إبراهيم الزبيدي
يتجنى كثيرون من العرب والأجانب على العراقيين حين يصمونهم بالقسوة والدموية والتطرف، وهم يعلمون، أو لا يعلمون، بـأن أكثر العنف الذي شهده العراق، من أيام الدولة الأموية وإلى اليوم، كان قادما من الخارج، ودخيلا على العراق والعراقيين.
ولو دققنا في تاريخ الوطن الذي اتُفق، حديثا، على تسميته العراق، لوجدنا أنه، عدا أيام الغزو الخارجي، أو حالات نجاح حكومات الدول المجاورة أو غير المجاورة في تملك بعض السياسيين العراقيين المنحرفين، بلدٌ آمن متسامح تعايشت وتتعايش فيه، مئات السنين، أقوامٌ وأجناس متباينة في المذاهب والأديان والأعراق والعقائد، في إلفة نادرة، وانسجام لا ينكره إلا جاهل من الجاهلين، أو ظالم من الظالمين.
ويردد المُغرضون، أو المتوهمون ما قاله عن العراقيين حاكمٌ ظالم سفاكُ دماء اسمُه الحجاج، ولا يُفصلون ولا يؤصلون الذين شتمهم ذلك القاتل الأحمق، وأسباب تلك الشتيمة، وظروفها.
فلم يكن الحجاج في خطبته الظالمة تلك عاقلا ولا منصفا. فقد عمم شتيمته على كل أهل العراق، وهذا مجانب للحكمة والنزاهة والعدل، فلا يعقل أن يكون شعبٌ كلـُه من الخيرين، ولا كلـُه من الأشرار . هذا شيء، والشيء الآخر أنه لم يكن عراقيا، بل كان من الطائف في الحجاز، ولا الذي ولاه على العراق كان عراقيا، أيضا، وهو الأموي القرشي عبد الملك بن مروان. ويومها كان العراق عراقيْن، عراقَ العرب وعراقَ العجم. كما أن الذين عناهم بخطبته السمجة التي نعتهم فيها بأنهم أهل شقاق ونفاق، لم يكونوا بجميعهم عراقيين، بل أقواما خليطة من العرب والمسلمين الوافدين إلى الكوفة والبصرة من نجد والحجاز وإفريقيا وأصفهان وقزوين وكرمنشاه، وكانوا في ثورة على الخليفة الأموي، وفي كرهٍ لوُلاته الفاسدين.
والأمر الأخر الذي يُروجه المغرضون المجحفون المرجفون عن غدر العراقيين نصفُ الحكاية عما حدث للإمام الحسين في كربلاء، حين جاء من المدينة المنورة موعودا بنصرتهم، ثم قتل غدرا على أرضهم، ولم يستطيعوا رد القتل عنه لشدةٍ في جيوش يزيد، وكثرة. ولا يذكرون النصف الآخر من الحكاية، وهو أن كثيرين منهم قاتل واستشهد معه ومن أجله، وأن التي قتلته على أرض كربلاء جيوشٌ خليطٌ وافدة من خارج العراق.
أما العنف الدموي الذي حدث في عراق العباسيين، بعد ذلك، فقد كان في أغلبه بأمر خلفاء غير عراقيين، وافدين من الحجاز، بجيوشٍ خليطة، أيضا، من أقوام وافدة على بغداد من أمصار الدولة المختلفة، وأكثرُها مما يعرف اليوم بتركيا وإيران.
وما فعله الغزاة الفرس والترك بالعراقيين، في غزواتهم المتعاقبة، لم تكن لعراقي فيه يد، بل كان، كله، وافدا على العراقيين، هو الآخر.
أما في العراق الحديث، عراق العراقيين الحقيقي، فلم يُعرف العنف إلا في حالات نادرة عابرة، وبفعل أيادٍ خبيثة تتسلل من الخارج لتنشر الموت فيه والحريق والخراب، فتفشل وتذهب ريحها ويبطل مفعولها، وتعود إلى الوطن والمواطن المودةُ والمحبة والسماح.
وإلى ما قبل حرب الخميني وصدام، بقليل، كان هذا العراق واحة خضراء زاهية، آمنة، بسيطة، حميمة، تضج لياليها بالسهرانين الفرحين، وصباحاتُها بالخارجين من منازلهم إلى أماكن عملهم برضا عميق، وقناعة هادئة، وتفاؤل لا يتوقف عن الجريان في عقولهم وقلوبهم، وهم يتحلقون، مسلمين ومسيحيين ويهودا، عربا وكوردا وتركمانا وصابئة، شيعة وسنة، حول أباريق الشاي، ورائحة المشاوي، أو يتزاحمون على دكاكين الكاهي والقيمر والباقلاء.
لم يكن يعرف السرقة، ولا المخدرات بكل أنواعها. وحين كان العراقيون يسمعون، في كل عشر سنوات مرّة، بحادثة سطو، أو بقتل، كان يعجبون من ذلك العراقي الناشز المنحرف الذي سرق أخا عراقيا آخر، أو تجرأ فقتله. وحتى ما كان يحصل في الانقلابات العسكرية، وهي قليلة، كان يحدث في أيام معدودة، ثم تعود الحياة العراقية إلى أمنها وانسيابها الهاديء الرزين، وكأن ما حدث كان غمامة صيف.
في الانقلاب الأول عام 1958 قُتل الملك وولي عهده وبعضُ أفراد أسرته، ولم يكن الانقلابيون مصممين على قتلهم، بل حدث ذلك عن طريق الخطأ، كما ادعوا ويدعون. وقد أجمع كل من كتب عن تلك الحادثة على أن أحد حراس الملك بادر بإطلاق النار فردّ عليه المهاجمون بعصبية وانفعال. بعضُ العراقيين فرح بمقتل عبد الإله، خال الملك ووصيه على العرش، لظلمه وفساده، لكن خلقا كثيرا منهم حزن كثيراً لمقتل الملك الشاب وأسرته.
وفي العام 1959 شهدت كركوك والموصل عنفا لم يكن يعرفه العراقيون. وقيل في تبريره إن من قام به مأجورون لأجانب ضد ماجورين لأجانب، أيضا.
وحين حدث انقلاب العام 1963 ضدّ الزعيم عبد الكريم قاسم دشن البعثيون مسلسل العنف ضد اليساريين وأنصار الزعيم، نقمة وردا على عنف آخرَ سبق. وقيل يومها إن ما حدث كان وافدا أيضا (بقطار أمريكي).
وفي انقلاب عبد السلام عارف على البعثيين في تشرين الثاني/نوفمبر 1963 لم يُقتل أحد. ولكن بعودة البعثيين إلى الحكم في العام 1968 عاد مسلسل العنف من جديد.
وحين نعيد هذا العنف إلى أسبابه الحقيقية نجده عنفَ حزب حاكم ضد من يقاتله لحساب دولة مجاورة تدعو علنا لأسقاطه، وفق نظرية تصدير الثورة التي اخترعها الإمام.
والثابت الذي أكدته أحداث ما بعد الغزو الأمريكي وهيمنة الأحزاب الإسلامية الموالية لإيران أن دوافعه لم تكن طائفية ولا عنصرية ولا دينية، وتتحمل المعارضة العراقية وإيران وسوريا وأمريكا مسؤوليته إلى حد بعيد.
نعم كان صدام حسين، بطبيعة تكوينه القبلي، مغاليا في عنفه الاستباقي الذي جعل الكثير من قراراته التعسفية، ومنها قرار تهجير العراقيين الشيعة إلى إيران وسوريا، أساس الخراب الذي جاء بعد ذاك، والسببَ الأقوى في سقوط نظامه، دون ريب، وهيمنة الزعانف المنحرفة الفاسدة على وطن العراقيين. فقد أهدى، بقراره الخاطيء ذاك، لإيران الخميني وسوريا حافظ أسد فرصة احتضان المهجرين وإطعامهم وإيوائهم، ثم تجهيلهم وتضليلهم، وتحميلهم بكراهة الوطن وأهله، وليس حاكمه وحده، وسهل عليهم تجنيد كثيرين من المبعدين، وإعادتهم إلى الوطن حاقدين ناقمين، لقتل آبائهم وأمهاتهم وإخوتهم، وهم لا يشعرون.
وإذا اتفقنا، بعد هذا العرض الطويل، على أن كل ماحدث في العراق من عنف، على امتداد تاريخه الطويل، كان طارئا ودخيلا، فإن ملايين العراقيين كانت تتمنى أن يكون رحيل نظام صدام حسين موعدا لوداع العنف، وعودة الوطن إلى عافيته، وإلى أمنه وهدوئه وصلاحه من جديد، بعد رحلة عذاب وحزن وخوف طويلة وثقيلة لا تحتمل.
فهل حقق رفاقنا المعارضون السابقون، عبد العزيز الحكيم وولده عمار وأحمد الجلبي وابراهيم الجعفري ونوري المالكي وحيدر العبادي وأياد علاوي ومسعود وجلال والعامري والبطاط، هذا العَشَم؟ لديكم الجواب.
1439 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع