فيلسوف الأدباء الفارسي «مسكويه» حاول كعادة الفلاسفة بلورة مفهوم السعادة، فتوصّل إلى أن دراسة فكرة السعادة إنما تتطلب المعرفة المسبقة بما يمثله الخير المطلق واللذة المطلقة، مستعيداً بذلك التقسيم الكلاسيكي الثلاثي لخير الإنسان، فهناك خير النفس أولاً وهو أساسي، وخير الجسد ثانياً، والخير الخارجي ثالثاً. أمّا خير النفس فيعني التأمل والحكمة وإشغال العقل في الفعاليات الفكرية العليا، والخيرات الثانية ويلخصها إشباع متطلبات الجسد وحاجاته، وهذه ممكن أن تكون نافعة أو ضارة،
وأخيراً الخيرات الخارجية ومرتبطة بالحظ، وبإمكانها أن تنفع وتضر أيضاً وفق عملية الضبط والتقييد التي يمارسها العقل عليها. فإذاً إن كانت السعادة هي تمام الخيرات، إلا أن هذا التمام في حاجة هو أيضاً إلى سعادات أخرى في البدن وخارجه، وبذلك تقاس سعادة المرء بقدر ما حصل له من تلك الأقسام وبقدر نصيبه منها.
ولكن مسكويه لم يكتف بذلك، ولكنه تقدم في بحثه إلى سؤال: هل يمكن أن ترتبط السعادة بالنفس وحدها، أم لا بد من ارتباطها بالبدن وبأشياء خارج البدن؟ يقول مسكويه: «أجمع الحكماء على أن الفضائل والسعادة كلها في النفس وحدها، ولذلك لما قسموا السعادة جعلوها في قوى النفس كالحكمة والشجاعة والعفة والعدالة، وأجمعوا على أن هذه الفضائل كافية في السعادة، ولا يحتاج معها غيرها من فضائل البدن ولا ما هو خارج البدن، وأن الإنسان إذا حصّل تلك الفضائل لم يضره في سعادته أن يكون سقيماً ناقص الأعضاء مبتلى بجميع أمراض البدن. اللهم إلا أن يلحق النفس منها مضرة في خاص أفعالها، مثل فساد العقل ورداءة الذهن وما أشبهها».
ولكن الرواقيين ومعهم غيرهم ارتأوا أن البدن جزء من الإنسان، وبالتالي فإن سعادة النفس غير كاملة إذا لم تقترن بها سعادة البدن، وما هو خارج البدن معها (الأشياء الحاصلة بالحظ)، فماذا عن أرسطو؟ رفض الموقفين لاعتقاده أن الإنسان لن يعرف السعادة الكاملة إلا في الدار الآخرة، عند انفصال النفس عن جسدها، ولأن السعادة في تقديره شيء ثابت وأصيل وليس متوقفاً على صدفة وحظ. وحاول مسكويه المصالحة بين رأي الرواقيين ونظرية أرسطو وأفلاطون وأشباههما بصهرهما ببعضهما البعض، بمعنى أن يقارب بين حقيقة روحية تصور الإنسان وكأنه ملاك، وبين حقيقة جسدية تلحقه بعالم الحيوان.
لتبقى السعادة القصوى في النهاية هي ذروة الصعود المتدرج للإنسان في فعل الفضيلة، يقول مسكويه: «وآخر المراتب في الفضيلة أن تكون أفعال الإنسان أفعالاً إلهية، وهذه الأفعال هي خير محض، والفعل إذا كان خيراً محضاً فليس يفعله فاعل من أجل شيء آخر غير الفعل نفسه، وذلك أن الخير المحض هو غاية متوخاة لذاتها».
كلام قديم يمكن ربطه بدراسة حديثة تناولت ثلاث مجموعات للقيام ببعض الأعمال المختلفة في مدينة للألعاب الترفيهية، أمّا المجموعة الأولى فأوكلت إليها مهمة بناء مقاعد للجلوس متناثرة على أرض المدينة، في حين حُصر طلب المجموعة التالية في تفكيك بعض المجسمات وإعادة تركيبها، ليكون الطلب الأغرب من نصيب المجموعة الثالثة واختزل في ملاحقة رواد المدينة وإقناعهم بإلصاق ذيل من القماش تشبّهاً بالحيوان، ثم وبعد هذه المهمات الثلاث الموكلة قيل لأصحابها - وكانوا ينتظرون أجراً لقاء وقتهم ومجهودهم - إن لا أجر لهم، ولا مال مقدّماً نظير خدماتهم، فكيف كان وقع القرار على المجموعات الثلاث؟ أمّا الأولى فتقبلت الأمر لعلمها أنها صرفت وقتها وجهدها في عمل خير سينتفع به الناس ومنهم الأبناء والأحفاد، غير أن المجموعة الثانية كانت أقل رضاً واقتناعاً، لإضاعتها الوقت والجهد في ما لا طائل منه، لتأتي المجموعة الأخيرة لتصعِّد الأمور وتتعاطى مع القرار بحدة وغضب ثائر، لعلمها يقيناً أن عملها كان مخجلاً ومحرجاً، فلا أقلها سوى التقدير المالي يعوض شيئاً من ضيقها وإحباطها، فكيف وحتى هذا المال ألغي بنده! وهو ما يؤكد عملياً أن قيمة العمل في العمل نفسه (رد فعل المجموعة الأولى)، ومن هذه القيمة المضافة تكون سعادة المرء بإنجازه وخيره المزروع، أو كما قالها مسكويه: «الخير المحض غاية متوخاة لذاته».
892 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع