سميتها الدرة المكنونة لأنها كالدرة الجالسة في محارها، ومحارها الجبال المحيطة بها، التي تزهو بألوانها وأزهارها وخضرتها في الربيع.
وهي من أحدث المدن القديمة، ولا تناقض في القول؛ فهي حديثة لا يتجاوز تاريخها أواخر القرن الثامن عشر، وهي قديمة بتراثها وعمارتها.
يقول المؤرخون إن الأمير إبراهيم بابان شيدها وسماها على اسم والده سليمان باشا. هذا ما تقوله كتبهم ودفاترهم.. عليها اللعنة! فأنا أفضّل ما سمعته من الشارع. وفي الشارع يروون لك حكاية أجمل؛ قالوا إن 10 قبائل كانت تسكن الجبال المحيطة. وعلى ديدن القبائل، كانوا يتقاتلون باستمرار. ثم ظهر بينهم نفر من العقلاء. ففي ذلك الزمن كان هناك بعض العقلاء فعلا في العراق. لاحظوا أن كل هذه المشكلات ترجع لبعض الأفراد من الأشقيائية والزعران، تماما كما هو الحال الآن في عموم الشرق الأوسط. تناقشوا في الأمر ثم قرروا أن تطرد كل قبيلة 50 شقيا من أشقيائها. ففعلوا. طردوهم من الجبل فنزلوا للوادي واضطروا لبناء بيوت تقيهم برد كردستان وثلوجها. ومن هذه البيوت نشأت مدينة السليمانية. حكاية أجمل بكثير مما يقوله المؤرخون.
يمضي الراوي، د. ممو عثمان فيقول إن هذا من أسرار روح الحرية والفردية والحضارة والثورية التي تتميز بها المدينة. فعندما تسأل أحدهم عن أصله لا تسمعه ينسب نفسه لقبيلة، بل يقول أنا ابن المدينة.
حدثنا سائق التاكسي (المصدر الأول والأخير عما يجري في أي بلد)، فقال: هذه أوروبا. هذه مدينة السليمانية. نظرتُ فرأيتُ نساءها يمشين سافرات، وبآخر ما شاع في أوروبا من الموضات. وبنات السليمانية من أجمل بنات العالم. ولمَ لا، فهن سلالة أولئك الأشقيائية. وأحذر بذلك كل من يفكر في خطبة واحدة منهن. ففي هذه المدينة يوجد ملجأ للرجال فيه الآن 64 رجلا التجأوا للسلطات لتحميهم من زوجاتهم وضربهن واعتدائهن عليهم. صدق سائق التاكسي. هذه أوروبا. وفيها يفرض القانون شروطا قاسية على تعدد الزوجات. ضربت يدا بيد وقلت للنادلة الحسناء في الفندق: آه! من هذا القانون! فلولاه لمشيت لبيتك وخطبتك من أهلك. فضحكت عن أسنان مثل عقد من اللؤلؤ. يا ويلي!
دخلت مخازن المولات فوجدتها لا تقل في شيء عن المولات في أوروبا تنظيما ونظافة ووفرة وأمانة. طبقت نفس المقياس الذي أستعمله دوما في قياس الحضارة، أعني دورة المياه. فدخلت مرحاض المول، وقلت لنفسي: «ماكو سؤال. هذي مرحاض أحطها على راسي». ولا عجب أن اختيرت مدينة السليمانية كأول مدينة في النظافة من مدن العراق.
قادتنا السيدة نرمين عثمان، العضو في الاتحاد الوطني إلى المقهى الشعبي في السوق. لم يغص المقهى بالزبائن كما غص بصور من شُنقوا وقُتلوا وماتوا بالغاز من أجل كردستان. وتحت هذه الصور امتد صف طويل ممن لم يقضوا نحبهم، منهمكين بلعب الطاولة. لم أتمالك وأنا أتناول صحن المحلبي الذي اشتهر به المقهى غير أن أستذكر كلمات الجواهري فقلت:
الحمدُ للتاريخِ أنْ قدْ بُدّلت
تِلك المتاعبُ فاستحلن مَلاعبا
825 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع