قصـــة صهيل الجنادب

                                                                 

                                         حسين رحيم

يقين يقطر دما.. مشكوكا به تتآكل ظلمات نفسي كلما ركنت رأس الهواجس والريبة على كتف قلبك.. يسوقني نهر نحو مصب محايث يلحقني بعجالة خوف توارثني .. أورثني جيلا بعد جيل وأنت هناك واقف كأيروس يحقن حبه في رحم كراهيتي.. تصيح بغضب لوثه ضحكك.. أخفوا وجوهكم فأن ميدوزا عشقي تصلب تواريخ وجوهكم وتحنطها.. انه الشيب إذا.. من هنا البداية .

ادخل غرفتي تفاجئني الكتب مرصوصة على الرفوف بصمتها الجبار لكنك تسبقني إلى هناك بابتسامة تخلع رداء الليل من عينيك. هدوء مستريب.. يقبع اسفل عيونهم.. اجلس/ يواجهني رسمهم/ الكل يحدق/ الكل ينتظر/ ماذا يا.. محراب العصافير.. ماذا في حقيبتك.. أتفرس فيهم واحدا واحدا.. كلهم كانوا هناك صلوا لأجلها.. طهروا أجسادهم بعرقها.. عبقوا مناخيرهم بضوعها الملكي.. كلهم كانوا عندها الاي.. تلوي عنقك باتجاهي ؟؟.. ماذا يا سيد المحاريب.. تلوث وجهي بضحكتك الحليبية.. دعك منهم.. فما هم إلا نتاجات المطابع.. ثم تعود مجددا تنثر أرز ابتسامتك على رؤوسنا.. وتهمس.. اسمعوا.. أصيخوا سمعكم.. انه الصهيل.. صهيل الجنادب.. الجنادب تصهل.. الجنادب تصهل.. هاهو ملاك المساءات يجثو أمامي متوسلا ومضة من صبح يحفر في تلك الظلمات خندقا يوصل ما بين الشمس وبينه. اجلس إليك يا صديقي.. يفيض من عينيك تاريخ من أيامي يتبعثر بين زمنك وزمني.. فاحتار.. أيهما أنا.. أيهما أنت.. لكن أوراق ذاكرتي تخبرني دوما عن الآتين.. استل ورقة واقرا الخطاب.. وجهي أقنعة/ مهرجان/ كرنفال حزين/ زوربا بوذا..زوربوذا .. اصرخ بصوت اخضر من ندى الصباحات يا شقيق جبل هندرين، يا بيبون جبل مقلوب، يا بلوط دشت حرير، كيف تركتموني وحيدا بلا ونيس، بلا معول يحفر لي موضعا/ خندقا.. وأنا اقف مستجيرا بأجنحة الثور المجنح بأرجله الخمس والجموع خلفي تهدر.. الحزن فضاء.. والرغبة انتهاء.. هاهو التاريخ يحفر لنا نهرا في قاع المدونات هل تذكر كنا سوية هناك واحمرار الغضب والسماء تمطر اقحونات برية نتنفس عبيرها كل مساء حين تهجع أفواه المدافع عن قذف غضبها رعب الساعات والدقائق ذلك الوميض الذي يسبق صرخة الموت.
هل تذكر.. كنا نجلس سوية/ نصغي لموسيقى الربيع/ لصهيل الجنادب/ للآتي أبوابه والجرح فم حزين يكبر هذا هو خطابي.. من يصعد أليه أيها المنبر ليلونه بالفرح.. هل قلت الفرح.. إذن لندخل ونفتح سبعة أبواب وسبعة مداخن للمدينة لنجد الذي قلته أنت.. لا أنا. ولنبدأ.. الجسر العتيق.. شيخ جليل ولد قبل خمسين عاما يمتهن العبور الذي يفصل بين موصل لا وموصل نعم ودجلة كل عام عند ولادة ورد البرتقال والعرموط والليمون والزعرور ينظف بأحزانه الزرقاء سيقانه العديدة.. مدون على بابه بحبر اسود يعطي احمرارا جاء من مخرج سخام حمام (عبيد آغا) ودم خفاش..(اعبر دجلة من أي مكان لكنك لن تفهم عبورك إلا من هنا)../ونعبر/ نصعد قليلا.. يمينا نرى ابن الأثير جالسا كعادته وأمامه جمع يصغي بوله وحزن يزيد من حماسه..وكان في الجمع(حسين النمنم) يرتدي معطفا قديما ويبكي بخجل (والدامية) قدامه قد نثرت شعرها الطويل على الحضور وساقية من دموعها قد اتصلت بدجلة لتلونه بحكاياتها.(وجوعان) يرتدي قمصلة مرقطة وهو  يدون في دفتره يوميات مطبخ(وفريج الاكرع) يركض بين الحضور لقمع أي ابتسامة قد تكدر لذة الحزن (وابن الأثير) يهدر صوته كموج بحر في زمن عاصف.. تلك الليلة هبط ملاك التدوين من سماء طالع التاريخ ليشرب شاي الصباحات معنا وليقاسمنا رغيفنا الذي اتخذ شكل الكتابة طيلة أيام السنة.
لنسع الخطى نحو أعالي المدينة قبل أن نقع في ليلها فهو أمين أسرارها وصائن حرمتها وهواجسها وطموحات العوانس ونسوة.. رحلة المطبخ والسرير.. العذاب المؤجل.. نعجل، نعبر، يوقفنا(حارس نور الدين زنكي) توقفنا منارة الحدباء يوقفنا الجسر العتيق.. قفوا وتأملوا.. إيه يا سيدي دجلة ما الذي فعله عبورك بي.. ففي بدء كل موسم يغزوني ويبذر فيّ بذوره العنيدة اكف متنوعة من كل لون وحجم / خشنة وناعمة.. رقيقة وعريضة.. معروفة وملساء.. اكف يتداخل فيها خط القلب بخط المصير والحياة خطوط ومرتفعات ومثلثات ومربعات.. أجرام/مشتري/زحل/مريخ/القمر/مصائر متنوعة/إنها أجرام واحدة بين الأرض والكون تدور من ملايين السنين.
وطيلة عام يا ولدي نقوم بحصد منابت تلك البذور اللعينة واجتثاثها أنا واخوتي/النبي يونس/النبي جرجيس/الخضر/.. لقد تعبت يا ولدي، انظر إلى جسدي المتطاول كالبحر الذي تثلمت جوانبه بحماقات المد وجزرها. نعبر. يلحقنا جمع من جنادب نطاطة وصهيلهم موسيقى ليل أليف.ز كررررربك.. كررررربك.. انظر إليهم بسيقانهم المنشارية الطويلة تسحبنا بحبال من تركناهم هناك قبل الرحيل ونصل(حظيرة السادة) وموت مسافات الحزن.. كلها روائح قفلنا عليها مغادرين/ الحنين قناع نرتديه في مناسبات بروتوكول الذكريات/ هل تفهم لغة الروائح.. إنها لغة الانحسار عن مدى الآخرين.. حدود البقاء.. الغضب رائحته صفراء. الفرح رائحته سمراء.. الخوف رائحته المطر.. ونعود.. ماذا بعد؟.. هل وصلت.. هل تعلم..هل تفهم.. نحن رحلات نحن أسراب من حمام ما زال يغذي هذه السماء بالتحليق.. نحن أسراب نحن سراب.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1385 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع