د. سهام علي السرور
الأردن\ محافظة المفرق
الخميس 15 \ 10 \ 2015
منذ عرفت أن أجدادي مروا بالعراق وعاشوا في أطرافها مدة طويلة، ومنذ أن نشأت على قصص سندباد بغداد، وبعد أن سمعت صوت سعدون جابر، ومنذ اليوم الذي كان فيه من يذهب إلى بغداد يتبغدد، وكل من عاش في خير لو لم تطأ قدماه بغداد يومًا كان يتبغدد لأن الخير وبغداد بينهما علاقة كما بين الأم وابنتها، منذ كنت أعتقد أن الشمس تدثرها بغداد عن البرد وصباحا تعتقها لتنير لنا صباحًا مفعما بالأمل، منذ ذلك وقبل ذلك عشقت بغداد يا أهل بغداد وبقيت طوال عمري أتوق لزيارتها، لكن ولتمكث بغداد ضمن جراحي ويصبح كل ما أحب صعبا على نفسي حين أقبلت على الجامعة ووضعت عن ظهري وزر المدرسة ومشقتها، اغتيلت بغداد أو قيل لي إنها اغتيلت.
فبقي في نفسي جرح يدعى عراق، وفي الجامعة كان كل ما له علاقة ببغداد يجذبني، حتى الغداء كنت أتناوله كلما سمح لي المصروف والوقت في مطعم بغداد في محافظتي "المفرق"، وكل مجلة على غلافها كلمة عراق كنت أحسب لأحصل عليها على حساب أولوياتي، فالعراق أولوية لم تسقط من قلبي وإن قلَّت حيلتي تجاهها.
كم كانت تشجيني المحاضرات التي يذكر فيها شيئا عراقيا ولو كان مدرسة نحوية كالبصرة والكوفة، ولو كان بساطًا طائرا لا وجود له أو مصباحا سحريا جعلني في طفولتي أحرق أبريق شاي أهلي سرا لأضع يدي عليه متوهمة بإمكانية خروج المارد من كل إبريق قديم لأطلب من المارد ما يجعله ينتحر ويعتزل فنونه الماردية لأن أحلامي حينها لم تكن تتجاوز فستانا أزرق اللون أو أبيض كالفراشة.
تخرجت من الجامعة فعملت قرب الحدود الأردنية العراقية، لأصبح بين الحدود الفاصلة بين شريانيّ، كالطفلة بين والديها، كل يوم صباحا ومساء تأخذني وسائل النقل في طريق اسمه طريق بغداد أمكث فيه أكثر من ساعتين يوميا، ومعظم السيارات في طريق ذهابي وإيابي لها علاقة بالعراق، كيف لا أحب العراق وحتى الحدود التي بيننا وبينها كرامة؟ كيف لا أكون وفية لبغداد التي لم يكن لي حظا منها سوى الأحلام السعيدة؟ وبعض الأحلام تحتضنا حين يتغول واقعنا لنتمكن من استعادة وتيرة أنفاسنا قبل أن يختطفها الموت.
يا أهل العراق يا شرفاء العراق كل ما عرفت عنكم وما قالوا لي أهلي يختلف تماما عما أسمعه في نشرات الأخبار اليوم، يختلف تمامًا عن مشاهد القتل والدمار، إن النخوة العراقية، والكرامة العراقية، والوفاء العراقي، كل ذلك وأكثر يمكنكم من تجاوز كل الفتن لتعود العراق زهرة شرقية قطع عنها المحتل الماء ولوث بعضه الخائنون ولكنها لم تمت، لأن عصارتها عراقية، ولأن الحب يجمع أهلها ويمكنهم من الترفع على كل ما يفرقهم، ولأن حب الأوطان أسمى من كل مكاسب الدنيا ومناصبها، فمهما رفعتنا المناصب وتعددت مسمياتنا الدبلوماسية والسياسية يأتي الموت ليسخر من ذلك كله، فلما الموت ألف مرة؟ ولما النزاع على لا شيء؟ إن أيام أمان في حضن الوطن بين أهل ورفاق لا تعادلها ألف رئاسة، ولا ألف لقب يحوله الموت ساخرا إلى لقب جثة .
ينعس الليل ولا تصاب بالنعاس عيني، حين أقول عراق تتأهب كل جروحي وتصطف الآهات في قلبي منتظرة فرحة للعراق تفرحنا .
د. سهام علي السرور
الأردن/ محافظة المفرق
1402 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع