نواف شاذل طاقة
استيقظ متأخراً كعادته بعد ان كان الذباب قد غطى أجزاءً من جسده الهزيل وتغلغل بين اظافر قدميه القذرة لكن ذلك لم يزعجه البَتَّةَ، حتى حطت بضع ذبابات على أطراف فمه.
ترك عبيد الله الذبابات تمرح هناك بعض الوقت حتى شعر ببعض الضيق فحرك يده لتطير بعيداً ولكنها سرعان ما عادت الى موضعها بعد ثوان معدودات. لم تبدُ عليه اية امارات ضيق او تبرم استثنائيين، والحقيقة فانه كان قد تخلى منذ ذلك اليوم عن شعور لازمه منذ نعومة أظفاره بأن الحياة سرقته حظوظه. وقبل ان يزيل الخرقة العفنة التي اعتبرها غطاءً لفراشه، عادت به إلى الوراء ذكريات محبطة تركت جروحاً لن تندمل في ذاكرته، وجعلته يندب عقود حياته الاربعة التي مضت دون أن يشعر يوماً أنه إنسان كالآخرين. لقد اعتقد عبيد الله منذ أن بدأ يعي ما يدور حوله في عالم السياسة، أو ظن انه يعي ذلك، أن سيكون له شأن عظيم. غير ان ما عدّها ظروفاً قاهرة حالت دون مواصلة تعليمه، وظروفاً أخرى حالت دون تمكنه من استمالة قلوب عشرات الفتيات اللائي هام بهن ولكنهن لم يعرنه ادنى اهتمام، وظروفاً رافقت الحروب المدمرة التي مرت بها بلاده، والعديد من القرارات الغبية التي اتخذها في حياته، كانت جميعها سبباً في ضياع مستقبله. لكن كل ذلك بات ماضياً قد تحين الفرصة لتدوينه في قصيدة نثر أخرى لن يقرأها سوى زوجة أبيه التي لم تتمكن من اتمام دراستها الابتدائية، وربما جاره المسكين (أبو أحلام) الذي غالبا ما وجد نفسه مرغما على سماع تلك النصوص النثرية الجوفاء. غير ان الحق يقال، كانت زوجة أبيه شبه الامية مصدر الهام له طيلة حياته؛ لقد شجعته كثيرا، وغالبا ما أثنت على آرائه السياسية المخيبة للآمال. وقد دأبت في أحيان كثيرة على تقديم افضل النصائح السياسية له والتي وجدها ثاقبة بحق، ودفعته للاعتقاد بان هذه السيدة، على الرغم من تعليمها المحدود، تمتلك عقلية سياسية فذة. لقد كان لها الفضل في اقناعه بان أفضل طريقة للفت الانتباه إلى آرائه ومعتقداته الجريئة تكمن في مهادنة، بل حتى مداهنة، الأقوياء، وأن لا طائل من ترديد انتقادات صريحة للمتنفذين في مدينته. وقد رأى ان تلك النصائح جنبته الكثير من المتاعب غير الضرورية. وهكذا، فتح عبيد الله فمه مدهوشا بحنكة زوجة أبيه عندما قالت له يوماً ان عليه أن يفكر بشكل جدي بالمنافع السياسية التي يمكن أن يجنيها إذا ما أكثر من انتقاد الحكام السابقين الذين تناوبوا على المدينة ولا سيما الأموات منهم. وربما كانت هذه النصيحة الثمينة قد فتحت له الباب على مصراعيه لدخول عالم السياسة بعد أن أغواه السحر الكامن في صمت الراقدين في قبورهم إزاء كل ما يقال ويكتب عنهم. لقد كان ذلك الصباح الذي غزا فيه الذباب فمه، بدايةً لحياة جديدة مفعمة بالامل بعد طول انتظار. الحقيقة، لقد كان عبيد الله قد تلقى مكالمة هاتفية في الليلة الماضية من صديق قديم تعرف عليه عندما كان جنديا في واحدة من الحروب العديدة التي خاضتها بلاده، وفرّا سويةً من المعركة في وقت لاحق، بيدّ أن صاحبه تبوأ فيما بعد، على ما يبدو، منصباً رفيعاً في واحدة من الميليشيات التي تعج بها المدينة. ابلغه هذا الصديق الذي غالبا ما تنشر صحف المدينة خطبه المطرزة بكل ما يمكن للمرء أن يتخيله من أخطاء قواعدية واملائية، بان قصيدته الاخيرة كانت رائعة بحق، وأنه قد تقرر ترشيحها للفوز بجائزة تقديرية ثمينة في المدينة. كانت تلك القصيدة التي كتبها عبيد الله قد وردت في مقدمة ديوانه النثري الأخير الذي وزعه مجاناً على أصدقائه وجيرانه في الحي بعد أن اعتذرت المكتبات عن عرضه. وعملاً بنصيحة زوجة أبيه، فقد أكثر في العديد من قصائده من شتم الأموات في مدينته باقذع الالفاظ أملاً بكسب رضا خصومهم أياً كانوا. وقد كان له ما أراد، فها هي الأبواب التي طالما رآها موصدة في وجهه قد فُتحت أخيراً، وأدرك أن شأناً آخر ينتظره فالزمان بات زمانه .. إنه صباح جميل بحق!
باريس في آب/أغسطس 2015
1282 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع