الدكتور: أكرم عبدالرزاق المشهداني
في البدء نعزي الأمتين العربية والإسلامية بالفواجع التي حصلت في موسم الحج لهذا العام والتي أودت بحياة المئات من الحجاج، تغمد الله الشهداء بواسع رحمته ومغفرته وكتبَ السلامة والشفاء العاجل للجرحى والمصابين، ولا حول ولا قوة الا بالله العظيم، وكان الله في عون سلطات الحج على هذه الحوادث المؤسفة والمؤلمة. ونسأل الله أن يوفق سلطات إدارة الحج والعمرة إلى تلافي أية سلبيات يمكن أن تؤدي لكوارث أخرى لا سمح الله.
كارثتان مؤلمتان:
لم يكد المسلمون يستفيقون من هول المُصيبة بعد الحادث الأليم الذي أدى إلى مقتل عشرات الحجاج في المسجد الحرام بمكة المكرمة، نتيجة سقوط رافعةٍ ضخمة عليهم، في يوم من أيام الحج شهد زوابع ورياح شديدة، وطقساً خريفياً غير متوقع، أحدث اضطراباً كبيراً، وتسبب في فوضى مريعة، أثناء وجود الحجاج عند المسجد الحرام وقرب الكعبة المشرفة بين صلاتي العصر والمغرب، حتى منوا بفاجعة مقتل المئات من حجاج بيت الله لحرام، دهساً بالأقدام، وخنقاً تحت الأجساد، نتيجة التدافع المحموم، والاستعجال غير المبرر، ومخالفة تعليمات سلطات الحج والأمن، والسير عكس الاتجاه، وعدم الوعي والدراية، والاستخفاف وغياب الحكمة، أو نتيجة الإهمال وعدم اليقظة، أو قلة الخبرة وضحالة التجربة، أو التساهل وعدم المسؤولية، والتوكل وعدم الأخذ بالأسباب، أو غير ذلك من الأسباب الكثيرة التي قد تفضي عنها نتائج التحقيق في الحادث الأليم.
مصاب جلل:
ولاشك أنها فاجعةٌ أليمةٌ ومصيبةٌ عظيمة، تلك التي أصابت المسلمين في جميع أنحاء العالم، وألَمّت بهم، خلال موسم الحج لهذا العام. ولعلنا كلنا متفقون على أنّ الحزن عظيم، والمصاب جلل، والأسى كبير، والفاجعة قاسية، إلا أن الحادث قد وقع، والقدر قد سبق، ومن كانت مَنيّته في الديار المقدسة فهي منيّته المكتوبة، وقدرَهُ المحتوم، وخاتمته التي لا مفرّ منها، فلا ينبغي البكاء طويلاً على من فقدنا، وإن كان الحزن يسكن صدورنا ويعتصر قلوبنا، وقد يكون من الصعب نسيان الحادثة، أو تجاهل تداعياتها النفسية الكبيرة، لإنهم أعزة وأحبة، وأهلاً وأقارب، وإخواناً وأشقاء، أياً كانت صلتنا بهم فإنهم مسلمون، تربطنا بهم وشائج عظيمة، وأواصر محبةٍ كبيرة، وقد خرجوا للعبادة، وتقرباً إلى الله وتكفيراً عن الذنوب، ولم يذهبوا لقتال ولا ليقتلوا غرباء عن أوطانهم، ويموتوا بعيدين عن أهلهم.
ليس دفاعاً عن المملكة:
ليس من العدل والإنصاف أمام هذه المصيبة التي عصفت بنا جميعاً أن يتسارع البعض ولدواع سياسية وطائفية معلومة، إلى تحميل السلطات السعودية كامل المسؤولية عما حدث، وكأنها هي التي تسببت بها عمداً، وارتكبتها قصداً، وخططت لها مسبقاً، وإن كانت تتحمل مسؤوليةً كبيرة عما حدث، فهي المسؤولة عن هذه الشعيرة العظيمة، وعليها تقع مسؤولية الترتيب والتنظيم، والإعداد والتجهيز، وضمان السلامة والأمان، وهي إذ تقوم بهذا العمل فإنها لا تكلف ولا تغرم، بل تتشرف به وتفخر، وتتباهى به وتزهو، فقد أكرمها الله به وميزها عن غيرها، وقد كان العرب قديماً يقتتلون على السقاية والسدانة، أيهم يناله هذا الشرف، ويحوز على هذا السبق، فيذهب دون غيره بالفخر، ويذيع صيته بين القبائل بالشرف، وتكون له الصدارة الدائمة، والاحترام الواجب، والتقدير اللازم، والكلمة المسموعة، والرأي الرشيد. وكان من ترسو عليه السدانة أو السقاية، يهتم ويقلق، ويخاف ويجزع، ولا يهدأ في النهار ولا ينام في الليل، فهي مسؤولية عظيمة، وواجبٌ كبير، وامتحانٌ صعبٌ وخطير، لهذا فقد كان صاحب الحظ أو الابتلاء يستعد لها ويتهيأ، ويتجهز بما يلزم المهمة وما يحتاج إليه الحجيج، فيكد ويتعب، ويجد ويجتهد، ويعمل ويسهر، ومن لم يكن عنده ولدٌ وغلمانٌ، وعبيدٌ وأجراء، وأسيادٌ وأشرافٌ، وخدمٌ يقومون بالعمل، ويسارعون في الخدمة، فإنه كان يعتذر عن المهمة، ويتنازل عنها لغيره ممن هو أقدر وأفضل، وإلا فإنه يفضح ويكشف، وتسحب منه السدانة أو السقاية، وتنزع عنه الحصانة، وإلى غيره القادر تسلم وتسند.
المملكة سجل مشرف في خدمة الحجيج:
الحقيقة التي لا ينمكن ان ينكرها إلا جاحد، أنَّ المملكة العربية السعودية، وعلى مدى عقود طوال، أثبتت أنها تقوم على خدمة بيت الله الحرام، وتبذل أقصى وسعها في توسيع الحرم وتهيئته، وفي توفير كل الخدمات الممكنة، وتقديم التسهيلات المرجوة، فلا ينبغي توجيه اللوم لها، وتحميلها المسؤولية دون غيرها، واتهامها بالتقصير كأنها هي التي أجرمت وتسببت في هذه الحادثة وما سبقها، بل ينبغي أن نذكر لهم فضلهم، وأن نعترف بجهودهم، فقد أعطوا الحرم الكثير من اهتمامهم، وأنفقوا على مشاريعه الكثيرة، وتوسعاته العديدة، وخدماته الكبيرة، ولم يقتصر جهدهم على الحرم، بل امتد إلى المشاعر المقدسة في منى والمزدلفة، وفي جبل عرفات والمسجد النبوي في المدينة المنورة، وهي جهود لمسناها بأعيننا ووقفنا على انجازاتها باليد، ولمسنا نتائجها على زوار بيت الله الحرام، راحةً وطمأنينةً، وسهولةً ويسر، فقد اتسع الحرم حتى التحقت به جبالٌ تمت ازالتها بآخر تقنيات العصر المذهلة والمكلفة، وتيسرت المواصلات حتى تنافست فيها السيارات والقطارات، وكثرت الخيام وتنوعت، وأصبحت لا تشتعل ولا تؤثر فيها النيران ولا تصيبها الحرائق بأضرار، وتطوع عشرات آلاف الجنود للخدمة والتوجيه، والمساعدة والرعاية، والإنقاذ والإسعاف، والحماية والتدخل السريع، وساهمت طياراتٌ ومراكز إسعاف، وسياراتٌ وأماكن إيواء، وغير ذلك مما تدركه عين الحاج ولا تنكره عاماً بعد آخر.
لنكن أمناء وصادقين ومنصفين:
لهذا ينبغي أن نقف أمام هذا الحدث المصيبة وغيره بمسؤولية كبيرةٍ، دينية وأخلاقية، وأن نضع تقوى الله سبحانه وتعالى نصب عيوننا، وحياة أمتنا أمام ناظرينا، وأن نكون أمناء وصادقين في التعامل مع هذه الحادثة، ودراسة أسبابها ومعرفتها، والبحث في سبل تجنبها وتجاوزها، فهذه مصيبةٌ لا ينبغي أن نستغلها في خدمةِ أهدافٍ أخرى، سعياً لتسجيل أهدافٍ، أو تحقيق إصاباتٍ، أو جني مكاسب سياسية بعيدةً عن هموم المسلمين الدينية. بل يجب على كل قادرٍ على تقديم العون والمساعدة أن يبادر بها، ويستعجل في تقديمها، فكرةً ومشروعاً، ونصيحةً واقتراحاً، وخيالاً وإبداعاً، وأعتقد أننا كمسلمين بجميع أطيافنا وبمختلف جنسياتنا، قادرين على أن نوجد حلولاً، وأن نبتكر وسائل حماية ووقاية، فلو أن كل دولةٍ قدمت نصحها، وأبدت استعدادها للمساهمة والمشاركة في تأمين الحج كل عامٍ، أقله لحجاج بلادها ورعايا أوطانها، فإننا بإذن الله نستطيع أن نتجاوز هذه المحنة، ونضمن عدم تكرارها أو غيرها.
اتهامات ايرانية ظالمة لاغراض سياسية وطائفية:
لقد اتخذت المملكة اجراءات سريعة بخصوص حادث سقوط الرافعة وعوقبت الشركة المهملة بعقوبات صارمة، كما تم تشكيل هيئة تحقيقية بشان حادث التدافع وقد كشفت التقارير الاولية وجود اصرار لدى بعض الحجيج (معظمهم ايرانيون) على المسير بعكس الاتجاه خلافا لتعليمات سير الحجيج في مشعر منى باتجاه رمي الجمرات مما تسبب في وقوع الكارثة. المؤسف أن إيران ومن والاها، سارعت لتوجيه الاتهام لسلطات المملكة في وقوع الحادثتين، ولأغراض سياسية وطائفية معلومة، متناسية أن سلطات المملكة بذلت وتبذل قصارى جهودها في خدمة الحجيج والمعتمرين على طول العام، دون تفرقة بين جنسية وأخرى، برغم التصرفات غير المنضبطة التي تصدر عن الايرانيين في موسم الحج من تظاهرات ورفع شعارات وهتافات طائفية وسياسية،
عظم الله أجر هذه الأمة، وكان معها في مصيبتها، وعوضها خيراً ممن فقدت، وبارك لها فيمن أبقى، وألهم ذويهم الصبر والسلوان، ورحم الله شهداءنا ومن فقدنا، وأسكنهم فسيح جماته، وجعلهم جميعاً من أهل الفردوس الأعلى، وقد رحلوا إليه بعد حجٍ وعدهم فيه بالقبول، وذنباً من بعده مغفوراً، فاللهم تقبلهم شهداء، واحفظ من بعدهم أرواح المسلمين وأبدانهم.
تغمد الله الشهداء بواسع رحمته ومغفرته وكتب السلامة والشفاء العاجل للجرحى ولا حول ولا قوة الا بالله، وكان الله في عون سلطات الحج على هذه الحوادث المؤسفة والمؤلمة.
احصائية بالحوادث المماثلة بمشعر منى خلال 40 عام:
تاريخ الحوادث المؤسفة المماثلة في مشعر منى خلال السنوات الأربعين الماضية: أبرز الحوادث التي شهدتها مكة خلال مواسم الحج، يضاف حادث سقوط رافعة في المسجد الحرام هذا العام، إلى حوادث أخرى شهدتها مكة تزامنا مع موسم الحج، وفيما يلي جرد لأبرز هذه الحوادث:
كانون الأول 1975: حريق هائل في مخيمات الحجاج يوقع 200 قتيل.
31 تموز 1979: قوات الأمن السعودية تقمع تظاهرة سياسية محظورة للحجاج الإيرانين ومقتل 402 حاجا بينهم 275 إيرانيا حسب حصيلة رسمية.
10 تموز 1980: اعتداء مزدوج على مشارف المسجد الحرام يوقع قتيلا و16 جريحا.
2 تموز 1989: تدافع كبير في نفق بمنى إثر عطل في نظام التهوية يؤدي إلى مقتل 1426 حاجا اختناقا معظمهم من الآسيويين.
24 أيار 1990: مقتل 270 حاجا في تدافع أثناء رمي الجمرات
7 أيار 1994: مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة 99 آخرين بجروح في حريق في مخيم للحجاج بمنى
15 نيسان 1995: مقتل 343 حاجا وإصابة أكثر من 1500 بجروح في حريق بخيام الحجاج بمنى
9 نيسان 1997: مقتل 118 حاجا وإصابة أكثر من 180 آخرين في تدافع بمنى أثناء رمي الجمرات
5 آذار 1998: مقتل 35 حاجا وإصابة عدد كبير بجروح طفيفة أثناء رمي الجمرات.
11 شباط2001: مقتل 14 حاجا بينهم ست نساء في أول أيام رمي الجمرات بمنى
1 شباط 2003: مقتل 251 حاجا في تدافع بمنى في أول أيام رمي الجمرات
22 كانون الثاني 2004: مقتل ثلاثة حجاج أثناء رمي الجمرات في منى.
12 كانون الثاني 2006: مقتل 364 حاجا بتدافع في موقع رمي الجمرات في منى
6 كانون الثاني 2006: مقتل 76 شخصا في انهيار فندق متداع في وسط مكة.
1265 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع