د.عبدالقادر القيسي
في 29 /11/ 2015، صرح مقرر لجنة الأمن والدفاع في البرلمان، (شاخوان عبد الله)، إن وزير الداخلية، محمد سالم الغبان، قال انه لن يرسل رواتب منتسبي الشرطة والقوى الأمنية في محافظة كركوك، طالما بقي اللواء جمال طاهر مديرا عاما للشرطة في المحافظة، وأضاف عبد الله، أن الغبان أبلغه أن "اللواء جمال طاهر أُعفي من منصبه، وليس من حقه أن يستمر في إدارة مديرية الشرطة، والوزارة لن تتعامل معه، ووقف رواتب منتسبي الوزارة في كركوك متصل بهذه القضية". اننا سنعلق في ضوء التصريح اعلاه:
من المفترض اننا نعيش في دولة قانون وليس دولة بوليسية، وليس ببعيد عن ذلك أوامر الإقالة التي طالت ضباط عديدين منهم مهنيين كفئويين، كما صرح بذلك عدة برلمانيين وسياسيين، واوامر الإقالة هذه التي أصدرها وزير الداخلية قد تهدد الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي في البلاد.
وكثير من هذه القرارات وصفت بانها ارتجالية وغير مشروعة ومخالفة للقانون، ولا تخرج في حقيقتها عن كونها ذات إبعاد سياسية، ستؤدي الى تعقيد المشهد الأمني وتوسع نفوذ المليشيات في مفاصل الأجهزة الأمنية، وهذه القرارات غير مدروسة في غياب دور للمحافظة في تصويبها وجعلها ضمن أطار الحق والعدل والمساواة في تطبيق القانون.
ان وزير الداخلية لم يلتزم بالاختصاص المنوط به قانوناً، وبنفس القدر لا يجوز له أن يتجاوز نطاق ولايته، وهذه القرارات هي للتنكيل بأبناء العراق من منتسبي شرطة محافظة كركوك باستخدام سلاح متاح وفتاك اسمه حرمان منتسبين من رواتبهم لأجل الضغط على مديرهم لتنفيذ امر الإقالة، وما يفهم من ذلك واضح، فالمسألة لا تتعلق لا بخيارات دولة ونظام ولا برؤية امنية مجمع عليها بل بمساحة صغيرة تقاطعت فيها ثلاث عناصر، وزير مثقف تصور بان {التشدد} يساعده في البقاء أكثر في دائرة القرار، منتسبين لا حول لهم ولا قوة حائرين بين رغبات المحافظة او رغبات وزارة الداخلية الاتحادية، ونخب سياسية تصورت بأن افضل طريق لإرغام مدير الشرطة الذي تؤيده جهة سياسية معينة هو حرمان منتسبيه من رواتبهم لأجل ان ينصاع لأمر الوزير؛ لم اسمع في كل دول العالم عن هكذا عقوبات او قرارات ؛؛؛؛؛؛؛، فالصحف ومواقع الانترنت والتصريحات تحّدثت عن عدم شرعية قرار الوزير ومناكفته لقواعد العدالة وضماناتها.
ان حرمان وزير الداخلية منتسبي الشرطة في محافظة كركوك من استلام رواتبهم يؤسس لثقافة الغلبة والاستقواء والتعسف في استعمال الحق، وعلى وزارة الداخلية الابتعاد عن الصراعات والمماحكات الشخصية التي لا تخدم الوطن والمواطن، مذكرين بأنَّ المسؤولية الوطنية تحتم على الجميع تغليب المصلحة العامة.
وأننا نسأل السيد الوزير عن التكييف القانوني لقراره بحرمان منتسبي الشرطة في المحافظة من رواتبهم وتحت أي نص أصدر قراره؟ وهل وزير الداخلية يملك الحق القانوني لإصدار مثل ذلك القرار؟ ان القرار تعسفي وصدر خارج الأطر والسياقات القانونية والدستورية والإدارية، وسيكون نقاشنا من خلال المفردات التالية:
خارج السياقات والنصوص القانونية:
لا يجوز لوزير الداخلية أن يخلق قاعدة قانونية (تحرم أو تبيح) راتب لمنتسب؛ بل عليه ان يعمل لتؤدي الحقوق إلى أصحابها، وألا يصاحب قراراته التعسف وابتغاء المصالح الخاصة، لاسيما ان قانون (الخدمة والتقاعد لقوى الامن الداخلي رقم 18 لسنة 2011) وتعديلاته بالرقم 22 لسنة 2013، لم يرد فيه نص لعقوبة بعنوان (حرمان منتسب من راتبه) حتى تعطي مبرر للوزير باتخاذها، واحكام قانون الخدمة المدنية رقم (24) لسنة 1960 المعدل أيضا لم يرد فيه نص تتيح للمسؤول الإداري الأعلى معاقبة موظف بحرمانه من راتبه ولم ترد عقوبة حرمان موظف من راتبه في قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام المرقم 14 لسنة 1991 المعدل؛ فكيف والامر حرمان منتسبي محافظة كاملة من رواتبهم بسبب عدم تنفيذ مدير شرطتهم لأمر وزير الداخلية، والعقوبة للمنتسب الذي يخل بواجبات وظيفته تأتي دائما من تشكيل لجنة تحقيقية تحقق مع الموظف المسيء وبعدها تكون للوزير بموجب القانون ان يختار العقوبة المناسبة وقراره خاضع للتظلم والطعن وفق القانون.
ان قرار وزير الداخلية بتوجيه العقوبة الجماعية غير ساري المفعول؛ ومنسوخ ولا أثر قانوني له، ومن يحسم الخلاف هو القضاء الإداري خصوصاً؛ أن وزير الداخلية جهة تنفيذية، وهناك الكثير من القرارات التي تصدرها المؤسسات الحكومية التنفيذية وتعتقد بقانونيتها، لكن عندما تواجه امام القضاء الإداري يتم إلغاؤها، حتى ولو صرح مسئولي تلك الوزارات بأنها شرعية، فالحَكَم هو مطابقة القرار لنص وروح القانون الساري في العراق.
قرارات وزير الداخلية بحرمان منتسبي شرطة كركوك من رواتبهم، قرارات انتقامية وانتقائية ظلمت فيها سلطة وزارة الداخلية منتسبيها في محافظة كركوك وتعسفت في ممارسة صلاحياتها الإدارية والقانونية والدستورية للإضرار من خلال تلك القرارات والاوامر بخصومها السياسيين.
يجب على القضاء دستوريا وقانونيا بسط سلطته ورقابته عليها حتى لا تكون مصائر المواطنين معلقة بيد السلطة التنفيذية دون رقابة قضائية وعلى القضاء العراقي مسؤولية تاريخية لا يجوز له التخلي عنها وهي النظر والحكم في صحة وسلامة إجراءات الحكومة في حرمان موظفين من راتبهم لعقوبة لم يرتكبونها وتحقيقا لأمر يتعلق بمدير شرطتهم.
والقرارات والاوامر التي يصدرها أي وزير، تتعلق بشئون وزارته يجب ان تكون داخلة في اختصاص وزارته أو بناءً على تفويض من مجلس الوزراء، وماحدث في قرار وزير الداخلية بحرمان منتسبي الشرطة من رواتبهم ينطوي عن إساءة استعمال السلطة والتعسف باستخدامها.
خارج السياقات الإدارية والامنية:
من المبادئ المستقرة في نطاق القانون الإداري أن المصلحة العامة تتفوَّق على المصالح الخاصة، وعلى هذا الأساس تقوم الإدارة العامة، في معرض تسييرها للمرافق العامة، باتخاذ قرارات إدارية هي سبيلها لوضع المصلحة العامة في حيّز التطبيق الفعلي، ونجد ان قرار وزير الداخلية بوقف صرف رواتب منتسبي الشرطة في كركوك تعسفي وخالف ابسط الأصول الادارية المفترض اتباعها، حفاظا على حقوق المتضررين وتحقيقا للصالح العام للمحافظة.
ان قرار وزير الداخلية اتسم بالغلو الصارخ وعدم الملاءمة في اتخاذ هكذا عقوبة، التي تعد بذاتها تعسفا وتدل على شبهة انتقام وانحراف شديد بالمصلحة العامة، وهي بأي حال جسيمة في العرف الإداري والتأديبي.
ان قرار وزير الداخلية بإقالة مدير شرطة محافظة كركوك فيه تنكب عن وجه المصلحة العامة التي كان مفروضا ً أن تكون هذه المصلحة العامة حاضرة في ذهن متخذ القرار من خلال اخذ راي محافظ كركوك والتشاور والتباحث مع مجلس المحافظة(اللجنة الأمنية) وتفحص الوقائع وتلمس معالمها في ضوء الظروف المحيطة بها؛ بما لا يخل بمصلحة كل من الدائرة والموظف، والقرار ترك اثار سلبية على المحافظة وشدها الى الوراء، متخطيا ًبقصد وعن هوى كافة الثوابت الإدارية والقانونية، والقرار معيب قانونا وفاقدا لصفته كقرار إداري، ومعدوم الأثر، مما يوصم بعيب الانحراف بالسلطة، وعدم مراعاة المصلحة العامة للوطن؛ في ظل عدم تقدير للأضرار الناجمة من إصدار قرارات وقوانين لا تراعي هوية محافظة كركوك وقيمها.
خارج الأطر والمبادئ الدستورية:
من جماع النصوص الدستورية والأحكام الواردة في دستور عام 2005 النافذ يتضح أن المشرع الدستوري قد أولي اهتمام خاصاً بالحرية الشخصية ومراعاة مبدأ ان العقوبة شخصية التي وردت في المادة 19 منه، ووضع المشرع قيوداً على السلطة في توجيه العقوبات دون نص قانوني يغطي تلك العقوبة ولم يرد فيه نص؛ بأن (العقوبة جماعية) وانما(العقوبة شخصية) وجعل الاعتداء على الحرية الشخصية جريمة لا تسقط بالتقادم وكفل لكل من تعرض للاعتداء على حريته وحقوقه تعويضا عادلا، إلا أن وزارة الداخلية ضربت بكل القوانين والنصوص الدستورية عرض الحائط، منتهكه بذلك مبدأ سيادة القانون والفصل بين السلطات، وقرار الوزير بصيغته المطروحة يفتقر إلى سبب أو مسوغ دستوري او قانوني ومشوبا بالتعسف الصارخ، وهو ما يمكن أن يوصف بانعدام اللياقة السياسية، فضلاً عن عدم المشروعية الدستورية الصارخة، لما يترتب على تنفيذ هذا القرار فداحة الأثر بنيله من حق دستوري وحرية من الحريات العامة التي كفلها الدستور.
في هذا المشهد المخجل بالمقياس الدستوري والديمقراطي، قرار وزير الداخلية؛ لا يعبث فقط بمصالح المستقبل العراقي لكنه يمس بأبسط قواعد الوحدة الوطنية والاستقرار الاجتماعي بسبب اجندات سياسية.
خارج الأطر والمفاهيم الدولية:
عندما تصدر المؤسسات التشريعية قانون (ما) لابد ان تستحضر الاستحقاقات الدولية وتراعي القيم المعلومة التي اجمعت عليها البشرية، فهناك قيم حقوقية جديدة وصلت لها البشرية من خلال عدة اتفاقيات وبرتوكولات دولية بالإضافة إلى العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وقد وقع عليها العراق وهذه الاتفاقيات والمعاهدات والبروتوكولات جعلت من تلك القرارات الارتجالية والممارسات التعسفية جريمة دولية، إذ تخالف روح الدستور وصريح القانون، والاتفاقيات الدولية في ذات الشأن، فكما أن هناك محددات داخلية ايضاً هناك محددات واستحقاقات دولية يجب مراعاتها عند سن أي قانون، او اتخاذ أي قرار او امر او صدور تعليمات، فالأمر أعقد من قرار يصدر بصيغة عقوبة جماعية بالحرمان من الراتب تصدره جهة تنفيذية، وليس لأحد الحق أن (يلزم) او يعاقب إلا بناءً على نص قانوني.
ان وزير الداخلية انزل مقصلة قرارته التعسفية هذه لتقطع روابط انتماء منتسبي شرطة كركوك بوزارتهم الاتحادية، وظلت المقصلة قائماً نصلها يُهدد كل مُقدم على النقد والتحرر في الرأي أو التعبير ضد سياسات وزارة الداخلية.
هل تصبح مصائر أهل العراق بمزاج السلطة أو وزير ما، أو يخضع المواطن ومصيره لمساومات من مسؤولي السلطة التنفيذية، وإذا تخلى القضاء عن مسئولته فواجب المجتمع رد السلطة إلى جادة الصواب والحق ونصرة المظلومين من أبناء الوطن.
وزارة الداخلية وهي الوزارة الاكثر تعقيدا، ولديها خبرة تراكمية وحضور اجتماعي ويجب ان يكون وزيرها ادائه كسياسي رفيع المستوي يؤمن بالإطار القومي أكثر من أي شيء اخر، وبكل تأكيد ليس في ذهن الوزير التعسف او التشدد وليس في ذهنه ايذاء الناس بل حماية مصالح المجتمع عبر تطبيق القوانين والتعليمات، ولذلك ينبغي على السيد الوزير ان لا يجعل قراراته تقرأ بكل الاحوال قراءة سياسية، لان في ذلك محاذير وتكلفة خطيرة وتنتج عنه مشاكل أكبر قد تهدد الاستقرار الأمني والقانوني والدولة تقرر ضمن مصالح عليا.
أصبح مفهوم الامن متشعب والوان شتى يمكن لكل خصم أن يلوح به في وجه خصمه ويجره الى مالا تحمد عقباه في حالة استطاع الخصم اثبات تهمة الاخلال بالأمن ولو بشبهة خاصة، وان العالم مهوس بهده المسالة، ويبقى القضاء الملجأ الأخير لحفظ الحقوق ولإنصاف الضحايا، ولوقف تعسف الدولة الإداري.
وأخيرا: قال: قال رسول الله(ص):
(( لا تكونوا إمعة، تقولون : إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا )) [الترمذي].
848 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع