د. محمد عياش الكبيسي
لا يختلف اثنان من المسلمين على فضل الحسين ومكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفيه وأخاه الحسن -رضي الله عنهما- الحديث الصحيح: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» رواه الترمذي وأحمد بن حنبل وغيرهما، وحديث: «هما ريحانتاي من الدنيا» رواه البخاري وغيره.
ولا يختلف اثنان أيضا في أن الحسين قتل مظلوما، وأن قاتليه قد باؤوا بخزي الدنيا وإثم الآخرة، يقول ابن تيمية رحمه الله: «والحسين رضي الله عنه قتل مظلوما شهيدا، ولا ريب أن قتل الحسين من أعظم الذنوب وأن فاعل ذلك والراضي به والمعين عليه مستحق لعقاب الله».
بيد أن الذي ينبغي التنبه له أولا: ملاحظة السياق التاريخي لهذه الفاجعة، فقتل الحسين إنما جاء بعد قتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين، عمر وعثمان وعلي، وقتل اثنين من المبشرين بالجنة، طلحة والزبير، وعدد غير قليل من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين، فهل يعقل أن نتناول هذه الفواجع المتسلسلة والمتوالية كأحداث منفصلة ومجزأة؟ من المسؤول عن كل هذا؟ ولماذا جاءت سلسلة الاغتيالات هذه كلها بعد سقوط عرش كسرى مباشرة؟ لاسيما أن الجريمة الأولى كانت على يد أبي لؤلؤة الفارسي المجوسي الذي تعظمه إيران إلى اليوم وتحتفي بمزاره، لماذا فتحت اليمن فاستقرت؟ وفتحت الشام فاستقرت؟ وفتحت مصر فاستقرت؟ إلا العراق وبلاد فارس اللذين كانا تحت سلطان كسرى؟
كيف نفسر أن كل البلاد التي دخلت في الإسلام تحتفي بالصحابة الفاتحين كأبي عبيدة وخالد بن الوليد في الشام، وعمرو بن العاص في مصر، وأبي أيوب الأنصاري في تركيا، إلا العراق الذي ترى فيه جهارا نهارا من يلعن الصحابة الفاتحين، حتى قبل قتل الحسين وقبل قتل علي، فسعد بن أبي وقاص فاتح العراق هو الفاتح الوحيد الذي لم يرحب به أهل البلد، بل شكوه إلى عمر بتهمة «أنه لا يحسن الصلاة» كما في البخاري وغيره، حتى عزله عمر -رضي الله عنهما- سدا لباب الفتنة، وهو خال رسول الله، ومن أوائل المهاجرين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، والملاحظ هنا أن هذه الشكاية المتكررة على سعد جاءت في خضم المعارك المستعرة على حدود بلاد فارس والتي كانت بإشراف سعد وقيادته، فمن الذي كانت له المصلحة في عزل سعد؟
في السياق الجغرافي، يتفق المؤرخون على أن الحسين خرج من المدينة إلى مكة قبل خروجه إلى كربلاء، وهذه نقطة لافتة، فالمدينة أقرب إلى كربلاء من مكة، وكل الذي يذكره المؤرخون هنا أنه ربما اتجه إلى مكة طلبا للأمان بعد رفضه لبيعة يزيد، وأنه قد أجرى بعض المشاورات مع خيرة الصحابة كعبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن جعفر وأخيه محمد بن علي الملقب بابن الحنفية رضي الله عنهم أجمعين، فنصحوه بالثبات في مكة وعدم الخروج إلى العراق، وحذروه من غدر أهل الكوفة، حتى قال له ابن عباس: «فإنهم إنما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك وأن يكونوا أشد الناس عليك». وحين أصر على الخروج قال له: «فإن تك سائرا فلا تسر بنسائك وصبيتك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه»! ونلحظ هنا مقارنة ابن عباس بين مقتل عثمان ومقتل الحسين رضي الله عنهما، وأما ابن عمر فقد ذكره بموقف أهل العراق من أبيه: «فارجع أنت تعرف غدر أهل العراق وما كان يلقى أبوك منهم»، فلما رأى إصراره اعتنقه وقال كلمته الشهيرة: «أستودعك الله من قتيل»، ونحو هذا قول ابن الزبير: «أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك وأخرجوا أخاك؟».
لقد سار الحسين من المدينة إلى مكة، ثم من مكة إلى كربلاء، فلم يعترضه أحد، ولو كان في نية الأمويين قتله لقتلوه وهو يتنقل في هذه الطرق المتنائية، حيث كانت مكة والمدينة تخضعان لحكم يزيد وولاته، وقد كان موقفه من يزيد واضحا، وتنقلاته هذه واتصالاته لا يمكن أن تخفى على رجال يزيد، فما السر في أن كل بلاد الله يتحرك فيها الحسين كما يشاء دون أن يعترضه معترض ثم لا يجرؤ على دمه إلا أهل كربلاء؟! ثم لماذا هذا الإصرار على منعه من الوصول إلى يزيد بعد أن طلب ذلك منهم؟
إن خير من يجيبنا على هذا التساؤل إنما هو الحسين نفسه، بحسب ما نقله الشيخ المفيد في الإرشاد ص 241 -وهو من أعلام الشيعة-: «وقال الإمام الحسين عليه السلام في دعائه على شيعته: اللهم إن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترض الولاة عنهم أبدا، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا فقتلونا»، وهذه سكينة بنت الحسين تقول: «يا أهل الكوفة، يا أهل الغدر والنفاق، لقد يتمتموني صغيرة، وأيمتموني كبيرة، فقتلتم أبي وجدي وعمي وأخي وزوجي، ألا بعدا لكم ولمكركم» (ابن كثير 8/230)، وقبلهما كان الحسن بن علي يقول في مقارنة عميقة: «يزعم هؤلاء أنهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي وأخذوا مالي، والله لأن آخذ من معاوية عهدا أحقن به دمي وأؤمن في أهلي خير من أن يقتلوني فيضيعوا أهل بيتي وأهلي، ولو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه» (الاحتجاج 2/10).
2161 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع