أ.د. محمد الدعمي
” إذا ما شئنا نفي تاريخنا قبل الإسلام خشية مما كان يمارس من عبادات وكفر وعادات قهر وقسر ظالمة كوأد البنات، فان هذا لايمكن أن يشطب تاريخ العرب والإعراب القديم للغاية. إن إنجراف بعض مؤلفي تواريخنا المدرسية مع تيار المستشرقين الذين يعتقدون بأن تاريخ العرب قد بدأ بظهور الإسلام فقط،”
ــــــــــــــــــــــ
على الرغم من موافقتي البعض الذي يعدني من تلاميذ الاستشراق، بيد أن هذا التوافق الذي تم استلهامه من اتفاقي مع بعض آراء المستشرقين الأكثر شجاعة مما حافظنا عليه من آراء، لايمكن قط أن يمحو عن دوري الثقافي، ماداً لجسور التفاهم والتسامح والحوار، حقيقة مفادها أني من أكثر تلاميذ الاستشراق والاستعراب المشاكسين والمتمردين على تقاليدهما التي طالما شوهت صورة العرب والمسلمين عبر ثقافات العالم الغربي.
واحد من آراء المستعربين المهمة هو الرأي القاضي بنفي العرب من التاريخ تماماً حتى ظهور الرسول الكريم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) وتبشيره بالإسلام الذي تحول الى ظاهرة عولمة كونية خلال بضعة عقود بعد وفاته (صلى الله عليه وسلم). هذا ما يبرر ما ذهب إليه مستشرقو العصر الوسيط المتأخرين عندما عدوا محمداً (صلى الله عليه وسلم) ملكاً للعرب، باعتبار إخفاقهم في إدراك دور الرسول الكريم معلماً وقائداً ثورياً لوى قبائل العرب التي لا تلتوي، فوحدهم في حزمة طاقات بشرية بطولية، اندفعت نحو العالم القديم، حتى الصين وشبه جزيرة إيبريا، لتطهره من رجس الوثنيات والصنميات، ولتحرر شعوبه من مظالم الإمبراطوريات التي كُتبت تواريخها، مركزة على العرش والعسكر فقط، دون أية إطلالة على العمال والكادحين والجنود الذين كانوا هم صانعو التاريخ الحقيقيين، للأسف.
إن مجرد عملية انتقاء مرحلة التبشير بالإسلام، المرادفة لوجود النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، تعني أن الاستشراق يرنو الى بتر وإهمال تاريخ العرب السابق للإسلام، موحين بأن العرب (تلك القبائل المنسية طي صحاريها الساخنة) لم يدخلوا تاريخ العالم إلا بعد أن تحولوا الى مادة الإسلام وأبطال فتوحاته المندفعين من رمضاء الصحارى لتحرير بقية شعوب العالم المظلومة. وبكلمات أخرى، أراد المستشرقون نفي كامل تاريخ العرب واستحضار تاريخهم من اللحظة التي تحولوا بها الى مقاتلين وفاتحين. وهذا هو اساس عبادة القوة الذي يدور العالم الغربي حوله والذي يهمل الضعيف ويرصد القوي فقط: فالقوة على حق دائماً.
إنه لمن المؤسف في سياق مناقشتي هذه، حقيقة مفادها تتبع الكثير من المؤرخين العرب والمسلمين المحدثين لدروس المستشرقين، درجة تحويلهم صفوفنا المدرسية الى صفوف لبث وإشاعة آراء المستشرقين، وليست صفوفاً لنقد وتصحيح آرائهم غير المنصفة، للأسف. وآية ذلك هو اعتداد التواريخ المدرسية بالعرب وبأحوالهم فقط من تاريخ ظهور الإسلام، نافية ما سبق الى فضاء مبهم وظالم أطلقت عليه لفظ “الجاهلية”! ربما كان اعتزاز المؤرخين المحدثين بالدين الإسلامي وراء ذلك، إلا أنه ليس من الإنصاف بتر تاريخ العرب وتحديده بالإسلام كنقطة بداية، ذلك أن الرسول الكريم ورسالته الإنسانية العظمى لم تتعامل مع بشر جاءوا من فراغ، بدليل أن الشخصية العربية التي تعامل معها (صلى الله عليه وسلم) كانت شخصية معقدة، لها الكثير من التاريخ والمنجزات منذ قصة حياة إسماعيل، ناهيك عن حنكتها وقدراتها على المناورة والتمنطق.
إذا ما شئنا نفي تاريخنا قبل الإسلام خشية مما كان يمارس من عبادات وكفر وعادات قهر وقسر ظالمة كوأد البنات، فان هذا لايمكن أن يشطب تاريخ العرب والإعراب القديم للغاية. إن انجراف بعض مؤلفي تواريخنا المدرسية مع تيار المستشرقين الذين يعتقدون بأن تاريخ العرب قد بدأ بظهور الإسلام فقط، إنما يشوهون قصة العرب وأدوارهم الأساس في تلقي الرسائل الروحية السماوية عبر ما يطلق المستشرقون عليه تعبير “إقليم أراضي الكتاب المقدس” The Bible Land.
أما بالنسبة لنا الآن، عرباً ومسلمين، فلا نريد طي صفحة تاريخ ما قبل الإسلام، لأن في هذه الصفحة الكثير مما يمكن أن يلقي الضوء على الحاضر، فيساعدنا على استشراف المستقبل.
837 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع