دلع المفتي
«لا أحب فيروز» جملة بسيطة وردت على لسان بطلة مسلسل «غداً نلتقي» السوري، أقامت الدنيا ولم تقعدها في لبنان، فاندلقت الاتهامات بأنّ المسلسل أساء إلى رمز فني لبناني، ناسين أنه لا يشرق الصباح في سوريا من دون أغنية لفيروز على كل قناة، وعلى كل شرفة وفي كل سيارة تاكسي.
كيف يمكنك ألا تحب فيروز؟ فيروز الأيقونة، فيروز سفيرتنا إلى النجوم، فيروز الأرزة، فيروز التي غنت لكل الأديان وكل بلاد العرب ولم تغنّ. لحاكم عربي. كيف يجرؤ أحدنا على عدم حبها؟! الجواب: «بكل بساطة».
الإعجاب، أو الذائقة موضوع نسبي يختلف من شخص لآخر، والمفروض أن يكون حقاً مكفولاً لكل إنسان بأن يعجب بمن يراه يستحق. لكن في عالمنا المتخلف، عليك أن تحب ما أحب، وإلا فأنت بلا ذوق.. هذه إن أردنا تخفيف التهمة. فحتى الإعجاب والمحبة نفرضهما فرضا.
هي الدكتاتورية نفسها، لكن بالوجه الفني. ففي عقلنا الجمعي هناك أسماء مكرسة لا نستطيع أن نقترب منها إلا بالثناء والتمجيد والقدسية في بعض الأحيان. جرب أن تقول لسعودي أنك لا تحب محمد عبده مثلا، أو لسوري مع صباح فخري، أو لمصري مع ام كلثوم.
أما في السياسة والدين، فأنت إن لم تحب من نحب، تصبح تهمتك أكبر وجرمك أعظم، وستصبح خائناً امبرياليا انبطاحيا ماسونيا متغرباً وربما كافراً. فعلى الصعيد الديني، التبعية العمياء وتقديس كلام رجال الدين ربما أكثر من الدين نفسه، جعل الشيوخ في عقول البعض منزهين لا يجرؤ أحدنا على انتقادهم أو التشكيك في كلامهم، وإن فعلت فتهمتك جاهزة «يا كافر». ألم يقف بعض أئمة الأوقاف في مصر حاملين لافتة تقول «غضب الدعاة من غضب الله»؟!
أما على الصعيد السياسي، فالمشوار ابتدأ بجمال عبدالناصر، وأكمل بالحبيب بورقيبة، حافظ الأسد وابنه الشبل، مرورا بالقذافي وصدام حسين، والحبل على الجرار. هو «تابو» ممنوع علينا الاقتراب منه. فظاهرة تقديس الحكام والتفنن في ابتداع صفات لهم تكاد تكون إلهية، مرض شرقي بامتياز.
ألم يقل الشاعر شفيق كمالي في صدام:
لولاك ما هطل المطر
لولاك ما طلع الشجر
لولاك ما بزغ القمر
لولاك يا صدام ما خلق البشر؟!
وحتى نكون منصفين، الحق لا يقع بكامله على الشخصيات ذاتها، فالذنب ذنب بعض الشعوب التي اتخذت النفاق أسلوبا ومنهجا مع حكامها. انشدوا القصائد، لحّنوا الأغاني، شيدوا التماثيل، علقوا صورهم في كل وزارة ومؤسسة، وسموا الشوارع والمدارس والمناطق وحتى مواليدهم بأسماء حكامهم.
يحكى أن الخليفة العباسي الناصر لدين الله، الذي بلغ مقام التقديس، خرج من بيته وفي طريقه إلى سامراء وقف وتبول، أكرمكم الله، في الصحراء، فلما انتقل من المكان بنى أهالي المنطقة عليها قبة عالية سمّوها «مشهد البولة»!
مع اعتذاري لبذاءة المثال، لكن هل هناك أبشع وأحط مثال على تخلّفنا وسذاجتنا ونفاقنا؟!
912 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع