أ.د. محمد الدعمي
ما فتئت “بوصلة المحظوظية” تغير اتجاهاتها بداخل البنى الاجتماعية والقيمية عبر عالمنا العربي على نحو متواصل، إذ لم يزل أفراد من الذين جايلوني يستذكرون تفضيلات الأمس ويقارنونها بتفضيلات اليوم، بشيء من التعجب.
في ستينيات القرن الماضي كن حسان الشابات في العراق يجبن بالجملة الشرطية التالية عندما يتقدم أحدهم لخطبتها: “لو مُلازم، لو مَلازم”! وبكلمات أخرى، هي تقول أما أن يكون المتقدم ملازمًا بالجيش، أو لا لزوم لي بعريس. بيد أن هذا التقليد ما لبث وأن اختفى شيئًا فشيئًا، درجة أن حسان بغداد لم يعدن يواشجن مستقبلهن بمستقبل ضباط الجيش الأحداث، بسبب ما مر على العراق وسواه من الدول العربية من حروب لا تبقي ولا تذر، حروب استهلكت من الأرواح الكثير، للأسف. وهكذا استدار مؤشر المحظوظية من الملازم ذي النجمة الواحدة على الكتفين، إلى “المثقف”، فلم تعد حسناء اليوم في عالمنا العربي المترامي يقتنعن بسوى هؤلاء الذين يمكن أن تطلق عليهم صفة “مثقف”، الأمر الذي دفع نخبة المثقفين الحقيقيين إلى نمط جديد من الاغتراب في مجتمعاتهم، لأنهم وجدوا أنفسهم فجأة في بحر متلاطم من المثقفين وأدعياء الثقافة الذين تكتظ بهم المقاهي والنوادي الاجتماعية وسواها من أماكن الاجتماع السكاني.
وإذا لم يكن أحد يكترث بالمثقف في عصر “لو ملازم، لو ملازم”، فإن التهافت على أبهة وصف “مثقف” بقي منحصرًا بين دوائر محدودة من الشبيبة المتطلعة التي شعرت بدورها الاجتماعي الاستثنائي تأسيسًا على الفجوة الواسعة التي تفصل بينهم وبين عموم الجمهور. لذا وجد هؤلاء المتوثبون للتقدم أن من واجبهم لعب دور اجتماعي إصلاحي لا يمكن أن تضطلع به الثقافة المدرسية الحكومية، بقدر ما يمكن أن تضطلع به النخبة المثقفة التي راحت تعرف دورها الإصلاحي تأسيسًا على درجة “الاستنارة” والقدرة على التنوير في فضاء اجتماعي عد دميمًا.
بيد أن عنصر التحولية الاجتماعية راح يتغير، كما لاحظنا في أعلاه، درجة إتاحة اقتناء صفة مثقف من أسواق العرض والطلب ببساطة متناهية. وإذا ما زادت هذه الظاهرة، على حسن التشبث بها، من اغتراب المثقف الحقيقي ومن خبو صوته في زحمة الضوضاء التي تتجسد على وسائل الإعلام وقنوات الاتصال الاجتماعي، فان المتوقع كما لاحظنا في مقالة الأسبوع الماضي “ما هذا النفاق”، أن تستجيب السوق الحرة، أي سوق العرض والطلب للطلب المتزايد على لقب مثقف بطرائق سلسلة وبأسعار ميسرة تجعل إيجاد مثقف حقيقي ملتزم اجتماعيًّا أشبه ما يكون بما يقوم به صيادو اللؤلؤ في غمار مياه الخليج العربي، غوصًا وبحثًا غن اللؤلؤ الأصيل، غير المصنع في مختبرات اليابان.
وللأسف، فإن الإسفاف والخلط في هذا الموضوع إنما هو الذي شجع العديد من الفضائيات والآنية الإعلامية على العبث بالثقافة الجادة، أما لأنها لا تجد المثقف الحق ليدلو بدلوه في القضايا المهمة، وإما لاختلاط الأمر عليها، فتعمد إلى انتقاء المثقف “بالقرعة”!
1128 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع