د.نوال السعداوى
كيف لأستاذة بالجامعة أن تعتبر وجهها عارا أو رأسها عورة يجب إخفاؤه؟وكيف لزعماء العالم الكلام فى المؤتمرات الدولية عن تفاقم الفقر والهجرة وتلوث البيئة وتزايد الأوبئة والحروب، دون أن يشير أحدهم الى نفسه، أو الى جذور المشكلة التى يروح ضحيتها ملايين البشر، بل تتجه أصابعهم الى غيرهم، أو الى ضحايا نظامهم الطبقى الأبوى العنصرى الدينى، الذى يدافعون عنه بالحديد والناركيف يعاقب الضحية ويطلق سراح الجانى بل يصبح بطلا عالميا؟
لكن الأبواق الإعلامية لهذا النظام تلعب دورها لإخفاء سوءاته، يجتمع زعماء السياسة والأديان فوق منصة الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، لإنقاذ البشرية من الفقر والإرهاب وتلوث البيئة وتغير المناخ وتحقيق التنمية المستدامة، وكانوا يسمونها المستديمة ، فقط تتغير الحروف والأسماء ليبقى جوهر الاستغلال والاستعمار كما هو، ولتبقى الرأسمالية النظام الوحيد للبشرية ولا بديل لها ، ولتبقى التنمية المستديمة فى بلادنا دائمة للأبد ، ويتم تدمير عقولنا بالنظريات العلمية الخادعة والإرهاب الدينى ، وتدمير إنتاجنا الاقتصادى وجهودنا للاستقلال والحرية ، لنبقى عبيدا للمعونات الخارجية، نستهلك الأفكار والبضائع الأجنبية، ونعيش على تبرعات الأغنياء ومساعداتهم وقروضهم.
وكان من نتائج التنمية (المستديمة) استدامة التبعية وتضخم الديون وتضاعف الهوة بين الدول والطبقات، وتصاعد التيارات الدينية السياسية المسلحة ، وتعانى النساء أضعاف الرجال الفقر والعنف والتحرش والحجاب والنقاب والتجارة بأجسادهن العارية فى الإعلام والفنون الرخيص
الكلام عن تزايد الفقر أصبح مباحا، بشرط عدم ربطه بالنظام الطبقى ، كلمة «طبقة» محفوفة بمخاطر الاشتراكية وتهديد مصالح رجال الأعمال والأموال، وتحويل المجتمع الآمن المؤمن الى الفوضى والالحاد والعنف والثورة.
لا يربط زعماءالأديان (كالزعماء السياسيين) بين الفقر ونظام الحكم ، كأنما الفقر يهبط من السماء بأمر الله، وكأنما اللامساواة على أساس الجنس منفصلة عن اللامساواة الطبقية والعنصرية،كأنما التفرقة على أساس العرق والجنسية واللون والدين، منفصلة عن أنواع التفرقة الأخرى، رغم أنها مرتبطة بعضها بعضا داخل أعمدة النظام الحاكم العالمى المحلى تحت قبة الفاتيكان الأب الأكبر للحضارة الرأسمالية الحديثة (وما بعد الحديثة) القائمة على السلطة الأبوية فى العائلة الصغيرة (الأسرة) والعائلة الكبيرة، المائة وثلاث وتسعون دولة الأعضاء بالأمم المتحدة، التى يحكمها الرب الأكبر فى البيت الأبيض وحلف الناتو، يتولى بابا الفاتيكان فقط الروحانيات والحياة بعد الموت ، مع تدعيمه قرارات الزعماء السياسيين عند الضرورة، فالسلطة الدنوية لا تنفصل عن السلطة الأخروية فى أى بلد ، منها بلادنا حيث يلعب شيخ الأزهر دور البابا.
لا أحد يشك أن السلطة الحقيقة فى عالمنا البشرى هى سلطة المال والسلاح وتكنولوجيا التجسس والإعلام ، وليست سلطة التعاويذ والمباخر والصلوات والدعوات ، لا توجد دولة مدنية مادية علمانية لا تستعين بقوة الآلهة لتدعيم سلطتها بالدولة والأسرة، وتلعب الثقافة والفنون والتعليم دورا لخدمة رجال الحكم ، لا يبرز إلا أسماء الذكور (من الطبقات المستريحة) فى جميع المجالات بما فيها الفن والأدب والعلم والدين والسياسة والقانون والفلسفة والطب ، لقد تصاعد النظام الأبوى فى التاريخ وانهزمت الأم الكبرى ، وتم تحويلها (بالقوة الدينية السياسية) من «إزيس» إلهة الحكمة والمعرفة الى «حواء» الآثمة حليفة الشيطان، وهكذا أصبحت المرأة (منذ تعاليم الإله يهوه ) جسدا بغير رأس، أى بغير عقل (ناقصة العقل) وتم إلغاء وجود رأسها بإخفائه تحت الباروكة أو الحجاب أو النقاب.
يتجدد النقاش فى مصر اليوم (كأنما العصور الوسطى) حول النقاب، بعد صدور القرار بمنع ارتدائه فى أثناء التدريس بجامعة القاهرة، والقرار الثانى بمنع ارتدائه داخل اللجان الانتخابية البرلمانية، كما يتجدد النقاش حول آلاف الحجاج الذين ماتوا تحت الأقدام (بالسعودية) فى أثناء تدافعهم لرجم الشيطان. يتم تبرير منع النقاب فى أثناء التدريس بالرغبة فى تسهيل التواصل بين الأستاذات والطلاب، ويتم تبرير منع النقاب فى أثناء الانتخاب بالرغبة فى منع التزوير بكشف وجه الناخبة ، ويتم تبرير موت الآلاف من الحجاج بأخطاء إدارية ، مثل عدم تنظيم حركة المرور فى أثناء رجم الشيطان أو عدم توحيد موعد الرجم لمنع الزحام.
ويظل النقاش سطحيا مراوغا، لا يدخل الى عمق المآسى المتكررة فى بلادنا ، بسبب الخوف الدفين، من كشف جذور التفرقة الجنسية الاقتصادية الاجتماعية الأخلاقية ، أو نقد الفكر الدينى السائد رغم كثرة الكلام عن تجديده.
هل مشكلة النقاب داخل الجامعة واللجان الانتخابية فقط؟
هل مشكلة رجم الشيطان هى فقط الزحام بشوارع السعودية؟.
أم هى تدمير عقولنا بالتعليم والإعلام السياسى الديني، والديمقراطية الزائفة والانتخابات القائمة على الأموال، وإخفاء وجوه النساء والتجارة بأجسادهن العارية فى السوق الحرة، والأرباح اللامحدودة من تجارة السلاح والجنس والتجسس، وتحجيب الأطفال البنات وتزويجهن للعجائز، والفوضى الجنسية للرجال وتعدد الزوجات وما ملكت يمينهم، والأطفال غير الشرعيين فى الشوارع بالملايين، والقوانين والأخلاق المزدوجة، وعقاب الضحايا وتبرئة الجناة، والأحزاب الدينية فى الدولة المدنية، والتفرقة على أساس الجنس والدين والمذهب والطبقة والطائفة والعائلة والهوية.
747 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع