الوطن: عاطفة أم عقل؟ لماذا تفرّ الناس من أوطانها؟

                                            

                          د. سيّار الجميل*

             

ضاعَت لحانا، صفينةْ... ناس غُربة بالمدينة

السَرسَري يِجسَر علينةْ... والمخنّث والزنانة

الشاعر ملا عبود الكرخي

التقيت قبل يومين بصديق قديم اسمه الدكتور نبيل ممّو، وهو طبيب العيون الشهير في العراق.. لم أره منذ زمن بعيد، وجلسنا معاً نحتسي القهوة، ودار الحديث عن الوطن ومعنى المواطنة، وقد تعمقنا في فلسفة ذلك بين ما كان عليه معنى " الوطن " في الاذهان، وما تجيش به العاطفة من شجون، وما يعتمل في النفس من انفعالات ومثاليات وبين ما آل إليه الحال هذه الايام، فالإنسان غدا في وطنه في أشد حالات الاغتراب، في حين وجد غيره بديلا عن وطنه، كي تبدأ سلاسل جديدة من التاريخ..

وقد آليت أن أثير هذه المسألة على الرأي العام من اجل ان يشاركنا غيرنا الحوار أولا، وهل ما زلنا متمسّكين بقناعاتنا القديمة في تعريف "الوطن" و "الاوطان"  ثانيا؟ خصوصا بعد ان مرّت علينا جملة كبيرة من التجارب الجنونيّة القاتلة، ويحكمنا العديد من الزعماء الطائشين والحاقدين والمستبدّين مع سيل من موجات التوّحش والعصابات والمليشيات والملالي ورجال الدين الذين يتاجرون بالوطن وقضاياه مع انسحاق الناس في زمن تطوّرت فيه وسائل الاتصالات الحديثة وثورة الميديا والمعلومات؟ إننّي لا انكر ابدا كيف كان ميراث شيم العراقيين ، وحسن تدبرهم ، وسمو قيمهم واخلاقهم ، ومحبتهم لبعضهم الآخر وإكرامهم وروح دعابتهم ، وروعة مجالسهم ، وصفو مسامراتهم ، وسحر اذواقهم ، وجمال اغانيهم وموسيقاهم ، وخصب خيالهم واشعارهم ، وقوة ادبائهم وعلمائهم ، وانفتاح فكرهم واستنارتهم وحداثتهم .. ولعل من اقوى اخلاقياتهم البائدة اليوم  روعة تعايشهم مع اديانهم ومذاهبهم واطيافهم واعراقهم  وعلى مدى قرون خلت . وكيف غدا وضعهم اليوم ويا للأسف الشديد.

هناك قول مأثور ينسب الى الإمام علي (ع): الغنی في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة. بمعنى ان الوطن ليس هو الارض المحددة بحدود ويرفرف فوقها علم، وفيها دولة ومجتمع يسميان باسم "الوطن".. وقد عرفنا من خلال تعريف "الوطن" في كل المصادر العلمية وكما تربينا مذ كنا في الابتدائيات: ان الوطن لغة، هو المكان الذي يسكنه الإنسان ويقيم فيه. جاء في مختار الصحاح: الوطن محلّ الإنسان. واصطلاحا: هو البلد الذي تسكنه أمّة يشعر المرء بارتباطه بها وانتمائه إليها. أو هو بقعة الأرض التي يولد عليها الانسان، وتستقر فيها جماعة ما، وتكوِّن هذه البقعة بيئة حاضنة دائميّة لأفراد الجماعة مستقلّين ومجتمعين. وتدعى بالشعب.

ويبدو ان هذا لا يأكل اليوم أبدا في لغة العقل والمنطق، وإن هذا ليس ما نؤمن كما آمنا به ونحن صبيانا قبل اكثر من خمسين سنة، بالرغم من كونه التعريف الذي يلتزمه كلّ العالم، ذلك ان الوطن ليس قيمة متحرّكة هنا او هناك، بل هو كيان ثابت لمرحلة معينّة من التاريخ، وربما زال وربما توّسع عبر الازمنة، ولكنه ليس المسؤول الحقيقي عن سعادة او تعاسة أهله وشعبه..

دعونا بعد هذه " المقدمة " ان نطرح بعض الافكار النقديّة التي لابد ان يفكّر فيها المرء هذه الايّام بفعل احتدام التاريخ الصعب..

حدّثنا المؤرخ البريطاني الشهير السير ارنولد توينبي 1889- 1975 في حوار اجراه معه ولده فيليب ونشره في كتيّب صغير منذ اكثر من اربعين سنة. سأل فيليب والده قائلا: انت بريطاني المولد والسيرة والهويّة، لو سألتك عن أيّ مكان وددت ان تستوطنه باستثناء بريطانيا فماذا تجيب؟ أجابه: نعم، أنا بريطاني وأعشق وطني وريفه ومدنه وكلّ حضارته وثورته الصناعية الحديثة، ولكن لو كان الخيار بيدي لاخترت ان أكون احد ابناء أثينا في أي زمان من ازمنتها كي أستنطق منحوتاتها وتماثيلها وأعيش كلّ تاريخها، وأرى نفسي فيها حقيقة لا في غيرها !

هذا كلام لا عاطفة فيه، بل فيه عقل خصب ينحاز كثيرا للتاريخ، خصوصا وانّ الرجل قد عاش حياته في بريطانيا ، وقد تمتع بكلّ حقوقه كإنسان ومواطن في وطن لم يعد يعشقه أبناؤه في القرن العشرين حسب، بل غدا قبلة لكلّ الدنيا حتى يومنا هذا كي يكون وطنا لها .

لا أريد ان يتهّمنا البعض اننّا ننكّل بالوطن الأمّ، فالوطن يعيش في دمنا واحاسيسنا، ولكن في ظلّ غيبوبة العقل، اصبح "الوطن" مادة دسمة للاستلاب من قبل التافهين ، والمتاجرة من قبل الطفيليين والمزايدين والمتعصبّين والملالي والجهلاء والحمقى الطائفيين الذين لم يعرفوا يوما الوطن واهله، بل منافعهم اين وجدت ، وتفاهاتهم اين روجّت ! ولقد عانى الناس طويلا، بحيث ينحر العراق بلا ايّ مبالاة من اهله. وفي الحقيقة، غدا الكثير من الناس يتبرّمون من اسم وطنهم نظير ما لاقوه فيه، وجرّاء معاناتهم على ارضه.. هنا، لندع العاطفة جانبا بكلّ ما يشحنها من صور وذكريات خصبة، بل وما تشكلّه ذاكرة كلّ إنسان ارتبط منذ صغره بمكانه وبيئته وارضه، فهي منزله الاول في ماضيه، والتي يراها اجمل منطقة في الوجود. فهو لا يخرج عن إطار عاطفته، في حين لو حكّم عقله، فسوف لا يتأسّف على وطن وجد فيه كلّ العذابات والمذلّة منذ عقود زمنية طوال.

إن ما يعانيه العراق اليوم لا تفيد لعلاجه ايّة نوستالجيا ، نوهم بها كلّ اهلنا في دواخل الوطن، ذلك ان الحنين إلي الماضي، يشير إلى ألم معاناته إثر حنينه للعودة لبيته وخوفه من عدم تمكنّه من ذلك للأبد. وهي حالة مرضيّة أو شكل من اشكال الاكتئاب الذي يعاني منه كلّ العراقيين الاخيار، وستزداد الحالة انسحاقا مع ولادة ظروف أسوأ، فرحم العراق سيولد المزيد من التعساء الذين ستربيهم الشوارع ، او ستغسل أدمغتهم غسلا، وستصبح الموضوعات والقضايا اكثر اهميّة وإثارة، فالمطلوب الخروج من زمن الرومانتيكية. والنوستالجيا التي ستوهمنا طويلا ، كما توهّمناها باسم الماضي،  والدخول في زمن جديد من خلال تفكير عقلاني جديد، والوقوف ضد  كل انواع  الجهلة والملالي والمتوحشين وهذا ما نطالب به دوما من أجل الخلاص التاريخي.

إن الوطن الذي يغدو أمره بأيدي  "عصابة " تحكمه بالحديد والنار، أو طبقة سياسيّة تستنزف موارده بالرذيلة والسرقة، او جماعات وميليشيات تنكّل بكلّ اهله وتفقدهم كرامتهم وتستأصل مواطنتهم بالقوة، وتثأر لأسباب تافهة وعقيمة من اهله، يغدو وطنا قبيحا وميتا في عرف كلّ أبنائه. إن الوطن ان لم يتمتّع ابناؤه فيه بحقوقهم الطبيعية في العيش الكريم والكرامة والامن والحريّات والعمل والرخاء وسيادة القانون.. فهو وطن انقلب من فردوس رائع الى غابة موحشة ومن ثم الى جحيم مستعر.. يدعو أبناؤه لطرد اولاده عن ترابه.. الوطن الذي لا يجد ابناؤه إلا التمييز والتفرقة والامراض الطائفية والانقسامات البشعة والتهديد والقتل والخطف ورداءه اللسان والسب والشتم وسوء المعاملة وعقم الاخلاق ونهب الثروات.. فالمواطن ملزم في البحث عن وطن بديل يوفّر له الحدّ الادنى من المواطنة الحقيقيّة.

الوطن الذي يحتكره حاكم أحمق ، او قائد مجنون، او نفر من الصعاليك ، او حزب متوحش، او دكتاتور ارعن، او عصابة طارئة.. لا يجد الانسان فيه إلا الخوف والرعب، او يرمى في محرقة حرب، او يودع في سجن رقم 1، او يعذّب في قصر النهاية، او يعدم في ساحة ام الطبول، او لا يرى النور في زنازين مديرات الامن العامة، او يرى نجوم الضحى في زنازين سرية واقبية مليشيات وبيوت مختطفين .. او يفجّر  على غفلة وهو على قارعة الطريق ، او يقتل غدرا ، او يعذّب باسم مذهب او دين او طائفة ..  او يقمع مع متظاهرين تجمعوا في ساحة التحرير.. فماذا تريدون من الاحرار ان يفعلوا؟ الكلّ يتشدّق بالوطنية، ولكن الكلّ مزيّف لا يرى إلا عاطفته الساخنة ولسانه الطويل، وقد صعد لديه أقصى عنفوانه العراقي، ليتشدّق باسم الوطن والوطنية  زيفا مع انتهاء غيرته العراقية  .. وهو إما يتمّلق لرئيسه، او يستجدي من حزب حاكم، او يلفّق تهمة لمنافس له ، او يريد الاحتفاظ بمنصبه ، او يتوّحش من اجل مصالح فئويّة ، او ماديّة ، او طائفيّة ، او شخصيّة ، او حتّى يرضي شهوته في الحقد على ابناء وطنه وهم عدّة اطياف .. لا اعتقد ابدا انّ أيّ عراقيّ كان قابلا ان يساق الى محرقة أيّ حرب من الحروب التّي صبغت شعاراتها باسم الوطن! لا اعتقد ان مئات الالوف من القتلى والجرحى والاسرى كانوا يعملون من اجل قضيّة وطنيّة، بل كانوا مجبرين على أن يقتلوا تحت ظل علم هو  لنظام دولة لا رمز وطن  ! وهم ينفّذون قرارات سياسيّة ، او فتاوى دينيّة ، او شعارات ايديولوجيّة ..

في كلّ بلد من بلدان الدنيا، نجد تناقضات اجتماعيّة متنوعة وقسمات اجتماعيّة تسخر من وحدة اجتماعية معينة ، او من ابناء منطقة معيّنة، او من منتسبي طبقة اجتماعيّة معيّنة، او من أبناء مدينة معيّنة.. لكن لا يصل جرح المشاعر الى توليد احقاد وكبت كراهيّة للوطن واهله كما هو الحال في اوطاننا الكئيبة.. انّ أيّ مواطن ليس له الحقّ في جرح مشاعر مواطن آخر في وطنه، فأي وطن هذا الذي تفتقد فيه حقوق الانسان، والبشاعة تكمن في مثل هذا الجرم الكبير الذي لم يستوّعبه ابناء الشعب العظيم؟ على امتداد عقود من السنين، والكلّ شاهد على ما اقول، ان الناس تكره بعضها بعضا، وانّ ما يصدر على لسان هذا او ذاك هو جرح لمشاعر الآخر بطريقة علنيّة يدينها أي قانون مدني ، ممّا يسبّب على توالي الايّام كبتا مضاعفا مخزونا في الصدور لا يمكن ابدا غسله او إزالته.

دعوني أذكرّكم ببعض الامثلة العراقية المعروفة التي لم آت بها من جيبي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: امشي لك شروكي ! تكسر عظمه يطلع (.... ) !، تعال لك حنّا هه هه.. روح لك ميخا !، كاكا وين اذنك؟ اهل السنّة النواصب! اهل الشيعة الروافض! هؤلاء القردة والخنازير، هذا معيدي ( ..... )! هذا يهودي مزلّف ! هذوله عربان جربان ! هذولة كاولية ! هذولة كويان ! هذولة فيلية حماميل ! هذولة اشمطة قطاع طرق ! هذولة قجقجية من الغربية ! هذولة رعيان من البدو ! هذولة مصالوة قيقو ! هذولة ناس عربنجية ! وهذولة سيبندية من الاعظمية ! هذولة من دربونة الكلجية ! هذولة اولاد القرج ! هذولة اولاد المتعة ! هذولة صفوية ! هذا الـ .... اخو جحشه ! هذولة ( ........ ) اولاد حرام ! .. الخ من الصفات الجارحة

وفي نفس الوقت تكال على ابن العشيرة او المدينة او الطائفة او الطرف ازكى التسميات الكاذبة ويتقاسم ذلك ( اولاد عشاير ) و ( اولاد اصول ) و ( ولد الاكريّة )  ! دعونا نعيد ما جاء في خطاب واحد من مفجري 14 تموز / يوليو 1958: " لا جوني ولا جون بول بل حمد وحمود" من خطبة جاء فيها: " جمهوريتنا اشتراكية وطنية إلهية خاكيّة لا قصور ولا حاكم ولا محكوم حزب واحد وأمة واحدة لا شرقية ولا غربية لا شمالية ولا جنوبية، لا جوني ولا جون بول، بل حمد وحمود، لا إقطاع بعد اليوم ولا ثلاجات ولا تلفزيونات ولا طبقات، بل حرية وعدل ومساواة"! فان كان هذا كلام علني على الناس، فكيف سيكون الناس اذن؟

والمثير ان العاطفة العراقية الجمعية، أجمعت في يوم من الايّام على التلذّذ بالفرهود، واعتباره ملحمة مجيدة متغنيّة بأُهزوجة شعبيّة شاعت بين الناس، تقول:

الله اشحلوا الفرهود يا سلام.... يا ريته يعود كلّ سنه وكلّ عام

في وطن لم نشهد فيه منذ زمن طويل أيّة إدانات اجتماعية لمثل هذه الممارسات حتّى من قبل المثقّفين مع انتفاء سياسات تربوية متمدّنة جديدة في المدارس والجامعات ضدّ هذا المألوف الاجتماعي القبيح.. في وطن انشغل أبناؤه بالصراعات السياسيّة والشعارات المخياليّة والمواعظ الدينية التي عبرّت كلّها عن احقاد اجتماعيّة.. في وطن لم تظهر فيه ايّة احتجاجات ونقدات صارخة ضدّ كلّ هذه البشاعات.. في وطن يلتذّ ابناؤه بما يصيب اهلهم من فجائع.. في وطن يتشمّت اهله بكوارث إخوتهم في الوطن، بل ويخرجون للفرجة على مهرجانات السحل والقتل وحفلات الإعدام.. في وطن لا يعبّر اهله عن رفضهم إلا بالقتل والاعدامات.. في وطن  لم ولن نسمع يوما عن مسؤول واحد من طوابير المسؤولين على امتداد اكثر من نصف قرن ، وقد اعترف بأخطائه وجناياته وجرائمه وسياساته وقراراته واقواله وافعاله السيئة .. في وطن لا تجد هذا إلا ويحتقر ذاك.. ولا تجد هذه الطائفة إلا وتميّز نفسها على غيرها.. ولا تجد ابناء حزب سياسيّ الا ويطعنوا في ابناء وطنهم الاخرين من احزاب اخرى  ، وفي وطن تستلبه العشائر ومصالحها النفعيّة.. وفي وطن يغدو فيه الملالي والدجّالين والجهلة هم سادة الوطن  ، في وطن تتصدر دساتيره كليشهات إقصائيّة تفصل بين اكثريّات واقليّات.. وفي وطن ليس فيه من يخدمه طواعيّة في اعمال خيريّة ، بل يركض الجميع وراء نهبه وقمعه واستئصال ثرواته.. وفي وطن يتراشق أبناؤه في تمزيق تاريخهم والحطّ من شأن آبائهم واجدادهم ! في وطن ليس من الهين على هؤلاء واولئك ان تجرح مشاعرهم في عقائدهم ، او اديانهم ، او تقاليدهم ، او افكارهم ، او بيئاتهم ، او سايكلوجياتهم ، او ثقافاتهم على مدى زمني طويل، وهم يخافون ليس من سلطة الدولة، بل من سطوة المجتمع المتوحش! في وطن يصبح الجهلاء فيه "علماء"! ويصبح السفهاء فيه "زعماء"! ويصبح الرعاع فيه "أسيادا" وتختلط فيه المقادير، وتضيع منه القياسات، ويستأصل منه اهله القدماء جدا .. في وطن تدّمر فيه المؤسسّات، وتفجّر فيه المعابد، ويعبث الطارئون بكلّ التجمعات.. في وطن لا يحترم المرأة ابدا، سواء مشيت وحدها في شارع، او عملت في مؤسسّة، او خدمت في مستشفى حتّى فرضت نفسها شريعة الغاب باسم (الدين) بحيث سبيت الفتيات، وحبست البريئات، وتعطلّت كل الحياة . فماذا تبقّى من الوطن الحقيقي ؟

في وطن مثل هذا قد ابتلي الناس فيه بأمراض اجتماعيّة خطيرة ومزمنة منذ زمن طويل.. في وطن كهذا تسود بين ابنائه الكراهيّة والاحقاد والثارات بشكل لا يمكن تخيّله ! في وطن كهذا يذهب الاخضر بسعر اليابس، ولم يكن الطغيان إلا سبيل الاشرار في الهيمنة على المجتمع باسم الوطن !

في وطن هكذا تغيب عنه كلّ المعاني الوطنية، ويصبح شعبه من ألدّ أعداء وطنهم! في وطن كهذا لا تتحقّق للإنسان / المواطن ابسط حقوقه التي لابدّ من توفيرها له في مثل هذا العصر .. ستطغى روح جماعيّة في كراهيته، وان كره الشعب وطنه، فلا سبيل امامه إلّا ان يودّع احدهما الآخر .. وإذا كان الوطن يعدّ لدى البشر بمثابة الأمّ، فانّ من ينتزع من حضن امّه كم يعذب ويعاني وهو بعيد عنها جدا! بل وتزداد معاناته ان راقبها تموت ببطء شديد وليس باستطاعته ان يفعل شيئا. وعليه فانّ الوطن ليس الارض وحدها، بل هو الانسان وكيف يكسب حقوقه الطبيعية بلا ايّة تمايزات أبدا على ارضه التي يعيش عليها..

الوطن الأم هو وطن الولادة والنشأة وأيام الصبا وخزين الذكريات الاولى.. الوطن هو المكان الذي دفن فيه الآباء والاجداد لكلّ مواطن قدّم واجباته له على احسن وجه، ولكن اذا لم ينل ابسط حقوقه فيه، فكيف يمكنه ان يبقى وطنا بالنسبة له؟ والمهاجرون في العالم لهم وطنهم الامّ ووطنهم البديل على امتداد حياتهم، ولكن مهما حققّوا لهم من حقوق انسان في البديل، إلاّ ان الامّ هو سجل ذاكرتهم الخصبة مهما كانت معاناتهم منه.. أما اولادهم واحفادهم، فلن تكون لهم أيّة ذاكرة وطنيّة عن الوطن الأم، فهم من أبناء أوطان أخرى بعد مرور أجيال تلو أجيال!

* مؤرخ عراقي

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

448 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع