ميسون الدملوجي
عرفته لأول مرة، خارج إطار السياسة، في حوار دار بيني وبينه في مجلس الحكم عن المعمار البرازيلي أوسكار نماير الذي صمم مدينة برازيليا عاصمة البرازيل في منتصف القرن العشرين. ترك طاولة الحوار التي يلتف حولها أعضاء مجلس الحكم، لسبب ما، وجلس جواري في الخط الخلفي.
كنت أحدثه عن الجوانب التصميمية والتخطيطية لبرازيليا، بينما كان يحدثني عن العوامل السياسية التي دفعت المعمار نماير الى تخطيط المدينة بشكلها الحالي. اكتشفت يومها ان الجلبي ليس مجرد سياسي مثير للجدل، كما تطلق عليه الصحافة الغربية، وانما مثقف من الطراز العالي. أعترف انني يومها قاومت هذا الاكتشاف بسبب اختلافي مع سياسته. وبمرور الأيام، أصبحت علاقتي بالجلبي تتحول الى صداقة جميلة وعميقة، ازدادت أواصرها من خلال اهتماماتنا المشتركة بأثاث فرانك لويد رايت والسينما والموسيقى وتأريخ حضارة وادي الرافدين والفنون التشكيلية العراقية والعالمية وغيرها. وفي كل زيارة كان يطلعني على لوحة جديدة قام باقتنائها، أو قطعة أثاث قام بصناعتها من وحي صورة لأعمال رايت. كان سعيداً بإعادة بناء بيت والده (السِيف)، في الكاظمية، وأطلعني على مراحل ترميم المبنى الكبير في الجانب الثاني من الموقع، وكيفية الحفاظ على (العكادة) في السقوف وقد اعتنى بإبرازها بدلاً من تغطيتها، وسمايات الطابق العلوي، ودار بي في سطح المبنى، وشرح التوزيع الوظيفي للفضاءات. وبين البيت والمبنى الكبير كان البستان الذي يعرف نخلاته واحدة واحدة، والمسبح الذي يقضي في داخله أكثر فترات استجمامه. وأصبح (السيف) مأوانا، وأنا وأصدقاء مقربون، كل جمعة تقريباً، نجتمع حول غداء لذيذ وصحبة ممتعة.
وفي (السيف)، يسترجع الجلبي مع د. أياد، إذا كان حاضراً، ذكريات أيام المعارضة، بحلوها ومرها، ونتحاور معه عن الأوضاع الحالية ويحثنا على تقوية علاقاتنا بهذا الطرف السياسي وذاك. كان الجلبي مهموماً بتدهور الأمور وبالفساد الذي لحق كل مفاصل الدولة، ويكلمنا عن ملفات ينوي فتحها حول غسيل الأموال وتهريبها. كان يمتلك معلومات واسعة عن هدر الأموال، معززة بالوثائق والأرقام وبأدق التفاصيل. كنت ألح عليه في لقاءاتنا الأخيرة للدفاع عن نفسه أمام الهجمة الشرسة التي شنت مؤخراً ضده، ولكنه لم يكن يبالي بما يقال، ويعزو الهجمة الى ملفات الفساد المصرفي وقرب كشف الحقائق أمام الناس.
مرة، كنت أتحاور معه عن اهتمام الدولة الإيرانية بصيانة إرثها الحضاري، سواء الفارسي أو الإسلامي، وأهمية هذا الإرث في الثقافة المجتمعية الإيرانية. سألته: إيران بلد الثقافة والفكر والموسيقى والسينما والسجاد والمؤسسات الثقافية الرصينة، لماذا لا ترسل للعراق سوى نفاياتها من جهل وكراهية؟ أجاب بطريقته المازحة: ان السوق عرض وطلب، يبعثون لنا بالسجاد حينما نريد سجاداً، وبالنفايات حينما يجدون سوقاً لها!
كنت ألومه كثيراً على قضية اجتثاث البعث، فيجيب انه أرادها لحماية البعثيين من التصفيات والاغتيالات التي كانت ستحدث لولاها. كان يؤكد ان الاجتثاث أصبح وسيلة للتمييز الطائفي خارجاً عن إرادته. أعترف انني تصديت له أمام الملأ أكثر من مرة، وبشدة أحياناً، كانت إحداها في اجتماع أقامه في نادي الصيد عام 2010 وأمام المئات من الناس، حول محاولته إعادة البيت الشيعي. ومرة أخرى في مجلس النواب عام 2014، حول تبديل رأيه بين ليلة وضحاها في تعديل قانون الانتخابات. ومرات أخرى كثيرة، كنت أتوقع بعدها أن يغضب ويزعل مني. ولكنني فوجئت في كل مرة بتسامح وأريحية لم أكن أتوقعها. بل كان سنداً وظهيراً في الكثير من خطواتي في السنوات الخمس الأخيرة. عزائي انني لم أكن أدري بالدموع التي سأذرفها برحيله المفاجئ والمثير للتساؤلات.
لقائي الأخير معه كان يوم الأحد الماضي، قبل وفاته بيومين. ذهبت مع زميلتي سروة عبدالواحد الى اللجنة المالية للسلام وطلب مخصصات للمؤسسات الثقافية والإعلامية في موازنة عام 2016. كان حيوياً كعادته، ووعدنا خيراً، بالرغم من الوضع المالي الصعب. وافترقنا على موعد الغداء كالعادة يوم الجمعة القادم!
حدث، أيام مجلس الحكم أيضاً، انني كنت مع غيري حينما وصل خبر غير مؤكد عن إلقاء القبض على الرئيس المخلوع صدام حسين. كان أعضاء مجلس الحكم والموظفون في حالة فوضى وترقب، بينما كنت أراقب الجلبي في حديقة بعيدة خارج المبنى يتحدث على الجوال ذهاباً وأياباً ليتأكد من صحة الخبر. بعد حوالي نصف ساعة دخل الجلبي المبنى منتشياً، ورأيت بعيني الموظفين والعاملين يستقبلونه بالهلاهل والتصفيق استقبال الأبطال. كان بطل اللحظة، وربما كان هذا هو التتويج الذي يستحقه الجلبي لإصراره على إزالة نظام القسوة والقهر، وهو بشر، يخفق حيناً وينجح حيناً.
وعبر نجاحاته، وبرغم اخفاقاته، استمر الجلبي في البحث عن الحلول بحماسة يحسد عليها. كان مدنياً بغدادياً، أضاع صورته هذه ثم خانته سجيته وثقافته فعاد ليبحث عنها. سعى بكل ما في وسعه، وبالوسائل التي اعتقدها صحيحة، ان ينهي حقبة الدكتاتورية ويساهم في بناء عراق افضل للجميع، حتى وان لم يصبح هذا (العراق الافضل) الذي حلم به هو كثيراً، حقيقة على الارض، لأخطاء اقترفها بنفسه حيناً، ولأسباب خارجة عن ارادته حيناً آخر. سنواته الأخيرة في الحياة قضاها في جهد حثيث لكشف ملفات فساد خطيرة لا يستطيع الا من هو بقدراته ان يحيط بها ويكشفها لنا جميعاً. غاب مبكراً في لحظة عراقية صعبة وقاسية نحتاجه فيها اكثر من اي زمن مضى.
2048 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع