د.منار الشوربجي
تصريحات مختلفة خلال الأسابيع الماضية، ذكرتني بما لاحظته من خلال دراستي الطويلة للولايات المتحدة، من أن الساسة الأميركيين مولعون بالقياس التاريخي. فهم مع كل موقف معاصر، يستجلبون حدثاً تاريخياً يقيسون عليه، ثم يعلنون أنهم بسبب هذا القياس، يتخذون الموقف الذي يتخذونه من القضية المعاصرة.
وفي الكثير من الأحيان، يكون القياس على موقف تاريخي مغاير تماماً للواقع المعاصر، من الناحية الموضوعية، فينتج عن القياس عليه كوارث سياسية. فعندما احتلت أميركا العراق، مثلاً، تم استدعاء أفكار حرب فيتنام.
فأثناء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، حين تورطت أميركا في فيتنام، كانت الفكرة الرئيسة، هي أن السماح للشيوعية بالسيطرة على دولة ما، معناه أن تسقط كل الدول المجاورة لصالح السوفييت بمنطق «الدومينو».
فإذا كانت الولايات المتحدة قد «فقدت الصين» لصالح الشيوعية، كما قالوا وقتها، فإن المهم هو الحيلولة دون «انتشار العدوى» في آسيا. وعبثاً حاول الخبراء الأميركيون في الشؤون الآسيوية، إقناع الساسة الأميركان، بأن الصين والاتحاد السوفييتي كانا يشهدان صدعاً في العلاقة بينهما في ذلك الوقت.
كما ذهبت محاولات أولئك الخبراء أدراج الرياح، حين أكدوا على أن حركة الفييت كونج في فيتنام، كانت حركة تحرر وطني بالدرجة الأولى، لا حركة تابعة للسوفييت، هدفها فرض الشيوعية.
ولم يكن بعيداً عن أذهان السياسيين وقتها، فكرة مكنونها عنصري في جوهره، مؤداها أن أولئك الآسيويين، الذين «يشبهون بعضهم البعض»، لا بد أنهم سيتصرفون بالطريقة نفسها!، وهى فكرة أكدت وجودها آنذاك في دوائر صنع القرار كتابات من كانوا يعملون بالأجهزة المختلفة وقتها.
وحين استعدت الولايات المتحدة لاحتلال العراق، استدعت نظرية الدومينو من جديد، ولكن معكوسة. فوقتها قال المحافظون الجدد، إن غزو العراق واحتلاله وإنشاء «ديمقراطية» على الطراز الأميركي، ومتحالفة مع الولايات المتحدة، سيحول كل دول المنطقة مثل الدومينو لدول ديمقراطية متحالفة مع أميركا.
ومرة أخرى، فشل الخبراء في التحذير من تلك الأفكار والقياسات الخاطئة. الطريف في الأمر، أن تلك القياسات التاريخية، التي تستخدم في إنتاج السياسة، كما في التبرير والدعاية، لا تسمح مطلقاً بالتعلم من دروس التاريخ، فأعادت الولايات المتحدة إنتاج الكثير من أخطاء فيتنام في العراق.
تذكرت تأملاتي تلك، بسبب تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وأخرى للمرشح الجمهوري بن كارسن. ونتنياهو تعلم وعاش لفترة طويلة في الولايات المتحدة الأميركية، ويفهم الذهنية الأميركية جيداً، ويستغل كل ذلك في مخاطبة الولايات المتحدة.
وهو لم يكف أبداً عن استدعاء أحداث تاريخية للقياس عليها، أهمها اتفاق ميونخ عام 1938، وآخرها المحرقة النازية. فالاتفاق الذي أبرم بين ألمانيا النازية من ناحية، وكل من بريطانيا وفرنسا من الناحية الأخرى في 1938، كان قد تم الاتفاق فيه على منح هتلر ما طلبه، وهو ضم جزء من تشيكوسلوفاكيا لألمانيا.
ونتنياهو يستدعى ذلك الحدث، بغض النظر عن علاقته بالواقع المعاصر، باعتباره كان مهادنة غير مقبولة للنازية، لم تمنع قيام الحرب العالمية الثانية، كما تمنت بريطانيا وفرنسا، ولم تجنب أوروبا جرائم النازية.
لكن نتنياهو تفوق على نفسه مؤخراً، بأن زور التاريخ، حين زعم أن هتلر لم يكن ينوى قتل اليهود، وإنما طردهم فقط، لولا أن أوعز إليه مفتي القدس وقتها، الشيخ أمين الحسيني، بإبادتهم. وهى حكاية لم تحدث أصلاً، إذ يوثق التاريخ بوضوح لجرائم هتلر في حق اليهود، قبل زيارة الشيخ الحسيني لألمانيا بأعوام.
والمستهدف طبعاً من كلام نتنياهو، ليس الشيخ الحسيني، وإنما الشعب الفلسطيني، أي تبرير الاحتلال والقتل والتهجير، فضلاً عن رفض أي تسوية تضمن الحقوق الفلسطينية، عبر تحميل الفلسطينيين مسؤولية جرائم هتلر.
والمرشح الجمهوري بن كارسن، مولع أيضاً بالقياس التاريخي الخاطئ، وهو بالمناسبة، يستدعي النازية كثيراً هو الآخر. فهو في معرض دفاعه عن امتلاك الأميركيين للسلاح وحمله، صرح بأن هتلر لم يكن ليقدر على ارتكاب الهولوكست، لو كان اليهود وقتها يمتلكون سلاحاً!، وهو وصف الوضع في أميركا بقوله «إننا نعيش في عصر الجستابو»!
غير أن اللافت للانتباه، هو أن بن كارسن، الأميركي من أصول أفريقية، يستدعى تاريخ العبودية المرير بقياسات بائسة طوال الوقت. فهو كان قد اعتبر أن قانون أوباما للرعاية الصحية «أسوأ ما حدث للولايات المتحدة منذ زمن العبودية». بل أن القانون «نوع من العبودية»، لأنه يجعل الحكومة «تسيطر» على اختيارات الناس.
وبقدر ما تبدو أهداف نتنياهو واضحة من وراء قياسات تقوم على تزوير التاريخ أو الواقع، تبدو المواقف التي يتخذها بن كارسن وقياساته البائسة، تخدم حملته الانتخابية.
فالواضح أنها تجذب جمهوراً في أقصى اليمين الأميركي، تعجبه مثل تلك التشبيهات والقياسات التي تسمح بالتحلل من أي مسؤولية عن تصحيح أوضاع معاصرة. وفى حالتي نتنياهو وكارسن، فإن مثل تلك القياسات البائسة، ترسم صورة «الأمة الضحية» البريئة في مواجهة «العدوان»، «الفلسطيني» في حالة نتنياهو، و«الحكومي» في حالة كارسن!
2149 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع