرار، ان فكرة الحجب بصورة عامة، لأي حرية او قيد على أي حق، هو ان تقوم جهة سيادية باتخاذ قرار يحدّ من وصول المواطن الى مواد مقروءة، مسموعة او مرئية على النت، وبالنتيجة يحتاج ذلك الى تشريع قانون وليس قرار فاقد لقوته الالزامية، والقانون لابد ان تكون به تعاريف ومحددات واستثناءات وتفاصيل وعقوبات لمخالفي القانون، والا من غير الممكن ان يتعرض شخص للمسائلة القانونية وهو يكون قد شاهد لقطة لا تتعدى نصف الثانية أرسلت الى موقعه عن طريق التهكير ومن غير المعقول ان نساوي بين هذا الشخص وبين من يمتلك مركز لعرض المواقع الإباحية، فلا بد ان يكون هناك تشريع لغرض تفصيل هذا الحجب وإعطاء تعريفات، ما هو الاباحي من غير الاباحي، لاسيما هناك مواقع اخبارية ومواقع مختصة بالإعلانات فيه دعايات وملصقات وصور اباحية، بخاصة المواقع التي تتعامل بالمنشطات الجنسية كالفياغرا وكثير من المسائل الاخرى لابد أن يعالجها القانون بالتفصيل الوافي؛ والا عُد مجرد محاولة لممارسة الوصاية الاخلاقية على الشعب، ولا احد في العراق عنده هذه السلطة دستوريا، وقرار البرلمان ليس فيه أي الزامية لأي من السلطات العامة وللمراجع القضائية، والالزامية تعني من الوجهة القانونية نفاذ هذه القرارات بمواجهة الكافة.
ان الدستور العراقي النافذ لم يتعرض لسلطة مجلس النواب في اصدار القوانين العادية والتفسيرية، لكن الفقه الدستوري اتفق بان للسلطة التشريعية ان تصدر نوعين من القوانين، قوانين تنظيمية وقوانين تفسيرية وهي تشريعات تصدر لتفسير نص في قانون أصلي صدر منها سابقا إذا ما شابه اللبس والغموض او كانت هناك مشكلة في تطبيقه او تفسيره، وانه يعد قانون شأنه شأن اي قانون اخر، فله القوة الالزامية ولا يمكن للجهات التنفيذية تجاوزه او الامتناع عن تنفيذه وملزم لجميع السلطات.
فالسلطة التشريعية يجب ان تكون مقيـّدة بالقواعد التي رسـّخها لها الدستور ولا تخرج عنها ليبقي لنفسه قيمته الذاتية ليحفظ روحية دولة القانون.
الاعتبار الثالث/ اعتبارات قانونية: القرار ليس له قيمة الزامية تجاه السلطات كافة:
لقد بينا في مقال سابق عن ان حجب المواقع الإباحية لا يحتاج الى تشريع قانون وانما عن طريق الادعاء العام او إقامة دعوى قضائية من خلال احدى النقابات او الاتحادات، وكتبت مقالتي السابقة عندما ظهر في الاخبار نية مجلس النواب تشريع قانون لحجب المواقع الإباحية ولم يدر في خلدي انهم يقصدون اصدار قرار وليس تشريع قانون، وذلك والله لأمر مؤسف، ان مجلس النواب يعرف انه لا قيمة الزامية لقراراته ومن خلال قرار المحكمة الاتحادية العليا(سنبينه لاحقا)، ويعود يكرر نفس الموال بطريقة غاياتها سياسية اكثر مما هي نفعية وطنية، وان موقفنا الأخلاقي والديني يحتم غلق المواقع الإباحية، واني ذكرت في النقطة السابقة أمور تتعلق بفكرة الحجب أولا قبل فكرة حجب المواقع الإباحية، من ناحية دستورية.
ان مجلس النواب يعلم بان لا قيمة لأي قرار يتخذه المجلس وانه مجرد مضيعة لوقت البرلمان وابتعاد عن هموم وماسي المواطن، لاسيما ان كتاب مجلس النواب للمحكمة الاتحادية العليا(شؤون اللجان/ المرقم (1/9/4429) في 9/5/2012) والمتضمن؛ ((ان القرارات التي تصدر من مجلس النواب تجد سندها في الدستور وخصوصا في المادة (138/خامسا) منه، وان عبارة القرارات الواردة في هذه المادة جاءت مطلقة وتشمل كل القرارات ولا تخص ما ورد في المادة (61/ثالثا/خامسا/سادسا/ثامنا/أ- ب) من الدستور، وان هذه القرارات التي يصدرها مجلس النواب هي قرارات ملزمة للسلطة التنفيذية)) انتهى الاقتباس.
وقد اجابت المحكمة الاتحادية العليا على كتاب مجلس النواب بالدعوى المرقمة 28/اتحادية/2012 بما يلي(( لدى التدقيق والمداولة من المحكمة الاتحادية العليا بجلستها المنعقدة بتاريخ 30/5/2012 وجد ان بالطلب وبعد استعراضه عدد من الوقائع انصب على تفسير المادة (138/خامسا) من الدستور , ولدى الرجوع الى البند (خامسا) منها .. وجد ان هذا البند بفقراته (أ,ب,ج) يتعلق برسم الية ارسال القوانين والقرارات التي يسنها مجلس النواب الى (مجلس الرئاسة) وبكيفية تصرف (مجلس الرئاسة) بهذه القوانين والقرارات اما بالتصديق (الموافقة) او بعدم الموافقة واعادتها الى مجلس النواب لإعادة النظر فيها في ضوء النقاط التي يثيرها (مجلس الرئاسة)، وتجد المحكمة الاتحادية العليا من قراءة البند (اولا) من المادة (138) من الدستور ونصها ((يحل تعبير (مجلس الرئاسة) محل تعبير (رئيس الجمهورية) اينما ورد في هذا الدستور، ويعاد العمل بالأحكام الخاصة برئيس الجمهورية، بعد دورة واحدة لاحقة لنفاذ هذا الدستور) وبناء عليه فأن الاحكام الواردة في المادة (138) من الدستور ببنودها ومنها البند (خامسا) احكام انتقالية اقتضتها مرحلة (الدورة الاولى) لمجلس النواب وانتهت بانتهائها ولا يمكن سحبها على المراحل اللاحقة للدورة الاولى لمجلس النواب وبعدما اخذ رئيس الجمهورية يمارس صلاحياته المنصوص عليها في المادة (73) من الدستور وليس من بينها الاعتراض على القوانين والقرارات التي يشرعها مجلس النواب)) انتهى الاقتباس.
والاجابة واضحة ولا يحتاج مجلس النواب الى تكرار موضوع اصدار قوانين مستندا على مادة رسمت شكلية ولم تعطي صلاحية اصدار قرارات لها قوة الزامية، ولنا على كتاب مجلس النواب والقرارات التي يصدرها، ثلاثة استدراكات إضافة لقرار المحكمة الاتحادية العليا، وهي:
الاستدراكة الاولى / لقد اقر الدستور العراقي النافذ نظاما دستوريا برلمانيا قائما على توزيع السلطات واحترام كل سلطة اختصاصات ومهام السلطة الأخرى، وحدد مهام مجلس النواب في المادة (61) من الدستور ب(تشريع القوانين الاتحادية، الرقابة على أداء السلطة التنفيذية، انتخاب رئيس الجمهورية، الموافقة على تعيين رئيس واعضاء محكمة التمييز الاتحادية ورئيس الادعاء العام ... الخ بالإضافة الى اصدار القرارات والتي وردت ضمن مواد عديدة) ولم يشر من قريب او بعيد الى صلاحية مجلس النواب باتخاذ قرارات لها قوة القانون (أي اصدار قواعد عامة مجردة بعنوان قرارات تتضمن قواعد عامة تلزم الحكومة بتنفيذها) بحيث تشابه من حيث القوة القانونية مع ما كان يصدر من مجلس قيادة الثورة المنحل من قرارات، ولما كان الدستور يعد القانون الاعلى والاسمى في البلاد، يعد باطلا كل نص يتعارض معه، وبخاصة ان القرار ادنى مرتبة من القانون فتكون القرارات المخالفة للدستور باطلة بحكم الدستور ومنها قرارات مجلس النواب، ونشير بهذا الصدد لقرار مجلس شورى الدولة رقم (13/2008) في (5/11/2008) المؤيد لما سبق وصفه .
الاستدراكة الثانية/ ان (البند الخامس) من المادة (138) من الدستور التي يستند اليها مجلس النواب في اصدار قراراته نصت على شكلية؛ حيث اوجبت ارسال القوانين والقرارات التي يسنها مجلس النواب الى مجلس الرئاسة لغرض الموافقة عليها والان اصبح رئيس جمهورية وانتهى العمل بمجلس الرئاسة، وانتهت معها صلاحية مجلس النواب في ذلك، مع العلم ان هذه الصلاحية لا تبيح لمجلس النواب اصدار قرارات لها قوة القانون، والقرارات المقصود بها هي القرارات المحددة حصرا في المادة (61/ثالثا/خامسا/سادسا/ثامنا/أ- ب) من الدستور استنادا لأحكام البند (ثانيا) من المادة(93) من الدستور والمادة (5) من النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا، والتي يتم نشرها بالوقائع العراقية استنادا لقانون النشر رقم (78) لسنة 1977 المعدل ، وبالتالي ان القرارات مثل حجب المواقع الإباحية وقبله إحالة جرائم داعش للمحكمة الجنائية ومنع الأجهزة الأمنية من مطالبة النازح بكفيل للدخول الى بغداد وقرار اقالة مفتش وزارة الصحة وحل لجنة شؤون النازحين وغيرها من قرارات ليس لها قيمة الزامية ولم تجد طريقها للتنفيذ لدى السلطة التنفيذية، وبالتالي تعد فاقدة للمشروعية أساسا، وهو ما يفرغها من ثقلها الدستوري وقوتها الإلزامية.
الاستدراكة الثالثة / ان أي قرار او مشروع قانون الذي يرتب التزامات مالية، والذي يقوم بإيفاء تلك الالتزامات وبموجب اعتمادات ترصد بالموازنة العامة هي السلطة التنفيذية دون سواها من السلطات، ونشير بذلك لأحكام المادة (80) من الدستور، والدستور حدد الجهات المعنية بتقديم مشاريع القوانين ب (رئيس الجمهورية، مجلس الوزراء) ولم يرد فيه نصا يخول مجلس النواب اصدار قرارات تلزم السلطة التنفيذية بتقديم مشاريع القوانين تتضمن تنفيذ تلك القرارات فان الاخيرة غير ملزمة بتنفيذ قرارات مجلس النواب الا في حالة تماشيها مع سياسة السلطة التنفيذية التي اقرها مجلس النواب ابتداءا وقد جاء قرار المحكمة الاتحادية العليا بموجب قرارها المرقم (44/اتحادية/2010) مؤيدا للتفسير أعلاه
الاعتبار الرابع/ اعتبار فني: أن الجهات المعنية في العراق لن تتمكن من السيطرة على حجب تلك المواقع، لضعف التقنية المطلوبة في حجب هذه المواقع لكثرتها، وأن عملية الحجب ستكلف ملايين من الدولارات والبلد يمر في ازمة اقتصادية ومالية صعبة؛ ولن تكون مجدية اذ أخفقت في هذا السبيل دول عديدة، كونها لا تمتلك التقنية المطلوبة.
وفي الأخير: ان سير مجلس النواب في هذا الاتجاه سيؤدي الى تآكـل النظام الذي تقوم عليه الدولة العراقية، ووضع دولة القانون على المحك عندما يصار الى تقزيم المبادئ التي يجب ان يعتاد عليها الشعــب، ويؤدي الى تقطيع أوصال دولة القانون لتحقيق نزوات سياسية فيها من المصالح ما يخفى.
1140 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع