أ.د. بشرى البستاني
قدرَ للرواية أن تنوء بإشكاليات الإنسان منذ نشوئها ، بأحزانه ومسراته ، ببوحه ورؤاه ووقائعه وأفكاره ، وكان للتعبير عن الحروب فيها الدورالمهم ، فكثير من الحروب شُكلت وقائعها في روايات خاصة ثم وضعت أوزارها هناك ،فكانت:
( الحرب والسلام ) و ( الدكتور جيفاكو ) و(ذهب مع الريح ) و( لمن تُقرع الأجراس ) وغيرها كثير ، أمثلة واضحة على ذلك ، كما كان للصراعات الطبقية والبؤس العمالي والاجتماعي حضور في الرواية وكانت رواية (الأم ) و(عناقيد الغضب ) من أمثلة تلك الروايات ، وفي الأدب العربي ، قامت الرواية العربية هي الأخرى بدور بارز في معالجة مكابدات الإنسان وعذاباته في واقع يعاني من شتى أنواع التناقض والاشتباكات والاستلاب ، فكانت روايات الرواد العرب ، وروايات نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وجبرا ابراهيم جبرا وعبد الخالق الركابي وعبد الرحمن مجيد الربيعي وواسيني الأعرج و لطفية الدليمي وعالية ممدوح وابتسام عبد الله ،أمثلة قليلة من فيض تلك الروايات التي عالجت قضايا الأمة والمجتمع ، ورواية (حلم وردي فاتح اللون ) للروائية العراقية ميسلون هادي (1) واحدة من هذه الروايات التي لا تعكس شريحة من حياة عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي فقط ، بل تبني عالما فنيا هو تكثيف حيوي لتفاصيل تلك الحياة ، عالما يشتغل بفاعلية جمالية تدحض قبح الحرب ودمويتها .
ذلك ان جوهر موضوعها الذي تحركت بفاعليته ليس هو الحرب ولا السعي نحو حياة آمنة حسب ، لان الحرب والأمن لا يشكلان إلا محورا من محاور الحياة الواسعة ، وحركة واحدة من حركاتها ، إنما موضوع الرواية الذي اشتغل على طول مشاهدها هو روح المقاومة التي تدحض الحرب ، وهو هيمنة حب الحياة الذي يعمل على تكريس الأمن والسلام وإدامة مشروع الإنسان النبيل ، وهو الموضوع الأكثر شمولية والأقدر على إعادة بناء مجتمع عملت الرواية على الكشف عن عناصر الألفة والمحبة في طياته ، والجمع بين أطيافه التي قُدر لها أن تكون مصدر غنى وثراء حضاري وليس دافع اقتتال وصراع دموي ، فالنساء العراقيات من كل الطوائف يذهبن إلى الكاظم للزيارة وأداء النذور ، والمسلمون والمسيحيون يشاركون الصابئة أعيادهم وأعراسهم وتقاليدهم الدينية ، والمرأة العراقية المسيحية تتزوج مسلما في الموصل ، المدينة الأكثر تشدداً في العراق ، وتبني معه عائلة متماسكة ، وتنجب سارة الشابة الواثقة بنفسها والمغتربة للعمل خارج وطنها ، و ياسر الشاب الذي تتسع رؤاه للتراث والمعاصرة ، للدين والموسيقى والفنون ، لأنه لم يجد في الدين السمح المنفتح على الحياة ما يتناقض مع كل أنواع الفعاليات المعاصرة الهادفة إلى بناء إنسان قوي نبيل قادر على دحض أعداء الحياة ، وفاعل في إثراء عوامل الجمال والحلم فيها ، ولذلك اعتمدت الرواية البنية المدورة إذ تبدأ السرد من نقطة النهاية وتعود النهاية إلى البدء مؤمنة بحضارة عراقية قادرة في دورتها التاريخية على التجدد والتواصل والمعاودة ، وتلك هي سمة الحضارات الحية ، تلك الحضارات الطافحة بإرادة الحياة والاستمرار.
(2)
لا احد من المخلوقات قادر على أن يحلم غير الإنسان ، فقراءة عنوان الرواية إذن يحيل على الإنسان فورا ، لكنه إنسان معين في زمن ومكان معينين تحددهما الرواية بوضوح ، إنسان يُخيل لمتأمل ظروفه وحياته المربكة بأغرب الوقائع اللا إنسانية ألا مكان للحلم في حياته ، وكيف يحلم من عاش أكثر من ثلث قرن بحروب وتجويع واقتتال وموت ومحن، ولا سيما أن استهلال الرواية ومشاهدها المتتالية لا ترتبط مع عنوانها بوشائج واضحة مما عمل على خلق تشويق خفي أو ربما تشويش يدفع بالمتلقي الى البحث عن الروابط التي يمكن ان تصل متن الرواية بذلك العنوان الذي بدا مثيرا ونحن نعبر منتصفها ، فأين سيكمن الحلم الوردي والمَشاهدُ تزداد رعبا ودما ومداهمات كلما توغلنا بالقراءة ، ومن هو الإنسان السعيد الذي ما زال حتى الآن قادرا على أن يحلم حلما ورديا بلا منغصات ..!
إننا من خلال صور الخراب المتشكلة عبر المروي وهيمنة القوى العمياء المدمرة ، كنا مع الراوية نبحث عن ومضة أمل تعيد الانسجام الإنساني المفقود للأطراف المسالمة ، ولعل من المفارقة أن نجد بعض ذلك لدى شخصية “ختام ” السيدة التي بدت تصرفاتها غريبة وأحيانا أخرى مخيفة ، لكنها كانت تبثُّ أمانا من خلال قدرتها على الاحتفاظ بثبات وتماسك يبدوان غريبين في مثل تلك الظروف التي تسودها محنة دائمة ومفاجئات كارثية ، فقد استطاعت أن تحافظ على توازنها في أقسى ظروف الرعب والقصف والمداهمات ، فضلا عن كونها تحاور بهدوء وقت الخوف ، وبشجاعة وعنفوان وقت مداهمة المحتل ، وبتقديم المعونة الحقة بالفعل وليس بالكلام وقت الحاجة ، إن “ختام” أضفت بشخصيتها المركبة على الرواية عمقا وانفتاحا على التأويل من جهة وشفافية مرهفة كثفتها الظروف القاسية التي أدت بها إلى تلك الغرابة من جهة أخرى .
إن المتلقي إذن ما زال يبحث عن التيارات الدلالية الهابطة من العنوان إلى المتن ، وعن تلك الصاعدة من المتن إلى العنوان بحثا عما يؤكد أحقية التسمية التي حظيت بها الرواية حتى نُفاجأ وباب غرفة نوم الشاب يُفتح على بيانو أبنوسي اللون مغطى من الأعلى بشرشف وردي فاتح اللون بعد مرور ما يقرب من ثلثي أحداث الرواية في الصفحة التسعين ، ان تغطية البيانو بشرشف سرير وردي مطرز إنما هو رمز لواقع تنقلب فيه موازين الأشياء عما وضعت له ، كما هي مقلوبة في الواقع العراقي ، فالشرشف المطرز الحافات بوشي جميل مكانه سرير النوم ، لكنه هنا يغطي البيانو مغيبا إياه عن فعله الفني في البوح بالنغم حزنا وفرحا ، ذلك البوج الذي يعد بيانا ووضوحا ، وما عليه من غبار دليل زمني على تعطيله عن أداء وظيفته التي هي التعبير بالصوت إفصاحا عن مشاعر داخلية وتعبيرا عن هوية ، وتحويلا للمخفي سعيا نحو الظهور بشكل جمالي ، كما أن تغطية البيانو بغطاء سرير النوم تعطيل للسرير وأحلامه العرسية ، وإيقاف للتواصل الإنساني وديمومة الحياة ، مما يوحي بتعطيل أسباب الحياة وهيمنة عوامل الانفصال ، لكن الحدث لا يتوقف لدى نقطة السلب هذه بل هو يمضي نحو تفكيك اللحظة المأزومة ليسير بها نحو نوع من الانفراج المؤمل ، ” مضت الأم إلى النافذة لتفتحها وتزيح عنها ستارتها ليتحرك هواء الغرفة لأول مرة من زمن طويل . تحرك الشرشف الوردي الذي كان يغطي البيانو ، فخطا ياسر خطوة اخرى نحوه وأزاح الشرشف كاملاً عن البيانو ،ثم رفع الغطاء عن أصابع البيانو فبدا كما لو كان نائما وفتح الآن عينيه ، نظراته إليه تلألأت ببريق اشتياق واضح لروعة حب اول ، التصق به وهو يبتسم ثم حرك أصابعه في الهواء ليذوب عنها التوتر والجليد ، مررها بعد ذلك بمشي رشيق على أصابع آلته الموسيقية كمن يحييها ، فأصدرت نغمة جميلة لمعزوفة مألوفة السماع . أصبح قلبي يخفق كالشمعة الذائبة لهذا المشهد الحالم داخل غرفة كانت صامتة ومهجورة قبل قليل ، وكدت أطير من خفة الوجود الذي شعرت به يفارق واقعا مرا ، وانتابني الشك في ان ما يحدث أمامي هو حلم يقظة ارتاح به من عناء اليومين الماضيين ، ولكن ياسر كان قد جلس إلى البيانو وأصبحت أصابعه تتحرك خفيفة لتترك خلفها أثارا متلاحقة لا تكاد العين أن تلحق بها. كان يقتطف من ذلك العزف وجها أخر غير الذي دخل به إلى المنزل ، كان عاشقا بامتياز وتلك هي معشوقته التي طال غيابها عنه وهو الآن يملكها ويحبها كما يشاء ولم يكن بينه وبينها غير الفراق الطويل والآن يعانقها فتنطق بين يديه بالغزل ، غناؤها ما هو إلا نغمة جرس تنطلق من هذا المكان الخفي من الكون لتتناغم مع غناء العصافير وصياح الديكة وتفتح الورود ، ان هذه النغمة لتنسجم الآن مع كل نغمات الكائنات الحية للماء والهواء والشجر .. ص 91-92 ” فنحن أمام حركة الأم نحو فتح النافذة ، نجدنا أمام إشارة فعل ، وفعلا تفتح النافذة ويتحرك الهواء داخل الغرفة المأزومة / الوطن ، لتتبدل الأجواء التي كانت مقفلة على الأزمة ، وفي حركة الهواء يكمن تغيير ، وتصاحب حركة الهواء خطوة مؤازرة من ياسر الذي يزيح بقصد الشرشف إزاحة كاملة عن البيانو ، بداية عودة الأشياء إلى طبيعتها والأمور إلى توازنها ، فالبيانو سينطلق بعد قليل بموسيقاه الغزلة ، انه سيقول حبا بعد طول صمت لوجود اقتتال وعذاب ودم ، وأصابع العراقي العازف تتحرك في الهواء ليذوب عنها ما كان يكبلها ويمنعها من ممارسة فاعليتها المعهودة ، الشاب العراقي بأصابع عراقية ، هو الذي يبادر بتمرير أصابعه على آلته الموسيقية فقد جلس في موضعه الطبيعي منها محكما السيطرة عليها ليجيد العزف وليمارس فعل تنشيط الحياة وبث الجمال فيها بعد ان فارقتها عوامل الفرح وبهاء البهجة ، فالعراقي عاشق بامتياز والدليل على ذلك حضوره المفعم في التاريخ حضورا عارما ، ومثابرته في الإسهام ببناء الحضارة الإنسانية هدفه في ذلك حب الإنسان والعمل على إسعاده وبناء حياته ، وليعود بعد طول فراق إلى حياة طبيعية متناغمة مع نفحات الوجود ومندغمة بأنغامه المنسجمة مابين الأغاريد ويقظة الأحياء وانبثاق ورودها محققة وحدة عناصر الحياة في الكون ، ولعل من ذكاء الروائية ربط علامة العنوان بهذه الأيقونة الكثيفة الدلالة (البيانو) ، فالعنوان ليس هو ثريا النص حسب ، كونه الكلام الذي يضعه كاتب العمل للإشارة إلى عمله ، بل هناك أغراض أخرى يريدها له ، وهي أغراض لا حصر لها تتعلق بنوع العمل ، وبمقاصد الكاتب واضعة المتلقي بعين الاعتبار ، كونه يلعب دورا مركزيا وبالغ التعقيد في عملية إنتاج الدلالة ، ويعد جاك دريدا العنوان ذا صيغة اسمية حتى لو لم يكن اسما من الناحية النحوية ، فالعنوان اسم يشير إلى النص ، والنص مسمى لكن العنوان لا يوضع لغرض التعيين حسب لان العناوين أسماء لها وظائف تأويلية وتمويهية وإغرائية ، وقد تهدف إلى الإشكالية وإثارة اللبس كذلك .( 2 ) وعنوان الرواية الذي استمد حيويته وتأجيله معا من داخل غرفة اختصرت بيتا كاملا ، لكنه بيت مؤجل ، إنما هو إشارة لحياة العراقيين المؤجلة بانتظار الخلاص ، حقائب سفر مكدسة وأدوات طبخ مركونة ، وحياة معطلة ، وتحف ولوحات علاها الغبار إشارة للقلق والإرهاق وغياب معالم الجمال ، بسبب سفر أهل البيت وابتعادهم – فالسفر مقرون بالرهق في القران الكريم- ودمى وألعاب تحيل على طفولة غُيّبت طفولتها وغُبنت حياتها بحيث رُكنت ألعابها منزوية في غرفة مقفلة : " تلك اللحظة التي انفتح فيها باب الغرفة بصعوبة كما هو حال أبواب البيت الأخرى ليكون أول شئ تقع عيناي عليه هو بيانو أبنوسي اللون موشى بحافات مرقشة بتطريز الاتمين الجميل ، ثمة سرير مفرد مغطى هو الآخر بشرشف لم يعد ينام فيه احد سوى حقائب السفر وتحت السرير يوجد عدد اخر من الحقائب الممتلئة تحيط بها كارتونات مملوءة بالتحف وأدوات الطبخ والدمى وصناديق العاب وكتب ومجلات وكل ما يمكن ان يفيض به البيت من أغراض بلت أو غدر بها الزمان . فجأة قالت الأم : كم كان جميلا ، ! قلت : نعم ..ص 90 “ ، فالباب فُتح لكن بجهد ، والثقافة معطلة كذلك ، إذ لا وقت للقراءة في ليل العراق الذي غاب عنه الضوء وجفاه الأمان .
(3)
تنهض اهمية الشخصية في العمل الروائي من كونها العنصر المحرك لمجمل العناصر الأخرى ، فهي الفاعل المتحرك وباث الحيوية في الزمان والمكان ، وهي الكاشفة من خلال الحوارات عن الرؤى والأفكار ، وهي بفعلها الذي تقوم به تدفع الوقائع إلى أمام ، فالفضاء والأحداث الواقعة فيه تستمد فاعليتها من قدرة الشخصيات على الاشتغال في تعميق الرؤى المطروحة وإثرائها ، وبالرغم من اختلاف المواقف منها حسب المناهج والفلسفات القائمة عليها من كونها الفاعل الحقيقي للحدث في فضاء معين ، الى كونها كائنا ورقيا تشكله اللغة حسب رولان بارت ، فان ذلك لا يقلل من شانها كون اللغة هي بانية عوالم الأدب التي يشكلها الخيال مهما اقترب الأدب من مرجعياته الأولى حتى عُدت الشخصية مركز التوازن الذي تنتظم حوله العناصر الأخرى من أمكنة وأزمنة ووقائع ، وتتنوع أسماء الشخصيات في الرواية مابين تراثية وغربية ، وهي في كل الاحوال تنتمي لعالمها المحيط بها تاركة اعتباطية التسمية الاولى لتستمد دلالاتها من اكتسابها لسماتها وهي تتطور عبر الزمن فعمار وياسر وريم تمتزج تراثية أسمائهم بما يوحيه الواقع واسم “ختام” يوحي بنهاية واقع مشوه لابد أن ينتهي ، و”اني” يؤكد اسمها الأجنبي دلالة التعايش والانسجام مع أسماء أبنائها العربية ، والشخصية الراوية النامية التي ظلت تتحرك وتحرك الأحداث بفاعلية حملت اسم ” فادية ” وهو اسم طافح بالدلالة ، كونها تمثل كل العراقيات الصامدات المضحيات وسط الكوارث . وحين يكون الروي بضمير المتكلم وتكون الراوية واحدة من الشخصيات الفاعلة فإن المروي سيتسم بالحميمية ، وراوية حلم وردي تروي أحداثها بضمير المتكلم ( أنا ) ولكن هذا الضمير كان ينبض بمشاعر المجموع ، بخوفهم وتوجسهم وحزنهم مما يدور حولهم فضلا عن قدرة هذا الضمير على دمج العناصر السردية من خلال منظور الراوية الواحد المقاوم والصامد معاً ؛ مما عمل على تحويل الراوية الى شخصية مركزية تبثُّ الأحداث بجمالية يلخصها الدكتور عبد الملك مرتاض بكون ضمير المتكلم :
1- جعل الحكاية المروية مندمجة بروح المؤلف بحيث تكون قادرة على إذابة الحاجز الزمني الذي يفصل بين زمن السرد وزمن السارد بحكم كون المؤلف يغيب في الشخصية التي تسرد عمله.
2- يجذب ضمير المتكلم المتلقي ويشدّه إلى العمل السردي ويجعله يتعلق به متوهما ان المؤلف فعلا هو الشخصية التي تروي الحدث وهو إحدى الشخصيات التي تنهض بها الرواية مما يجعله عامل تشويق في عملية الروي . أما في حالة السرد بضمير الغائب فان الأمر مختلف لان المؤلف يتمكن من الظهور كونه العارف والمتحكم والموجه.
3- إن ضمير المتكلم يحيل على الذات ، بينما يحيل ضمير الغائب على الموضوع ، فأنا ذو مرجعية جوانية داخلية على حين يكون ال( هو ) ذا مرجعية برانية خارجية ، ولا يخفى الفارق القائم بين ضمير يسرد ذاته ، وضمير آخر يحكي عن سواه .
4- ان ضمير الغائب لا يملك سلطان التحكم في مجاهيل النفس وأعماق الروح ، في حين يستطيع ضمير المتكلم وهو ضمير المناجاة من التوغل في أعماق النفس البشرية ليغريها بصدق ويكشف عن نواياها بحق ويقدمها للقارئ كما هي ، لا كما يجب أن تكون (3).
5- يقترب السرد بضمير المتكلم من المونولوج الداخلي الذي يعمل على تحرير الإنسان الراوي من معاناته وما يكابد بحيث يحرره مما يثقله بالبوح والاسترجاع وتفريغ الاحتجاج والتعبير عن الرفض والرضى والمواقف من الأحداث والأشياء.
6- ان اللعبة الروائية بيد المؤلف البارع هي التي تتقن استبعاد المؤلف عن التلقين وتجيد إسدال الحجاب بينه وبين الروي بضمير المتكلم ، فإذا انفرطت اللعبة او ضعفت الياتها فان مواجهة المتلقي مع المؤلف ستكون مباشرة حينما يعجز الاخير عن دقة المراقبة ، مما يهدد كثافة العمل الإبداعي .
تستهل الراوية رويها لحظة الانفلات من اسر المجموع ومواجهة الذات بأبعادها الداخلية عودة إلى المركز الذي هو دواخل الإنسان ، وهذا المركز لا يحقق ذاته ويعمق ثراءه إلا من خلال حركة الذات في الخارج ومنجزها الخصب في هذه الحركة ، فلحظة المواجهة إذاً هي لحظة من اجل إحكام التوازن بين عالمي الداخل والخارج ، والميزان هو منظومة القيم التي تنهض بوعي الذات وتقيم أركان بنيتها : ” في رأسي أتكوَّنُ من جديد كل مساء نفسا أخرى جديدة بعد أن أحاسب الأولى على ذنوبها وأخطائها ثم اطويها في خلوة الليل فوق ألاف النفوس التي تنام معي كل يوم …. .. ص 5 ” وتواصل الراوية بوحها متنقلة مابين الداخل حيث الحديث مع القلب الى الخارج حيث تتناوب بين مظاهر الإيجاب والسلب ، لكنها تحاول دوما الانتقال من السلبي الى الايجابي ترصينا لإمكانية التحول من مشاعر الضعف إلى تصميم القوة في رموز صغيرة ولكنها دالة منها ما هو طبيعي او صناعي لكنها في كل الأحوال تؤدي وظيفتها المقصودة " وتحت السماء يمر الغيم خفيفا ثم يذوب فيترك خلفه شمسا دافقة ترقص لها أغصان الياس المزروع على شكل قوس كان يابسا منذ عامين والآن استعاد لونه الأخضر اللماع ، وعاد إلى الحياة بعد أن كاد يموت من العطش .." ص5 . وبحساسية مرهفة تلتقط الراوية قصة جرس الباب وما كان يقع عليه من مهمات الإنذار غالبا وقلما التبشير ، فهو الشاهد على الفرح و الحزن وعلى الحقيقة والخطأ ، هذا الجرس " يتحدث اليوم بالحق بعد أن كان صامتا طوال سنوات عديدة لا يقرعه احد ، وان قرع فالكل يفزع ويهرع خائفا إلى النوافذ .. " ص 6 ، وحقيقة الذعر من رنين الأجراس كارثة عاناها العراقيون جميعا ، ومات بسبب أمراضها الخطرة والمفاجئة كثيرون ، لأن رنين الجرس كثيرا ما كان يعني إنذاراً بفقدان عزيز أو حبيب في جبهة القتال ، وجرحه أو فقدانه ، هذا الجرس قرعه الكثيرون ، والآن "عافوه وخرجوا جميعا فرارا من النار والدمار إلى الشتات وبلدان الجوار …" ص6 . وتواصل الراوية الوقوف عند معاناة شعبها وأوجاع وطنها المجروح بسكاكين العدو وعنف الجار وفرجة الشقيق ، ترصد أحزانه ودمه المسفوح ظلما ، وليالي مدنه المظلمة العارية من أقراط الضوء وقلائد الكهرباء ، كما تسترجع عذاب الحصار وجوع العراقيين وحرمانهم ، وتقف عند خراب الحرب وتهديم الكيانات الجمالية في حياة أهلها .. البيوت التي هجرها العراقيون إلى الشتات ، الشوارع التي تكسرت بوطء الدبابات والمدرعات والمفخخات والعبوات ، المحلات والأسواق المقفلة ، الأرصفة المهدمة والحدائق الظمأى ، والمرأة التي انطفأت أنوثتها بهجرة الرجل الذي كانت تنتظر ، والذي فضل الرحيل على رؤية وطنه يتهدم حجرا فوق حجر ، لكن “ختام” رفضت الهجرة معه واختارت وطنها بكل ما فيه من عذابات ، وظلت تعيش باليأس والأمل ، بالحزن والفرح الموعود بالخلاص ، إذ يتحول اهتمامها من الخاص إلى العام ، من الحبيب الراحل الى الوطن المشتعل ، إن الكناري في قفص ختام هو حلمها الجميل في كل ما كانت تتمنى ، وهو الوطن المغدور ، والجمال الذي يحتوي في ألوانه الخصب في الأخضر ، والضوء في الأصفر ، والأرض في اللون الترابي ، إنه الطائر الذي يختصر الحياة ، وهي إذ تطلقه إلى الأعلى فلأنها تختار الوطن خلاصا ، تختار التعالي على التشرد والشتات والانفصال ، وقذفها للقفص خارج البيت محاولة للتخلص من وهم الماضي وشباكه ، والالتفات الى معالجة واقع يحتاج الى حوارية يومية .
وفي بنية روائية محكمة تدير الراوية حركة الشخصيات في عالم روائي استمد إشاراته من واقع العراق الذي جثم عليه بؤس مطبق وانفتحت أبوابه بفعل فاعل لكل أنواع العدوان والمكيدة والتخريب: " كانت مصابيح بيوت الشارع مطفأة جميعا ، لان موعد تشغيل مولدة المحلة لم يحن بعد وكانت ختام تخرج الى حديقة بيتها وهي تحمل الفانوس بيد وقفص الكناري الفارغ باليد الأخرى وتسير على مهل باتجاه الباب الخارجي للبيت متلمسة طريقها بصعوبة في الظلام ، وينساب جسدها على مهل كمن يمشي حافيا على فراش من زجاج .. " ص 18 هذه المرأة غريبة من وجهة نظر الساردة ، لكنَّ تحديد سمات الشخصية الطبيعية ما زال بغاية الصعوبة في العلوم النفسية ، كون الشخصية ذاتها ما تزال عصية على الفهم بسبب تعدد سماتها والاختلافات القائمة بينها حد التناقض ، وبالرغم من ذلك فقد ظل الافتراض بان شخصية كل فرد تتواجد على ثلاثة مستويات ، أولها ما يظهر للناس من صفات الفرد، تلك الصفات التي يحكمون عن طريقها على شخصية صاحبها ، والمستوى الثاني هو ما يعرفه الفرد عن نفسه وما قد لا يظهر للآخرين او يتلاءم مع نظرتهم اليه او حكمهم عليه ، والمستوى الثالث هو ما لا يظهر من سمات الشخصية لا للغير ولا حتى للفرد نفسه ، وهذا المستوى يظل كامنا بانتظار ما يمكن ان يظهره من عوامل التفاعل بين الفرد ومحيطه ، وقد يظل خافيا ما لم يتعرض الإنسان للإرهاق والشدائد ، والحقيقة أن الأمر المنطقي في النظر إلى الشخصية الطبيعية هو ضرورة الجمع بين هذه المستويات في كيان واحد وان ننظر إلى شخصية الفرد الحقيقية على أساس الجمع بين الإمكانية والواقع ، وما لم نستطع التوصل إلى إدراك إمكانيات شخصية الفرد كاملة فان حكمنا على طبيعة تلك الشخصية سيظل ناقصا ومعرضا للخطأ (4) ، من هنا تغير رأي الراوية بشخصية ختام بعد أن اكتشفت نبلها وعمق أحاسيسها الإنسانية والوطنية وقوة عزيمتها .
إن كل الوقائع المفجعة التي أدارتها الراوية لم تثنِ الشخصيات عن إرادتها التي تمجد الحياة بالرغم من الخوف المحيط بكل شئ والنابع من كل شئ والمتربص بالإنسان في عقر داره ، الخوف خطيئة العصر الكبرى ، لأنه وحده القادر على كسر الإنسان وهزِّ إرادته وتغييب بهجته والعمل على المساس بكبرياء إنسانيته وتعطيل قواه ، فالخوف يولد القلق ، وهما معا نوعان من الانفعالات التي تستدعي استجابات فسيولوجية ونفسية تعمل على إرباك ٍ في نبض القلب و انقباضات في عضلات المعدة ومجمل الجهاز الهضمي مع إحساس بالتوتر والضغط الشديد والاضطراب الذهني مما يجعل الإنسان في حالة دائمة من توقع خطر وحدوث مكروه ، وكثيرا ما يعمل ذلك على تعطيل طاقته ويصرفه عن الانهماك بعمله وممارسة حياته اليومية بشكل طبيعي وانسيابي :
” كل الهواجس حاصرتني كما الجدران فأقعدتني في مكاني ، ولم استطع مغادرته من شدة الخوف بل اكتفيت بالتلفت حولي بذعر.." ص25 .
” ولم أكد أصل إلى غرفة الضيوف حتى دوّى انفجار قريب تكسرت له بعض زجاجات البيت وراحت المروحيات تحلق في الجو بعد قليل ، وجاءت سيارات الشرطة بصفاراتها تعوي وتصرخ" ص27.
" فإذا بنا نرى رجلا غريبا وبيده سكينة مطواة شهرها بوجوهنا فور أن أصبح قريبا منا فامتلأ قلبي رعبا وكاد يُغمى علي من شدة الذعر " هكذا عاش الانسان العراقي سبع سنوات وما يزال ، وعمار فتى الحدائق الطفل الممرغ اليدين بدم جثة برئ قُتل ، والجثث المرمية على الأرصفة لا يجرؤ أحد على التقرب منها ، لكن بالرغم من كارثية الصور التي تتشكل داخل الرواية فنا ينبض بالمقاومة إلا أن الرموز العراقية تنهض شاهدة على الحقيقة وناطقة بها ..
"قال القائد الأمريكي لختام بغضب: ولكن ماذا تفعلين هنا ؟
- قالت بحزم وغضب أشد : هذا بيتي ، أنت الذي ماذا تفعل هنا ..؟" ص51
نعم هذا بيتها الذي تقف فيه وسط الشجر والزهر والآس المتجذر من أجيال وسنين وهو الطارئ الذي كذب وعده تكمل "أريد ان أصبغ البيت ، بيتي
– بيتي وأنا حرة فيه ..51 “
فختام تدرك أهمية البيت في حياة الإنسان ، فهو كوننا الأول ، إنه واحد من العوامل التي تدمج افكار الإنسانية وذكرياتها وأحلامها ، وهو الفضاء الذي يمثل ألفة المكان من الداخل وينحي عوامل المفاجأة ويخلق استمرارية تمنح الإنسان أمانه وتحميه من التفتت الذي أشار اليه باشلار، فالبيت جسد وروح حيث يصبح للوجود قيمته ، والحياة تبدا بداية جيدة ، مسيجة ومحمية داخل البيت (5)
ان قدرة الراوية على بث الإحساس بالتماسك وحب الحياة والتشبث بعوامل البقاء والاستمرار بدءا من رؤيتها لأصغر وردة أو غصن آسٍ في حديقة البيت إلى موقفها من البيت رمز أمن وكينونة ، هو الذي أشاع الأمل في الرواية وعمل على تشكيل كون ينهض فيه الإنسان العراقي مقاوما ومصراً على الحياة ، مما يؤكد انحياز هذا النوع من الأدب الى قضية الانسان واهتمامه ببناء شخصيته والعمل على كشف اعدائه والمخططات التي تسعى الى استبعاد الذات الانسانية التي دأب خطاب ما بعد الحداثة على تهميشها وإزاحتها عن مكانتها السامية التي تليق بها ، ونفيها المتعمد من قبل مناهج واتجاهات كرستها البنيوية وقبلها الماركسية والفرويدية وبعدها توجهات ما بعد البنيوية بكل ما آلت إليه من عمل على نفي المعنى الإنساني وتغييب فاعليته البناءة وتكريس المادة والاحتكارات واستعباد الجسد وتسخيره لخدمة أهداف لا إنسانية مما أشاع الحروب والاقتتال ورفع قيمة التسلح والشيء على كرامة روح الانسان .
ان الراوية في سرد ميسلون هادي تقدم شخصيات متماسكة تستحق ان تطرح لتزويد الإنسان العراقي المغدور بالقوة التي يحتاجها وبالجلد والقدرة على التجاوز ، لأنها شخصيات تمتلك القدرة على المواجهة والتفكير المتأني في الشدائد ، وتجيد صنع قرار وسط المجزرة ، وهي بالرغم من آلة الدمار المسلطة عليها والهادفة إلى تفتيتها ، إلا أنها تواصل الحياة بصبر لأنها شخصيات تتسم بالمرونة إلى جانب الصلابة ، صلابة داخلية ومرونة في معالجة مصاعب الحياة من حولها والتغلب عليها ، وهي بالرغم من الدمار المحيط بها إلا أنها تمتلك السمة الايجابية في حب الحياة والقدرة على الحلم وسط الظلام ، فضلا عن كونها قادرة على تأجيل أحلامها إذا ما اصطدم حلمها بمفاجئات الواقع من خلال وعيها بالظروف المحيطة بها ، وهي إذ تؤجل فإنها تمتلك اليقين بحتمية التحقق ، وتلك هي الفكرة الكامنة وراء تشكل هذا النص رواية .
إنَّ الشخصية الراوية تلجأ إلى الحلم ليس هربا من الواقع بل تصميما على صنع حياة أفضل ، إنها تزرع مع الورد الأمل وتنتمي بالزراعة إلى الأرض متشبثة بها ، فالزراعة رمز الاستقرار وانتظار موسم الفرح المضمر بالحصاد " ثم سرحتُ بالأماكن والزوايا التي سيزرع فيها عمار الشتلات الجديدة التي اشتريتها من المشتل ، ضحك عمار وأنا أضعها أمامه وقال محتدا أكثر منه مندهشا : من أين تأتين بكل هذه السنادين وكل المشاتل مقفلة ..؟ قلت له : هناك مشتل واحد لا يزال بجازف بالبقاء مفتوحا ويقع قرب نفق الشرطة ، قال بطريقته في الضحك التي تعبر عن الانزعاج ، الم يغلق أبوابه بعد ، وكل الحواجز مقامة حوله وبالقرب منه ، بل ان سيارة مفخخة انفجرت بالقرب منه قبل اسبوع واغراض محل ابو الموبايلات غدت شذر مذر .." ص 20 .
إن كل ما يحدث للأشخاص على أرضهم في هذا النص يشكل قيمة درامية بذاته ، قيمة لا تنكشف فيها الدوافع والأسباب المعقدة التي أدت إليها صراحة ، بقدر ما توحي من خلال طرائق تصويرها وحواراتها بالمرجعيات المركبة الغائبة التي أنتجتها ولذلك يكمن الماضي القريب والبعيد ثاويا في أعماق الوقائع ، إن شخصيات الرواية لم ترد في العمل للتعبير عن ذواتها الخاصة ، وإنما تشكلت لتعبر عن جموع كبيرة من الناس ، وهذا ما جعلها حميمة من جهة ومتنوعة من جهة أخرى ، وهي فضلا عن كونها تبدو أول الأمر في حركة اعتيادية إلا أنها ما تلبث أن تصطدم بواقع العنف الذي يفاجئها في الشارع والبيت وعلى الأرصفة ، فدبابات المحتل وآلته العسكرية من جهة ، والقتلة المجهولون والمتفجرات والمداهمات وملاحقة الأبرياء لمجرد الاختلاف معهم في الرأي أو الثقافة أو التوجهات أو الدين ، وكل تلك الأمور تسحق بنية المجتمع وتفكك روابطه .
(4)
لا شك أن تأثير الإنسان بالمكان واثر المكان في الإنسان أمر قائم بجدل عبر التاريخ ،وقد ركزت الدراسات النقدية الحديثة على أهمية المكان في النص الأدبي وقسمته على أصناف عديدة منها الأليف والمعادي والموضوعي والمفترض ، كما قسموه أحيانا على ثنائيات تشتغل بحركية داخل النص كالساكن والمتحرك والمغلق والمفتوح وغيرها ، وعملية التوازن بين الأمكنة فيما بينها وبين الأمكنة والشخصيات تقنية مهمة تعمل الراوية على الاهتمام بها كل حين ، فهناك فروق شاسعة بين ماكان عليه المكان في أرض الحدث : بغداد ومدن العراق الأخرى من جمال وانسجام وما آل إليه من خراب ، وبين ما كانت عليه حياة الشخصيات من شعور بالأمن ، وما صار عليه الأمر اليوم من فزع ورعب ومداهمات داخل البيت نفسه .
إن المكان في الرواية وفي أي نص أدبي هو مكان خاص له مقاصده ورؤاه التي تمثل مقاصد المؤلف ورؤاه السياسية والثقافية ، فللمكان بعده السياسي والاجتماعي والثقافي ، بل هو يملك دورا وجوديا في حياة الانسان منذ بداية الخلق ، حيث كانت مغادرة المكان أول إشكالية في حياة المخلوق قلبتها رأسا على عقب ، ذلك أن العلاقة بين الانسان والمكان علاقة درامية ، من هنا كان الاعتداء على المكان يعمل بجدل دائم مع الاعتداء على الإنسان ، فكل تخريب للأرض يعمل بعمق على تخريب الذات الإنسانية وتجريحها ، إن إحراق المكان بالصواريخ وأنواع المتفجرات إنما هو اعتداء على الشخصيات وغدرٌ بها ونكاية بأمنها وقمع لحرياتها واقتحام بالخوف للبيوت التي هي مستقر حياة الإنسان وملاذه من مخاطر الخارج وما يكتنفه من مجهول "الآن لم تعد البيوت وحدها محصنة بالأسوار ولكن الشوارع والساحات والجسور شأنها شان السجون والمعتقلات محاطة بالجدران والحصون والسيطرات ، وبين كل جدار وجدار يوجد جدار .." ص 30 .
تقول الراوية لعمار فتى الحدائق الذي يرعى حديقة بيتها وهو يريد العودة لأهله في الديوانية بسبب واقع بغداد السئ والقتل المجاني : "لا تذهب ، ابق هنا في هذا الحي ، وهذا الشارع قد خلا من سكانه او كاد كما ترى ، وأنت الوحيد الذي يأتي إليّ بين صباح وأخر فأشعر بأني على قيد الحياة .." ص 20 ، فأي عذاب وأيّ وحشة تشعر بهما الراوية حينما تعدلهما بالموت ، إن العلاقة بين الإنسان والمكان قائمة على تبادل المشاعر والالتحام والتشرب حيث تنمو الدلالة النصية متشعبة متفرعة من خلال تكثيف الفعل الدرامي وتعقيد مساره ، ذلك الفعل الذي يجمع الشخصية والمكان مع العناصر الأخرى ، وهما في عملية الدمج تلك يقوم كل منهما بالتأثير في الآخر والحفر فيه ، لاسيما وأن الإنسان / الشخصية قادر على منح الأمكنة والأشياء قيمتها وأبعادها الذهنية والماورائية ، وقادر على تغيير ملامحها وتشكيلها على وفق أنماط مختلفة وقادرة أيضا على ابتداع بعض أنواعها ، فما أن يطأ الكائن الإنساني مكانا ما حتى تبدأ فعاليات التغيير ليكتسب المكان هوية جديدة (6 ) وكذلك يفعل المكان بالإنسان والأحداث في الرواية حينما يعمل على دمج العناصر ببعضها مشكلا عنصر بناء فاعل لعناصر السرد الأخرى اذ لم يعد المكان فضاء حاويا محايدا ، ويتسم الإنسان بالإحساس العميق بالمكان ويتبين هذا النزوع المكاني جليا حينما يبتعد الإنسان عن مكانه الأصلي ، فهذا النزوع يتواصل بوشائج متينة ، حيث يحفر المكان في أغوار الذات مسارب عميقة تبدو فيها سطوة المكان واضحة على الإنسان من خلال الألفة والترابط بين الطرفين ، لكن المكان من جهة أخرى وبعيدا عن تلك السطوة يغدو صديق ساكنيه إذ تصل الألفة بيتهما حد المشاركة في الفرح والحزن (7 ) وصورة المكان والأحداث التي تعرضها الراوية إنما تروى من خلال رؤية خاصة ، وهذه الرؤية يعرفها سعيد علوش بأنها ” موقف يتخذه المؤلف من موضوع أو شئ ما ” ( 8) وللبحث عن هذه الرؤية علينا أن نتذكر أن المحتوى الظاهر ليس هو الأكثر أهمية وان من الممكن الكشف عن دلالات ثاوية تحت البنى السطحية للنص هي الأكثر عمقا والأدق تواشجا مع كوامن الرواة ومن ورائهم المؤلف فمن الطبيعي لمتأمل هذا النص ان يلتقط وراء ملفوظ الوقائع تصورات الراوية ورؤيتها عن إدانة المحتل الأمريكي وبشاعة سياسته الخارجية العدوانية وعنجهيته اللا إنسانية ، كما تواجهنا الحوادث الأليمة بأهمية الأمن وجماليات الوطن الغائبة ، وضرورة السعادة الأسرية المفتقدة بسبب ما أحدثه الاحتلال من فوضى وشتات ونفي ، كل ذلك يصور لنا قبح العنف وأهمية السلام والمحبة وغير ذلك مما هو متخفٍّ وراء ما هو صريح واضح .
وتواصل الراوية لمساتها المكانية المرهفة لأحزان العراقيين بدءا من جرس باب الدار الذي اختفى باختفاء الأقارب والأصدقاء وانقطاع بعضهم عن بعض وغياب الزيارات وحفلات الأفراح والأعراس التي غابت مع غياب المكان الآمن ، فهذا المكان اليوم " مكان جيد للموت لا للحياة ، تارة أبو عمر الذي قتل وهو يقف في باب البيت ، وتارة ابو حيدر الذي باغته الرصاص وهو يقفل محله قبل ان يذهب إلى البيت .." ص33 وثالثة الصيدلي الشاب الذي حوله مسدس اعمى في يد عمياء إلى جثة مرمية على الرصيف .." ص42 هكذا صارت الأماكن الأليفة الجميلة ، مواطن السكن والرزق والعبور أمكنة للموت المجاني والغدر والعدوان.
إن رواية "حلم وردي" نصٌّ يكشف واقع الجريمة التي تجتاح العالم وتتمركز في العراق ، وتوقع بأهله وشعبه القتل والتنكيل معبرة عن ذلك بلغة جريئة ، ووقائع صادمة مع أن تفاصيلها تحدث يوميا وعبر دقائق الزمن العراقي في الليل والنهار ، وارتباطها الحميم بالواقع هو الذي منحها حيويتها وصدق انتمائها ، مراهنة في سردها على إشراك المتلقي في تشكيل عالمها الروائي الذي لا يحاكي الواقع بل يوازيه مشكلا معه جدلية فنية خطابية بين نصين هما نص الواقع ونص الرواية وما يحمله النص الأخير من إيهام واقعي هو ما يمنحه نفاذيته الدلالية ونجاحه الحجاجي الداخلي ، فضلا عن قدرته على إقامة علاقة استعارية مع الواقع تمنح النص مسافة جمالية بين المقروء ومرجعياته الواقعية المغذية له ، فالنماذج الأدبية تصبح عبارة عن وسائط علامية لهذا الواقع ، أي انها صور رمزية له وليست انعكاسا شكليا ، لأنها أشكال دالة وليست مضامين مدلولة ، فالعلاقة الجوهرية بين الحياة الاجتماعية والإبداع الأدبي لا تتمثل في مضمون هذين القطاعين ولكن في البنى الذهنية ، أي المقولات الفكرية التي تنظم الوعي التجريبي للفئة الاجتماعية المعينة والكون التخييلي الذي يبدعه الكاتب ( 9 ) .
ان الراوية تحلم بالوصول إلى سلام روحي ، تركن إليه بعد معاناة طويلة من حصار واغتراب وسفر من اجل لقمة العيش ، وبعد فقدانات شتى ولوعة أمهات ذهبن إلى قبورهن بحسرة أولادهن الشباب الذين لم يعودوا من الحرب إلا على الأكتاف ، أو لم يعودوا أصلا ، وهي في سعيها لذلك السلام تفاجئنا بحركتين تخللتا فعل الخراب ، إطلاق الكناري من قفصه ، والكشف عن جهاز البيانو . ان لكل خطاب تتحقق فيه الفعالية الكلامية مرجعيةً خاصة في إحالة معينة على ما يتحدث عنه ، وهو موضوع الحقيقة ما وراء الكلامية ، ولذلك يصر اللغويون على التمييز بين المعنى والمرجعية ، لأن استعمال العلامة اللغوية في حد ذاتها يحقق معناها الخاص فقط ، أما معرفة مجددات الاستعمال الظرفية والمنطقية فإنها تحقق القيمة المرجعية لذلك الاستعمال ، ولذلك يقتضي الفهم الحقيقي أو الإدراكي امتلاك الإجراء المساعد على تحديد المرجع أولا (10) ، وحين يكون المرجع واضح المعالم فانه سيكون قادرا على إضاءة النص ، ومؤازرا للقارئ في تحديد الإشارات الدالة وما توحي به من وظائف .
إن المكان وما يحدث فيه وما يقع عليه من حرائق وتمزيق وما يوضع عليه من حواجز وعوائق هو أرضية الدراما الحادة التي تعيشها الراوية / الشخصية الرئيسة في الرواية والتي تروي الوقائع من وجهة نظرها … أستاذة جامعية عاشت ظروف وطنها بوعي وسافرت وعملت في بلد عربي ، ثم عادت لوطنها في ظروفه الحالكة ، ولذلك كانت تتعامل مع الواقع وكوارث المكان بذكاء وحذر يتآزران مع روح مرهفة وعقل يتأمل ويميز ، وسمات هذه الشخصية ككل الشخصيات الاخرى في الرواية لا تتضح فقط من خلال الوصف والحوار والوقائع ، بل هي تكتمل حضورا من خلال علاقاتها مع الاخرين ، ومن خلال أدوارها الفاعلة في الحدث المرتبط بفضاء زمكاني معين ، ولذلك فان بناء الرواية بالرغم من احتوائه على قلق وخوف ودم واضطراب وحرائق وفوضى ومفخخات إلا أن التخطيط لذلك البناء او منجزه على المستوى النصي بدا متماسكا لا إرباك فيه ، كما أضفت انسيابية أحداثه على النص نوعا من الإشراق الأسلوبي الذي يقود القارئ لنهاية تنفتح فيها الرؤيا ويظللها حلم بالأمل والتواصل والانتظار . إذ يتحول ما هو قبيح واقعيا الى جميل إبداعيا حين يعمد الفن إلى تفريغ القبح الواقعي الذي جرح الروح ليكون محتملا بالتعبير عنه فنيا . إن القوى المحركة للمعنى في نص (حلم وردي فاتح اللون ) لا تكمن في إشكاليات حياة وجودية حيث الحب والمرض والموت وقضايا العيش المعقدة ، بل تكمن في علاقة صدام حادة بين شعب كامل وقوى محتدمة متداخلة منها الظاهر وكثير منها المتخفي والمغيب ، ولذلك كان المصير مجهولا لان العدو يمكن ان يطلع في كل مكان ، العدو ليس قادما من الخارج فقط او معسكرا على الحدود ، لانه ليس المحتل وحده ، بل هو أطراف عديدة أخرى ، ولذلك نجد هذه الرواية صورة صدق لحياة العراقيين بعد الاحتلال ، لكنها صورة فنية قامت اللغة فيها بمهمة بناء عالم فني يزخر بالإشكاليات ويلوّح بإمكانية العودة للسلام والتماسك مرة أخرى من خلال عودة عائلة الشاب ياسر الى بيتها تنتظر خروجه من السجن ، وتشير إلى حتمية عودة الحب والأمل بانتظار الحبيبة لحبيبها السجين ، فالسجن بالرغم من كونه مكانا معاديا ومغلقا ، إلا أن له أمدا ينتهي ، وحداً لا يتعداه ، وزمنا لا بد أن ينقضي . وكان البيت بكل أبعاده التي تمنح سمات الهوية الإنسانية رمزا للوطن الذي سيعاوده سلام البيت وشعور الإنسان فيه بالطمأنينة والانتماء.
الهوامش:
1- حلم وردي فاتح اللون ، ميسلون هادي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ط 1 ، بيروت ، 2009 .
2- معالجة نظرية لموضوع العنوان في الادب ، العنوان في شعر عبد القادر الجنابي نموذجا ، عبد الخالق الفلسطيني ، مقالة مستلة من اطروحة مقدمة لجامعة حيفا 2005 ، منشورة على موقع الانترنت ، www.jsad.net . ، 5 /9 /2010
3- في نظرية الرواية ، بحث في تقنيات السرد ،عبد الملك مرتاض ، 184 -185 ،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت ، 1998 .
4- النفس ، انفعالاتها وأمراضها وعلاجها ، د. علي كمال ، 1 /83 ، دار واسط للطباعة والنشر ، ط 4 ، بغداد ، 1983 .
5- جماليات المكان ، جاستون باشلار ، ترجمة غالب هلسا ، دار الجاحظ ، بغداد ،1980.
6- شعرية المكان في الرواية الجديدة ،الخطاب الروائي لأدوار الخراط نموذجا ،خالد حسين حسين ،104 ، كتاب الرياض ، مؤسسة اليمامة ، 2000 .
7- المصدر نفسه ، 106 .
8- معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة ، سعيد علوش ،222 ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، ط 1 ، 1985 .
9- مستويات اللغة في السرد العربي المعاصر ، محمد سالم محمد الأمين الطلبة ، 54-55، مؤسسة الانتشار العربي ، ط 1 ،بيروت ، 2008 .
10- المرجعية الاجتماعية في تكوين الخطاب الأدبي ، محمد خرماش ، 90 ، مجلة حوليات الجامعة التونسية ، 38 / 1995
1282 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع