الاستاذ فؤاد يوسف قزانجي
مدخل
كتب الباحث العراقي الاخ موفق نيسكو بموقع كاردينيا في الشهر الماضي مقالا وافيا بحث فيه عن اصول الاشوريين وخلص الى ان اختلاطهم باقوام السوبارو كان كبيرا ومؤثرا والذين كانوا من اصول ميتانية على الارجح .
وهو امر يحدث في حركة الاقوام التي عاشت في بلاد الرافدين . والمشكلة التي تواجه الباحثين اليوم، هي نشاط الاشوريين المسيحيين خاصة بين القرن الاول والقرن السابع للميلاد ، اي في العصر الفارسي-المسيحي ، ثم نشاطهم بين القرن السابع والقرن الرابع عشر للميلاد. وليسمح لي الاخ موفق نيسكوا ان اعرض وجهة نظري في هذا الموضوع الذي كثر فيه الجدل .
1- نبذة تاريخية عن الامبراطورية الاشورية
يرجع تاريخ بلاد آشور الى نهاية الالف الثالث ق.م.، وكان الكاهن الاشوري (زاريقوم) في مدينة آشور (قلعةشركاط حاليا)، معاصرا للملك السومري(برسين) من سلالة اور الثالثة في نهاية الالف الثالث قبل الميلاد.
كانت اشور في اول امرها دويلة-مدينة تقتصر على مدينة اشور وماجاورها. الا ان الاشوريين برزوا في عهد الملك اشور-اوبالت(1363-1328ق.م.) الذي قاتل قبائل السوبارو الذين كانوا في شمال شرق بلاد الرافدين ، وهاجموا اشور ،حيث استطاع ان يطردهم من شمال اشور التي كانوا قد احتلوها . كما فرض اشور- اوبالت نفوذه على الميتانيين الذين كانوا قد غزوا بلاد اشور ايضا . وعقد معاهدة تحالف مع الملك البابلي (برنبورياش) .
بدأ التوسع الاشوري الكبير مع حكم الملك تكلات بليسر الاول (1112-1074ق.م.) الذي وسع المملكة الاشورية وجعلها امبراطورية ،كما وصلت جيوشه الى الخليج جنوبا والى البحرين الاسود شمالا والابيض المتوسط غربا.
وكان الملك اشورناصربال الثاني، قد قام بجلب الخشب من جبال امانوس في شمال كنعان (سوريا)، ليبني له عاصمة جديدة بدلا من مدينة اشور، وهي كالحو او كالخو (نمرود) ، كما شيد له فيها قصرا تميز بالرسوم المحفورة على المرمر الابيض الموجود في شمال بلاد الرافدين والتي تمثل انتصاراته .
كما قام الملك الاشوري شلمانصر الثالث (858-824 ق.م.) باثنين وثلاثين حملة منها لجباية الاتاوات من ممالك شمال كنعان ومدن فينيقيا واسرائيل واليهودية في فلسطين ، وكذلك قام بصد كثير من غزوات القبائل الارامية والكلدية عن بلاد اشور والتي انحدرت من براري كنعان، اذ وصلت هذه القبائل الى وسط وجنوب بابل، وخاصة حوض الفرات حتى الخليج الارثري . اضطر بعده الملك شمشي ادد الخامس ، بالتوقف عن مهاجمة الاراميين في بلاده سعيا للمحافظة على النفوذ الاشوري في بلاد بيث-آرام (سوريا) من بينها مملكة دامشقي ومملكة صوبا ، وبعد وفاته، قامت زوجته شمورامات (سميرآميس) بالوصاية على العرش لان ابنهما كان قاصرا . يرجح ان شمورامات من اصول آرامية، ونظرا لكونها اول امرأة تحكم في العالم القديم ، فقد تناولها الاغريق برواية اسطورية رائعة،كما كتبت عنها بعد ذلك رواية ارمنية ،وربما ايضا رواية آرامية . وقد ارخ تلك الروايات الرائعة في كتاب للمؤرخ العراقي المتميز سامي سعيد الاحمد (ت 2010 ) . واستمرت تحكم الامبراطورية الاشورية لمدة ثلاث او اربع سنوات، قبل تنصيب ابنها ادد نيراري الثالث ملكا (810-782 ق.م.) .
لم يكن كلا من الملوك الاشوريين الذين تولوا العرش قادرين على المحافظة على الامبراطورية الاشورية ،حتى مجيىء تكلات بليسر الثالث (745-727 ق.م.) الذي استطاع ان يقمع التمردات في بلاد بيت-ارام وفي بلاد اليهودية وغيرها. وكذلك فعل سركون الثاني عندما تولى ادارة الامبراطورية الاشورية ،و تعزيز الحكم الاشوري في الممالك التابعة لها مثل بابل والممالك الارامية-الكلدية في جنوب بابل ،كما قام ببناء عاصمة جديدة في عام 707ق.م. سماها دور-شاروكين، وتعني باللغة الاكدية-الاشورية ( مدينة سركون) ، لكنه مات بعد سنتين من بنائها وهو يحارب من اجل بقاء الامبراطورية الاشورية ،بعد ان سحق الجيش المصري في قرقر ،وهزم جيش اوراراتو في اقصى شمال بلاد اشور.
كانت الممالك والقبائل الارامية والكلدية في جنوب بابل،تتحين الفرص للاستيلاء على بابل . واستطاعت احدى الشخصيات الكلدية او الارامية من الاستيلاء على مدينة بابل، وهو مردوخ-ابلا-ادينا، لفترة اشهر، لكن الملك الاشوري سنحاريب (705-681 ) تصدى له وارغمه على الفرار . كان سنحاريب قد قرر نقل عاصمة الامبراطورية الاشورية من دور-شاروكين الى بلدة صغيرة اختارها و التي كانت تقع على الضفة اليسرى لنهر دجلة . كانت نينوى بلدة قائمة منذ منتصف الالف الثالث قبل الميلاد. وقام سنحاريب ببناء قصر ضخم له يرجح انه يتالف من ثلاثة طوابق، واقام حول مدينة نينوى سورا عاليا من الحجر والطابوق، له ثمانية بوابات ضخمة تحرسها الثيران المجنحة التي نحتت من الحجر الصلب ، وهي تمثل لدى الاشوريين مايشابه فكرة الملاك الحارس المسيحية اليوم .
بعد حين تجددت الثورة البابلية ضد الاشوريين ، فتقدم سنحاريب بسرعة واخمد الثورة ودمر مدينة بابل، لكن ابنه أسرحدون ،قام بعد ذلك باعادة بنائها في عام 680 ق,م. ،كما اعاد النفوذ الاشوري على ممالك بيت-آرام ووالمملكة اليهودية وصيدا ، ولاحق الجيش المصري حتى بلاده،واستولى على دلتا نهر النيل الخصيب وذلك في عام 675 ق.م. ثم عاد .
خلفه الملك العظيم آشوربانيبال (668-626 ق.م. الذي اعاد احتلال بلاد الهلال الخصيب وكذلك مصر . ووقع معهم اتفاقا بدفع له اتاوة سنوية حتى تبقى العلاقة حسنة بين اشور والبلاد الاخرى.
بعد وفاة اشوربانيبال، تحالف القائد الكلدي نابوبلاصر مع الاراميين و الميديين وغيرهم واستولى على بلاد بابل. وقام الميديون بالاستيلاء على مدينة اشور ونهبها وتخريبها، ثم قام جيش نابوبلاصر بالتوجه نحو العاصمة نينوى والاستيلاء عليها بعد حصار دام اربعة اشهر،وذلك في عام 612 ق.م.(1)
2- الاشوريون والمسيحية :
كان الاشوريون، في العصر المسيحي-الفرثي بين القرن الاول وعام 224 ،قد تشتتوا في شمال بلاد الرافدين، وخاصة في ولاية حذياب (اديابينة)،ومنهم من هاجر الى ابعد من ذلك فوصل الى منطقة حكاري . بعد مرور اكثر من 621 سنة على سقوط الدولة الاشورية . وكان بعضا منهم قد أعتنق المسيحية مثل كثير من الاراميين والكلديين في بلاد الرافدين ،وكانت لغتهمم جميعا ، اللغة الارامية المحلية ، اي السريانية بلهجة مشرقية ، كما فعل بقية المسيحيين في العراق القديم اللذين تبنوا اللغة السريانية احدى فروع اللغة الارامية: لغة يسوع المسيح .
كتب احد اشهر الباحثين في التاريخ القديم الاستاذ هاري ساكز في كتابه عظمة آشور : “انه عندما انهارت بلاد اشور في بداية القرن السابع قبل الميلاد، اخذت بابل مكانها كمركز لامبراطورية عالمية ، ومن ثم اصبحت تحت الاحتلال الفارسي بعد عام 539 ق.م.ثم جاء الاغريق بعد ذلك في عام 331 ق.م. . اذ نجد ان المعابد والقصور الاشورية الرئيسة بفخامتها الاصلية،لم تستمر طويلا بعد بداية الاحتلال الاغريقي لبلاد الرافدين،على الرغم من ان الاسكندر الكبير قد امر بتعمير مدينة نينوى ،حينما كان يطارد ملك الفرس في عام 331 ق.م. . وبعد 37 قرنا من سقوط المدينة العظيمة نينوى ،حدثت تغييرات كثيرة، وتنصر معظم سكان العراق ذوي الاصول الارامية ،اما الاشوريون حول بحيرة وان ، فقد تحول كثيرا منهم الى المسيحيية ، على الارجح بتاثير المملكة الارمنية التي كانت من الدول القوية بعد عام 312 للميلاد . وهكذا فان المسيحيين ومعهم الجماعات اليهودية المنتشرة بينهم، لم يحتفظوا بذكرى مواقع اسلافهم الاشوريين فحسب ،لكنهم ايضا ادمجوها مع التقاليدالماخوذة من الكتاب المقدس . في الواقع ان الكتاب المقدس كا ن عاملا قويا جدا في الحفاظ على ذكرى بلاد اشور وبشكل خاص نينوى ، فمثلا كانت هنالك رابية مقدسة، وقد شخص المسيحيون واليهود موقعها ،باعتباره المكان الذي كان يعظ فيه يونان النبي اهل نينوى لضلالتهم، وقد بنيت فوق ذلك المكان ديرا او كنيسة . وعندما استولى المسلمون على بلاد الرافدين في بداية القرن السابع للميلاد ، اخذوا نفس التقاليد المحلية الخاصة بالمسيحيين واليهود ، واقاموا بدلا من الكنيسة جامعا.” (2) وكان في ذلك الموقع قد بنيت حول الكنيسة وفي اسفل الرابية قرية نينوى، ضمن مدينة ناو-اردشير التي انشأها الفرس،بعد ان اضافوا اليها قرية حصنا عبرايا على دجلة . (في منتصف القرن السابع سمى العرب مدينة ناو-اردشير بالموصل ) .
كان المسيحيون في العصر الفارسي-المسيحي بين القرن الاول والقرن السابع للميلاد بالتعاون مع المسيحيين في سوريا وفلسطين قد سعوا من خلال استيعابهم المنطق الارسطي واطلاعهم على مفاهيم وعلوم الحضارة الاغريقية ، استطاعوا خلال القرون الستة الاولى للميلاد ان يبنوا ملامح حضارة جديدة تختلف كليا عنما تبقى من الحضارة الفارسية في العراق القديم ، فاقاموا مدارس عدة في العراق بلغت 30 مدرسة اولية ومدرسة عالية في نصيبين، كما انهم استفادوا من مدرسة الفرس التي اقيمت في منطقة ميشان ذات الاصول واللغة الارامية ،والتي كان يدرس فيها بعض العلماء المسيحيون بالاضافة الى الفرس وغيرهم .
وبعد سقوط نصيبين في يدي الفرس ازداد عدد المدارس في الاديرة ، كمابرزت من بينها مدرسة عالية او اكاديمية باسم مدرسة نصيبين الثانية في مدينة نصيبين بين485-550 م التي صارت جزءا من العراق القديم منذ عام 363م، التي كانت لها نظاما عمليا ونظريا يشبه كلياتنا الجامعة فيها حوالي 700 من الطلبة . وكانت تدرس الديانة والطب واللغة السريانية وآدابها . وكان كثير من الطلاب يسكنون في قسم داخلي ويعملون في زراعة الحقل التابع لها ، في العطلة السنوية مقابل طعامهم . وكان عميدها من اشهر الاساتذة المسيحيين وهو الباحث و الشاعر نرساي . اذ كان قد ادار مدرسة الفرس في الرها بعد وفاة العلامة افرام سويرس الملقب بالسرياني، ثم هرب نرساي خشية اضطهاده من السوريين لانه مال الى ما يسمى بالنسطورية . وهي ابرز مشكلة كانت تواجه المسيحية في العراق : اذ ان الرومان والمونوفوزيين، اطلقوا على جميع المسيحيين بانهم من اتباع الفكر النسطوري في حين انهم لم يكونوا كذلك وهي صفة لقسم منهم لاكلهم ، ذاعت هذه الصفة في سوريا ،فادار المسيحيون هناك ظهورهم لاخوتهم، في حين كان المسيحيون في العراق الفارسي، يعانون من اضطهاد مستمر من قبل الفرس ،التي كانت ذروتها اعدام مايقرب من 16 الف مسيحي ومعهم روؤساء الكهنة في العراق الفارسي وذلك خلال القرن الرابع للميلاد ومعظمهم اعدموا في منطقة ميشان الارامية في جنوب غربي ايران .
اما في العصر الحديث وبناء على ذلك فان كثير من المسيحيين رحلوا بعيدا ، وتوزعوا في قرى وبلدات سهل نينوى واقصى شمال العراق، ووصل بعضهم الى منطقة آمد (طور عابدين)، والبعض الاخر وصل الى منطقة حكاري . وفي العامين 1924- 1925 ،عاد كثيرا من الاشوريين الى قراهم في شمال العراق مثل قوجانس التي كان فيها كرسي الابرشية الاشورية، وكذلك برواري بالا والعمادية وشرانش وغيرها . وفي عام 1933 ،طالب الاشوريين بمنطقة آمنة لهم، فهاجمهم الجيش العراقي وقتل منهم الكثيرين بما سمي (مذبحة سميل) وهاجر على اثرها كثيرا منهم الى سوريا وامريكا وغيرهما (3) .
وحديثا بعد ان اضطرب شمل العراقيين، بعد الاحتلال الامريكي للعراق ، ارى ان جميع الطوائف المسيحية قد تخلت عن اعتبار طائفتها هي الصحيحة ، وخاصة بعض رجال الدين ،ويبدوا انهم اخيرا قد ارعووا بعد ان تشتتوا .
اهم المصادر
1- عبودي،هنري(محرر) . معجم الحضارات السامية .طرابلس،ط2، 1991 . ص91-98
2- ساكز،هاري . قوة او عظمة اشور، ترجمة عامر سليمان. بغداد: المجمع العلمي، 1999 ص 408-410
3- شبيرا،ابرم . الاشوريون في الفكر العراقي المعاصر.بيروت، دار الساقي، 2001 ص88-91
760 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع