مصطفى جواد ولقالق بغداد

                          

                                 خالد القشطيني

كما قلت في مقالتي السابقة، لم يذق أستاذي حقي الشبلي، رائد المسرح العراقي، النوم بعد لقائه مع البنّاء أبو داود. ظل يفكر طوال الليل في سؤال أبو داود:

لماذا تعشش اللقالق على منائر صوب الرصافة ولا تذهب لمنائر صوب الكرخ من مدينة بغداد؟.

لم ينته لنتيجة، ففكر في طرح السؤال على الدكتور مصطفى جواد، الخبير بالتاريخ العربي. ما إن حل الصباح حتى فتح مكالمة مع الأستاذ مصطفى. طرح عليه ذلك السؤال. مرت ثوان من السكوت والحيرة، حتى أجابه:

«هذه أستاذ حقي مشكلة عويصة. أنا أعرف بالبشر، ولكن معرفتي باللقالق قليلة. أعطني يومين أفكر في الموضوع».
- «خذ عدة أيام ولكن أعطني جوابك».
ومرت الأيام حتى رن التليفون على حقي الشبلي: «أستاذ حقي، صوب الكرخ هو منطقة المدينة المدورة التي بناها المنصور. كانت تحيط بها أسوار وأبراج يقف فيها الجند لحراسة قصر الخليفة. ما إن تقترب اللقالق من القصر حتى يضربوها بالنبال ويقتلوها. لا يسمحون لها بأن تبني أعشاشها هناك وتذرق على القصر.
ولهذا تعلمت هذه الطيور على تحاشي منطقة الكرخ والتوجه إلى منائر صوب الرصافة على الجانب الشمالي من نهر دجلة. والرصافة منطقة حافلة بالسكارى والبغايا والأفاقين، فلا يعبأون بما تفعله اللقالق. وهكذا تأرخت هذه الظاهرة. وهذا رأيي أستاذ حقي، وفوق كل ذي رأي عليم له رأي آخر في العراق».
شكره أستاذي حقي وجلس ينتظر المساء لينقل جواب الدكتور مصطفى جواد للبناء أبو داود. مرت سويعات قليلة والأستاذ حقي ينقنق من أطباقه ويحتسي من شرابه، حتى أطل الأسطى البناء من طرف زقاق الحيدرخانة، وعلى رأسه طاقيته يترنح على عادته في طريقه إلى البيت. فناداه حقي الشبلي: «أبو داود، مساك الله بالخير. سألت لك أحسن خبير في الموضوع. الدكتور مصطفى جواد. وهو يقول..». ونقل إلى مسامع الأسطى البناء ما أدلى به أستاذ الأدب العربي من رأي: «أنا أرى أن هذا رأي معقول يفسر هذه الظاهرة.. إيش تقول انت؟».
نكس أبو داود طاقيته وحك رأسه من الجانبين. فكر قليلا ثم فتح فمه ونطق: «لا أستاذنا لا. هذا كلام ما يخش بالعقل. يعني صاحبك هذا مصطفى جواد يريد أن يقول لنا إن هذه اللقالق من يوم أبو جعفر المنصور لليوم الأب فيها يقول لابنه اسمع وليدي لا تروح لصوب الكرخ وتبني بيتك هناك.. أكو جنود هناك يضربوك بالقوس والنبال ويقتلوك. هذا كلام ما يخش بالعقل. مصطفى جواد أستاذ يعرف باللغة والشعر، وإيش عرفه باللقالق وتفكير اللقالق؟ أستاذ حقي شوف غير هالجواب وخبرني على راحتك».
وضع أبو داود طاقيته على رأسه ومضى يترنح في طريقه. وعاد أستاذنا الجليل إلى طاولة الشراب خائبًا حائرًا حتى خطر له أن يستفتي بشأن الأمر صديقه عباس البغدادي الخبير بالعاصمة العراقية وأحوال أهلها من بشر وطير. وهو ما سنأتي على ذكره في الحلقة المقبلة من هذا الموضوع.. اللقالق وشغفها ببناء أعشاشها على مآذن المساجد ومنائر الكنائس.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1166 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع