سلام مسافر
قالتها بصوت خفيض كمن يخشى ان يسمعه واش في ليل معتم.
سارة شهاب احمد حامد الصراف حفيدة علمين من اعلام العراق.
جدها لوالدتها العلامة احمد سوسة . وكلاهما انتقلا الى العالم الاخر تباعا قبل ان يحل بالبلاد خراب الاحتلال وحكومات الحرامية.
ولم يكتمل عقدها الفتي حتى فجعت سارة بمقتل عالية. اخر من تبقى من نسل احمد سوسة الذي زوج كريمته لشهاب النجل البكر لاحمد حامد الصراف ولم يكن يتصور ان عالية ستتمزق في تفجير ارهابي مع ممثل الامم المتحدة في العراق سيرجيو فييرادي ميللو شهر أب/اغسطس من العام 2003.
الاحمدان سوسة والصراف كانا يرسمان خرائط زاهية عن العراق. الأحمد سوسة يخطط للأنهار والاحمد الصراف يناكف مصطفى جواد في هوى الحلاج.
كنّا وشهاب نصل البيت الوردي المشيد من اجر لم تتاكله أتربة بغداد، نفتح الباب الخارجي بصخب لم يبلغ العشرين؛ وقبل ان يفتح شهاب الباب الخشبي يكون عبق الشبوي؛ لفح وجوهنا المكتضة خمرا ونشوة وضحكات تصك الأسنان. فتهدأ سريرتنا ونسمع صوته الرخيم من الطابق العلوي يغني
الف حيف وألف وسفة.
ثم ينزل علينا كالغبش في هزيع الليل.
ويأخذنا الى عشقه المستديم الحلاج ويعرج بِنَا نحو ذكريات حكومته حين كان قاضيا في كربلاء.
ولا نستفيق من عذوبة الأحلام بعد سهرة تمتد الى الفجر؛ الا وصوت قبقاب (دادا لا لا) يوقظ الله كي يصلي له.
(دادا لالا) اعتمر من الهند الى عبد القادر الكيلاني وطابت له الإقامة في (كنج) بأعلى بيت احمد حامد الصراف.
ونسى"لا لا" الهند وذاب حبا بالقمر الصمداني عبد القادر الكيلاني.وعاش موزعا بين (الكنج) في الأعالي وزيارة الولي كل جمعة يرتدي بدلة أنيقة تقطر نظافة، كان يغسلها بنفسه ويحرص على التعطر ويفرد يديه الهزيلتين مرحبا بزوار البيت العتيق في ركن بالوزيرية.
وعلى مسافة من نفس الحي، يغرق بيت احمد سوسة برفوف الكتب،وشتلات الشبوي وضحكات عالية الطفولية التي تحرص على تذكير والدها بمواعيد الطعام، فالعالم النحيل المستغرق بالبحث والتنقيب عن تاريخ العرب وجغرافية الكون وهندسة المدن غالبا ما ينسى ان لمعدته حق عليه مثلما لرأسه المتقد ببياض يليق بعالم اذا قدمت اليه انتابك شعور بأنك بين يدي ملاك من بابل.
واحمد سوسة لا يتكلم الا حين يسال. واذا تحدث تدفقت ينابيع المعرفة كخرير نهر عذب.
كنا نحج الى البيتين كلما سنحت الفرصة. وفي بيت احمد حامد الصراف نلتقي الشاعر حسين مردان الذي يحج الى ام شهاب، السيدة عدوية الالوسي، عقيلة احمد حامد الصراف طمعا في "بامية ملوكية" كما كان يردد وهو يغمس يده في صحن ثمل بكؤوس الزحلاوي. وقفشات احمد حامد وقهقهات شهاب والضحكات المكتومة لشيماء والتعليقات اللاذعة لشمول كريمتي الصراف.
ولم نتصور في ذلك الزمن الجميل، أنا سننسل من العراق؛ مثل القطط المذعورة دون وداع مع من كانا يحنوان علينا بعلمهم الغزير، ويغدقان على ارواحنا القلقلة وعقولنا الحائرة؛ويوصيان تلميحا بتجنب الخوص في السياسة لان البلد لا يحتمل مزيدا من الثورات والكوارث.
ومع ان الأخوين ماركس ولينين كانا يستحوذان على عقولنا، ولا يتركان مجالا لتفحص مخاوف الكبار من مغبة الانزلاق نحو الهاوية الرثة حين تصل الدهماء الى الحكم. الا ان جانبا خفيا من وجداننا كان يهتف في السر ويلهم ارواحنا القلقة بعشق التراث. وحينها كنا مغرمين بأغنية تقول
You are in green said of my mind
حينها كانت بغداد، تتنفس الأمل. وكنا نعاكس احمد فياض المفرجي الأرشيفي والباحث المسرحي على عبارته الأثيرة "أتنفس الندم".
لم أندم على فراق بغداد،حين عدت اليها بعد غياب دام ستة وثلاثون عاما. فالمدينة لم تعد تشبهنا. وحين امضيت فيها شهر شباط من العام الماضي خمس ساعات ونصف، لم اتصل بالأهل والأحبة والاصدقاء كي لا تتشوه صورهم القديمة؛على خلفية مدينة كالحة مجلجلة بالسواد.
- عمو الأرضة تهاجمنا!
قالت لي سارة في ليلتها الاخيرة وبعد ان انجزت مهمة تاريخية.
الملاك الحارس لتراث سوسة والصراف. نقل مكتبة احمد سوسة الى البيت الثقافي البغدادي.
- اصبح بعهدتهم اما المخطوطات والمقتنيات الخاصة بجدو فقد أودعتها عند أصدقاء. وقالت وهي تلهث عبر الهاتف
- عمو أكو ناس حافظين نصوص كاملة من مؤلفات جدو.
سارة التي كبرت في الاحزان؛ تثق بالمسؤولين عن البيت الثقافي البغدادي.
وتقول :
- فقط شارع المتنبي يشبه بغداد التي هجرتها من زمان ..عمو.
كانت عالية احمد سوسة حين تضحك على بعض النكات الفجة؛يشرق وجهها وتذوب أرنبة انفها في تفاصيل الوجه المنمنم.
سارة خافت على تراث جدها من الأرضة التي تزحف على البيت العتيق في ركن بالوزيرية. حل غرباء على الشارع الذي ذبلت أشجاره ومات الشبوي في حدائقه الخاوية.
- الأرضة تهاجمنا!!
نعم حبيبتي سارة تهاجمنا في كل مكان.
الگاردينيا: الأخ والصديق /سلام مسافر..أهلا وسهلا بكم في حدائقنا .. تحياتنا لكم من هنا الى موسكو..
675 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع