جمالية اللغة وفضاءاتها النسقية في قصائد علي جعفر العلاق

                                           

                             عصام شرتح

  

جمالية اللغة وفضاءاتها النسقية في قصائد علي جعفر العلاق

                   

أولاً- تأسيسات نظرية:
الشعر –بالأساس- فعالية لغوية تقوم بمنجزها اللغوي على الحراك الدلالي، والعمق في صنع مثيراتها ومنظوماتها الإبداعية؛ إذ إن " الكتابة بلغة جديدة ، أي الكتابة بلغة استعارية، غير اللغة السياقية التي درج على الكتابة بها الشعراء الخمسينيون ، فهي لغة ذات موقف جديد من القوانين النحوية والدلالية ؛ فلم يعد الشاعر يعتمدعلى التشبيهات ، بل على الاستعارات والكنايات .. ويطلق العنان للغته تمارس حريتها، و بذلك؛ لم تعد العلاقة بين دال استعاراته ومدلولها علاقة مطابقة؛ بل علاقة منافرة في الغالب"( ). وهذا دليل أن للغة الشعرية ميزانها الخاص؛ وناموسها المحدد؛ فهي أداة الشعر وقالبه اللفظي؛ وبهذا التصور يبدو لنا:" أن اللغة- أية لغة- لها قوانينها أو قواعدها؛ فإن عجز الكاتب عن فهم قواعد لغته فلا يعني أنه جدد في لغته أن كتب بلغة جديدة. والكاتب الستيني يظهر عجزاً في فهم هذه اللغة، من ثم أن يطبق قواعدها النحوية ، ناهيك عن إظهار بلاغة هذه اللغة، وكأن عذره في ذلك هو هجره للتشبيهات ، واعتماده على الاستعارات التي تبرز بالانزياحات عن تحليل القصيدة، إن كتب شعراً أو سطراً نقداً "( ).
واللغة الشعرية لا تكون عامل تحفيز إبداعي؛ إن لم تنطوِ على رؤيا محددة تثيرها ؛ تقول الناقدة بشرى البستاني في هذاالخصوص:" لا بد للغة من محرك يبث فيها الروح، ويشعل نبضها الحميم كي تنهض بالحيوية التي تمنحها الاستمرار والديمومة، وهذا المحرك المهم  الذي يجعل من اللغة شعراً ، ويلونها بالألق والحياة والتوهج هو الرؤيا وعمق التجربة، إذ كلما توهجت الرؤيا زادت حركية اللغة؛ وتنوعت آليات فعلها، وتعددت مجالات اشتغالها، وفضاءات أدائها ونتاجها الدلالي ؛ فالرؤيا قبل ذلك هي القدرة على اقتناص نبض الأشياء، والكشف عن سرها الغامض أو الخفي ، بالرغم من ضجيج العالم وفوضاه، بها يرى الشاعر كل ما هو كامن وراء سطح الحياة وطمأنينتها الخادعة من موضوعات لا حصر لها، موضوعات تتفجر بقلق الإبداع والنشوة والنضارة"( ).
وتبعاً لهذا ، فالحداثة الشعرية هي تفجير للبنى اللغوية، بوصفها عملية انقلاب ثورية في تشكيل اللغة، واستجرار مثيراتها النسقية بالانزياح والصورة وغيرها من المثيرات؛ تقول بشرى البستاني:" إن الحداثة الشعرية التي طال الحديث عنها، إنما هي كامنة باللغة، وفي الرؤى المحركة لها؛ إذ يصبح الموروث المعجمي القار بعيداً جداً، وسلبياً بإزاء شعرية وصفها الجديد وطاقتها الحبلى بالاحتمال والقابلة لمزيد من القراءة، والحفر، والتوكيد؛ لأنها مزودة بطاقة ثرة وخصبة وغنية ذات مرونة وشفافية عالية في الاستقبال والمزاوجة والاستشراف"( ).
وما ينبغي تأكيده أن حداثة الشاعر ومنظاره الرؤيوي يكمن في لغته، وأسلوب تشكيلة الفني؛ إذ "إن الأسلوب لا يحقق فعله وكثافته، إذا قصد الشاعر إلى اعتماد الأساليب المنطقية، التي تحول ما يؤلف إلى تصنيفات علمية جافة قد تستعصي على الفهم الدقيق للنص الشعري، إنه لا يأتي إلا بعد استغلال بارع للطبع، وبذل جهد ومعاناة، وذوق ينميه؛ لأنه ركيزة البلاغة؛ وحقلها الأساسي. وقد ارتبطت غايته بالتأثير في المتلقي؛ إنه يحقق البلاغة ( الوضوح والتأثير) . والشاعر المتفوق هو الذي يملك حساسية خاصة في استغلال الأدوات التعبيرية المتعددة التي تكون نصاً من نصوص الشعر"( ).
وبهذا التصور، فإن النص الشعري يزخر بالتقنيات، والآليات، والإشارات النصية التي تعزز شعريته بمثيراته اللغوية؛ يقول أدونيس:" باللغة يظهر الإنسان ما هو، وبها يتأسس، ويتحقق. إنها ممارسة كيانية للوجود أو هي شكل وجود، قبل أن تكون شكل تواصل، إلا لأنها كانت الشكل المبين لوجوده. والشاعر – إذن- لا يكتب عن الشيء، وإنما يكتب الشيء. إذ اللغة ليست للإنسان لكي يقول ما هو واقع وحسب، وإنما هي أيضاً ، وقبل ذلك يقول الوجود- كينونة وصيرورة"( ).
وباللغة ، وعن طريق ممارستها الإبداعية في النص الشعري تتحقق بؤرتها الجمالية؛ وهي التي تشكل الحافز الإبداعي؛ حينما تكون مفعلة بالاستعارات المبتكرة ، والرؤى المفجرة لمتشاكلاتها اللغوية. وهذا يقودنا إلى نتيجة مؤداها " أن النص ليس إشارات آلية تكون فيها الألفاظ وعاء لتفجر الوجدان أو خلوه من تراكيبه وقيمته، ذلك أن المحتوى ليس مقياساً للشعر، تضبط به حركيته، بل إنه تركيب لغوي وكلام مخيل ، يعلو على لغة الخطاب اليومي"( ).
وهذا؛ يدلنا أن الشاعر المبدع خبير لغوي، أو فقيه لغوي- إن جاز التعبير-  يختار الشكل الأسلوبي اللغوي الملائم لرؤيته أو ممثل لطبيعة مخيلاته الشعرية، وبناءً على هذا : " فإن طرق ترتيب المفردات، ورص الجمل وتواشجها تعد من أهم المصادر الدالة على إيقاع اللغة الشعرية؛ إذ يتجول الشاعر بين مفرداته ، فيقدم كلمة، ويؤخر أخرى ضمن نسق جمالي خاص يفرض على الشاعر نوعاً من الاختيار القهري لتركيب ما يتلاءم مع صميم الموقف الوجداني الذي يعيشه"( ).
وطبيعي أن اللغة وإمكانية توظيفها تتحكم في طريقة الأسلوب ، أو الصوغ الشعري، ولهذا "اتفق كثير من الباحثين على أن لكل أديب أو فنان أسلوبه الخاص الذي يعني طريقة تعبيره، وصورة من صورها من حيث كونه إنساناً له خصائص معينة ، تميزه عن غيره من الناس. لهذا عد بعض النقاد أن الأسلوب هو الرجل نفسه، وتضافر أساليب الأفراد في مجموعهم في النهاية لتشكل أسلوب الأمة. فلكل أمة من الأمم قديماً وحديثاً أسلوبها في الكتابة بنوعيها الشعر والنثر، مشكلة بذلك خصائصها التي تميزها عن بقية الأمم خاصة، إذ إن التاريخ الأدبي وثيق الصلة بجميع الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، لكل أمة، بل إن هذه الظواهر كل منها يتفاعل مع الآخر؛ ومؤثر فيه بشكل من الأشكال"( ).
وتبعاً لهذا؛ نلحظ " أن تعدد مستويات التعبير، واختلاف طرقه، قد أديا بعلماء اللغة إلى الالتفات إلى التأثيرات الوجدانية للألفاظ والعبارات ، ومن هنا، ارتبط علم الأسلوب بالأدب ، لما تتميز به اللغة الأدبية بالذات من تأثير وجداني واضح"( ).
وتأسيساً على ما سبق؛ يمكن أن نعد المستوى اللغوي من أكثر المستويات إثارة في قصائد العلاق، نظراً إلى فاعلية اللغة- لديه- على تحفيز القارئ بمستويات إبداعها، وتمظهراتها الفنية؛ إذ يستشف القارئ الدقيق لأشعار العلاق، أنه يمتلك الموهبة الإبداعية الفذة ؛ القادرة على مناوشة إحساس المتلقي، نظراً إلى ما يملكه من تجذر إبداعي بالانفتاح على الموروث الأدبي، والتاريخي، والمثيولوجي القديم؛ وما يمتلكه من جذور معرفية حداثاوية في الفكر والإحساس والانفتاح على المعاصرة بما في ذلك التراث الغربي، والحضارة الغربية.
لقد حاول العلاق أن يؤسس لغته الشعرية على فاعلية منظوره المتطور للتراث؛ إذ حرك الأحداث التاريخية بوقائعها المعاصرة؛ وأضفى على المشهد الشعري حيوية خصبة؛ وحراكاً رؤيوياً انعكس على المشهد ، أو بنية الصور الشعرية مداً دلالياً، وتجذراً إبداعياً على رؤىً معاصرة، وتقنيات حداثاوية جديدة، لم تشهدها القصيدة –لديه- من قبل ؛ مما أدى إلى تنامي الإفرازات الجمالية لمحفزات قصائده ؛ ليشكل السؤال محرقها الإبداعي وبعدها التأملي؛ ومصدر حراكها الإيحائي المكثف.
ثانياً- الخصائص الجمالية لبنية اللغة الشعرية عند العلاق:
ويمكن أن نتبين الملامح الجمالية أو الخصائص الجمالية لبنية اللغة الشعرية عند العلاق وفق المقتربات التالية:
1-جمالية اللغة الشعرية/ والمقوِّم التركيبي.
لا شك في أن شعرية اللغة لا تظهر فاعليتها ومصدر إبداعها الحقيقي إلا بالمقوم التركيبي ، هذا المقوم التركيبي يمنح القصيدة كيمياء الفعل الإبداعي.أو كيمياء الخلق الفني؛ يقول جان كوهن:" إن القصيدة الشعرية هي كيمياء الفعل التي تحدث عنها رامبو تلك الكيمياء تجتمع بفضلها داخل الجملة كلمات لا تجتمع من وجهة نظر المعايير الاستعمالية للغة"( ). وبفضل هذا الاجتماع اللامتوقع لعناصر البنى الشعرية ومتجاوزاتها النسقية تتحدد جمالية اللغة، وشكلها الفني ؛ وهذا يدلنا أن " النص وحدة كبرى شاملة لا تضمها وحدة أكبر منها؛ وهذه الوحدة الكبرى تتشكل من أجزاء مختلفة تقع من الناحية النحوية على مستوى أفقي، ومن الناحية الدلالية على مستوى رأسي. ويتكون المستوى الأول من وحدات نصية صغرى تربط بينها علاقات نحوية ، ويتكون المستوى الثاني من تصورات كلية تربط بينها علاقات التماسك الدلالية المنطقية؛ ومن ثم يصعب أن يعتمد في تحليل النص على نظرية بعينها، وإنما يمكن أن تبنى نظرية كلية ، تتفرع إلى نظريات صغرى تحتية تستوعب كل المستويات"( ).
وتكمن جمالية اللغة الشعرية بمقدار انزياح المقوم التركيبي عن المألوف، ليخلق شكله الفني ، لكن هذا لا يعني أن يكون الانزياح مشوهاً للشعرية أو أن يكون المقوم التركيبي مغربناً بالغموض والتشظي الدلالي ، فلا بد لتحقيق الجمالية من مبدأ التناسب والتلاؤم بين الجمل؛ " فالجمال يتحقق إذا وجد التناسب والتلاؤم الذي يتيح للذات المتأملة أن تصل إلى تفهم العلاقات بين الأشياء، لأن الإدراك الجمالي لا نستطيع أن نحيط به إلا بإدراكنا لما يحيط به من مصاحبات أخرى، وفيما يتصل بالأدب أو الفن عموماً تظل القضية صحيحة؛ فنحن لا نحس بجمال الكلمة أو البيت الشعري إلا لصلته أو تواؤمه أو تناسبه مع الجمل الأخرى، أو الأبيات الأخرى"( ).
ويعد المقوم التركيبي من أبرز مقومات شعرية العلاق، هذه الشعرية التي تقتنص أكثر التمظهرات اللغوية جمالاً ، وإثارة ، وحنكة وبراعة نسقية في تموضهاالفاعل ضمن السياق، لتثري فضاء متخيله الشعري، بمبتكرات نسقية غير معهودة؛ وصور جدلية متوازنة لا محدودة، لدرجة أن الدارس لفنية قصائده يلحظ إفادته من مختلف التقنيات المعاصرة؛ وأبرز نوازعه الشعرية نزوع تراكيبه إلى شعرية الاختلاف هذه الشعرية التي تنزع في أسها الجمالي إلى إثارة الجدل والمماحكة النسقية الجمالية بين التراكيب والجمل لاعتصار مؤثراتها الفنية، وتظهيرها للقارئ ، على شاكلة قوله:
" وجهُكِ حشدٌ
من الراقصينَ،
وعيناكِ عصفورتانِ على طرفِ النهرِ،
......
كان وجهُكِ أمسيةً
عذبةً، ممطرةْ
تتهامسُ: إن الهوى، هاهنا، راقصٌ
ونسيمٌ يعرف أرضاً بأخرى؛
وماءً بماءٍ،
ووجهكِ ساقية مزهرةْ
أنتِ أم غبشِ المدنِ الممطرهْ"( ).
بداية ، نشير إلى أن المقوم التركيبي – في القصائد العلاقية- يظهر شعرية النسق اللغوي، الذي تمتاز به قصائده؛ من حيث جمالية الأنساق اللغوية، ودهشة تمظهراتها الفنية، وهذا يدلنا أنه :" لكي يحقق النص الشعري شعريته، وجب إضافة عنصر ثالث جوهري هو العنصر الجمالي إضافة إلى العنصرين الأولين عنصر الوضوح( وهو المعنى الوظيفي للغة) وعنصر المطابقة( وهو المعنى الاجتماعي للغة) – لتحقيق الجمال في النص"( ). وقصائد العلاق تصنع جمالها التركيبي وفردانية نسقها الإبداعي من حيث البكارة، والعمق، والدهشة الإسنادية اللامتوقعة ضمن السياق.
وبتفاعلنا -مع النسق الشعري نبضاً وإحساساً جمالياً- نلحظ جمالية المقوم التركيبي ، من حيث بداعة الصور الاستعارية ، وتشكيلها الأسلوبي والتصويري المبتكر بصور تؤكد تمظهرها الفني وسموقها العاطفي؛ وموحياتها الفنية الخصبة ؛ [ وجهك حشدٌ من الراقصين] / [ عيناكِ عصفورتان على طرف النهر] ؛ هنا ، ينقل الشاعر للمتلقي عبر فاعلية الصورة دهشة تشكيل المقوم التركيبي الاستعاري ؛ ليبرز الملامح الجمالية لاستعاراته وعمقها الفني؛ ناهيك عن صدمتها الإسنادية المفاجئة التي تفصل بين المسند والمسند إليه ، أو الدال والمدلول ، بحراك نسقي شعوري مكثف؛ كما في الصورة الاستعارية المفاجئة التالية [كان وجهُكِ أمسيةًعذبةً، ممطرةْ ووجهكِ ساقيةً مزهرةْ ] ؛ إن هاتين الصورتين الاستعاريتين الجدليتين تؤكدان شعريتهما ، من حيث جدليتهما المواربة أولاً ، وجدتهما نسقياً ثانياً ، مما يعني خصوبة الصورة العاطفية الرومانسية ، ودرجة شعريتها السامقة، إذ إن قصائده تبرز فاعلية أنساقها اللغوية عبر الانزياح التركيبي في بنية الصورة، مما يجعلها ذات خصوصية تعبيرية أدائية عالية ، وقد كان الناقد عز الدين المناصرة محقاً في أن الشعرية هي من إنتاج المقوم اللغوي وشكله التركيبي بدافع باطني يخلقه المبدع تبعاً لما يهجس في باطنه ويمور في أعماقه من توترات ؛ إذ يقول : " إن الإنتاج الفني هو في جوهره شيء باطني يغدو شيئاً ظاهرياً نتيجة لعملية خلاقة، تعمل بدافع من العاطفة ، وتجسم جميع ما ينتجه الشاعر من إدراكه الحسي وأفكاره، وعواطفه، إذْ إن المنبع الأول للقصيدة والموضوع الأساس لها هما العناصر والأفعال لفكر الشاعر نفسه. أما إذا كان موضوع القصيدة ومنبعها مستمدان من مظاهر العالم الخارجي؛ فإن هذه المظاهر لا تكون إلا بالهيئة التي تتحول إليها من الحقيقة إلى الشعر عن طريق عواطف الشاعر والعمليات المعقدة عنده"( ). وتبعاً لهذا ؛ فإن"الإحساس والشعور يؤديان دوراً واضحاً في العملية الشعرية ، ويدلك ذلك على تداخل المعاني العميقة؛ والدلالات اللغوية في كثير من الأحيان؛ وعمق تجربة الشاعر النفسية ، وسيطرته الكاملة على وسائله الفنية، كما تخلق لدى المتلقي مناخاً شعورياً مشابهاً للحالة الشعورية التي كان عليها الشاعر في أثناء نظم القصيدة ، إضافة إلى تآزر العناصر الفنية في القصيدة تآزراً إيحائياً "( ).
ولنأخذ دليلاً على فاعلية المقوم التركيبي – في القصائد العلاقية - من خلال بداعة الاستعارات ومقوماتها الجمالية ، والانزياحات الحادة وجدلها الإسنادي ، وحراكها الخيالي الشعوري المكثف ، كما في قوله:
" في ليلكِ المأئيِّ أنحدرُ
قبعةً يلهو بها المطرُ
حيثُ يصيرُ القلبُ
عصفورة
مائيةً،
تغتالها الجزرُ،
وحيثُ في كفيكِ ، تنسى يدي نعاسها
ويبدأ السفرُ.."( ).
بداية ، نشير إلى أن المقوم التركيبي- في القصائد العلاقية - مقوم علائقي فني لإبراز خصوصية التركيب الإبداعي الذي تمتاز به أنساقه الشعرية؛ وبقدر تفاعل هذا المقوم على المستوى الفني بقدر ما يثبت خصوصيته الشعرية وميزته الإبداعية ؛ وهذا يدلنا على أن " العمل الفني الجيد خلاق لمعانيه، والشعر كما ألمحنا حمال ذو وجوه؛ ونعني بذلك أن القصيدة الجيدة إذا رزقتْ قارئاً جيداً تستطيع أن تفجر أمامه قنوات وجدانية ومشاعر ثرية من أحاسيس مختلفة"( ).ومن ثم ينعكس على فاعلية المقومات النصيةالأخرى ومثيراتها ضمن النسق .
وبالنظر- في مدى فاعلية المقوم التركيبي من مؤثرات تحفيزية ودلالات تحريضية فنية كاشفة- نلحظ فاعلية هذا المقوم في إبراز الأنساق التصويرية الصادمة أو المدهشة للقارئ من حيث بكارتها وجدتها وحيويتها ودرجة تموجها العاطفي والشعوري ، وحبكها النسقي المفاجئ :[ في ليلكِ المأئيِّ أنحدرُ ... يصيرُ القلبُ عصفورة مائيةً...تغتالها الجزرُ][ تنسى يدي نعاسها ويبدأ السفرُ]؛ إن أبرز مقومات هذه الشعرية الرؤيا التخييلية التي تنمق مثل هذه الصور والاستعارات الخصبة جمالياً، لتؤكد فاعلية هذا المقوم في إبراز قدرة الشاعر الإبداعية ؛ فقارئ قصائد العلاق لا يمل من شعريته؛ إطلاقاً لأنها متغيرة على الدوام وأنساقها التصويرية لا يطالها التكرار؛ فالصورة – لديه- لا تعاد في أنساقه، ولا تحايثها في منحاها الدلالي؛ وكأن الشاعر ممزوج بالمتغير الأسلوبي الدائم؛ وهذه خصيصة جمالية تمتاز بها قصائده على المستوى التركيبي.

2-جمالية اللغة الشعرية/ وبداعة الرؤيا المتخيلة:
إن الشعر فعل إبداعي ، مقومه اللغة، ومبعث نشاطه ، وحراكه [ الرؤيا] ؛ فالشعر بلا رؤيا متخيلة فذة عقيماً بكليته؛ ومن أجل ذلك لا يرتقي الشعر- من منظورنا- حيزه الإبداعي المحلق إلا بتشكيل جمالي نابض؛ يغلفه جوهر سامٍ ورؤيا محلقة ؛ يقول الناقد توفيق سعيد:" إن القيمة الجمالية للعمل الفني متوقفة على القدر الذي يثير هذا العمل كتلة من  المشاعر والأحاسيس والانفعالات في نفس المدرك؛ أي على القدر الذي يحقق هذا العمل متعة للمدرك"( ). وتبعاً لهذا، فالعمل الفني- إذاً- هو نتاج الأنشطة القصدية لفنان ما، أما تعين العمل فهو ليس –فحسب - إعادة تأسيس بفضل ملاحظ أمكنه إدراك ما كان حاضراً بشكل فعال في العمل الفني، وإنما هو أيضاً إكمال للعمل وتحقيق فعلي للحظات إمكانه؛ وهكذا، فإن تعين العمل الفني يكون بمعنى ما نتاجاً للفنان والملاحِظ"( ).
ومن هذا المنطلق؛ فإن بداعة الرؤيا المتخيلة هي ما تحقق للنص الأدبي/ أو الشعري مشروعيته الإبداعية في نطاق فاعلية النسق اللغوي النصي؛ وهذا يدلنا أنه " لا يمكن لأي عنصر من عناصر نص آن يحقق بنيته إذا لم يكن هذا العنصر موضوع انتقاء يفرضه على إدراك القارئ، وبعبارة أخرى، لا يمكن لأي وحدة لسانية أن تكون لها وظيفة بنيوية إذا لم تكن وحدة أسلوبية أيضاً"( ).
وقد ميز مايكل ريفاتير بين لغة الشعر ولغة الاستعمال اليومي من حيث واقعتها اللغوية،وبداعة الرؤيا المتخيلة؛ وما توحي إليه من دلالات بعيدة عن حيز الواقع والاحتمال ؛ إذ يقول :" تختلف لغة الشعر عن الاستعمال اللغوي المشترك- وهذه واقعة يحس بها القارئ الأكثر سذاجة إحساساً غريزياً كثيراً. صحيح أن الشعر كثيراً ما يستخدم كلمات بعيدة عن الاستعمال المشترك، وأن له نحوه الخاص وأيضاً نحواً غير صالح وراء النطاق الضيق لقصيدة معينة؛ ومع ذلك ، فقد يتفق أيضاً أن يستعمل الشعر كلمات اللغة اليومية ونحوها، فالشعر يعبر عن مفاهيم وأشياء تعبيراً غير مباشر، باختصار: إن القصيدة تقول شيئاً؛ وتعني شيئاً آخر"( ).
واستناداً إلى ما تقدم يمكن القول: إن جمالية اللغة الشعرية تتحقق من خلال بلاغة الرؤيا المتخيلة التي تقوم على ملاحقة الدال، واكتشاف الفضاء التخييلي الحر للمدلول؛ وعلائقه السابحة في حيز فضائي جمالي مفتوح؛ وهذا دليل أن " النص يبزغ عندما يبدأ المبدع والقارئ كلاهما في مداعبة الدال"( ). وتبعاً لهذا فإن " النص يتطلب مشاركة فعالة من القارئ في خلق أسراره ، وفق ما يتمتع به من خبرة جمالية وإلمام بالموروث الحضاري والجمالي للنص، على اعتبار أن مختلف الفنون والآداب تحمل شفرات ذاكرية يجب الاطلاع عليها من خلال استجابة النصوص لها. ويبقى في إمكانية المتلقي الإلمام بهذه الشفرات وما يفترضه النص من إثراء معنوي ودلالي متميز"( ).
وما ينبغي الإشارة إليه أن بلاغة الرؤيا- عند العلاق- بالإضافة إلى المنظور اللغوي النسقي المتطور، والأنماط اللغوية المتغايرة في تمظهراتها الفنية هو ما يستثير حساسية النص، ويكسبه خصوصيته الإبداعية على المستوى العميق للنص، وهذا يدلنا أن " المعنى [ الذي هو لب الرؤيا ومنتوجها النصي] هو مجموع الكليات المحتملة والتصورات. وهو افتراضي، وكامن، ومتعدد، وجوهري، لذلك ، سعت القراءة الحداثية من اللذة البارتية إلى الصيحة الهيرمينوطيقية إلى استقراء هذا الكمون ، والخوض في هذا الاحتمال؛ فكيف يخلق الخطاب الشعري موضوعاته ؟ وكيف يتلقى القارئ توقعاته، احتمالية واردة، والتباسات غير مدركة، وخبايا منطوية ، توحي ولا تشير"( ) .
ومن هذا المنطلق ، فإن أبرز ما يحفز الشعرية– في القصائد العلاقية- أن " الكلمات تتجاوز في تشكيلها اللغوي منطق اللغة العادية ، هذه اللغة التي يكون هدفها منطقية المفهوم، ولا تحفل بمنطقية الانفعال؛ فالتشكيلات اللغوية في قصائده ليست وشياً إضافياً ؛ وإنما تتشكل مختلف أنماطها من خلال خلق التراتب الفكري؛ وإعادة تنظيم البناء اللغوي، مع ملاحظة أن هذا الخرق أو ذلك الانزياح محكوم- في الوقت نفسه- بمنطق شعري له شروطه الشعرية، وأهمها قابليته للتأويل والتفسير. وهذا التأويل هو الذي يمنح الاختراق ، أو الانزياح شرعيته ومصداقيته"( ) .
ويؤكد العلاق ذاته طبيعة لغته الشعرية وتوجهاته النسقية في قصائده ودواوينه الأولى ؛ إذ يقول: " كانت معظم قصائدي ، في مجموعتي الأولى" لا شيء يحدث .. لا أحد يجيء 1973 " لغة مشحونة بذاتها ومكتفية، إلى حد بعيد، برنينها الداخلي. وكنت أؤمن ، وما أزال ، أننا حين نقرأ قصيدة ما فإننا نجتاز إليها لغتها أولاً: وحين نصل بعد ذلك إلى التفاصيل الداخلية فإننا لا نصل إلا ونحن مبللون برذاذ اللغة مكسوون بفضائها الغائم.. لذلك كانت اللغة والصورة في تلك المجموعة المبكرة هاجسين دائمين يثيران فيِّ إحساساً طاغياً بالإيقاع، ولذة المجاز، وبراءة اللغة – كنت أعلي من شأن الصورة الشعرية ولغة القصيدة بصورة متطرفة، وكنت أمعن في التعويل عليهما ، شكلاً شعرياً ، حين بدا لي في أحيان كثيرة ، أنني أبالغ في تشذيب تلك القصائد ونزع ما يعلق بها من زيادات ، أو أورام لفظية ، حتى تغدو القصيدة ذاتها لغة لا تشير إلا إليها ، ولا تلامس إلا جسدها الممعن في شفافيته وحزنه وطرافته"( ).
إن هذا النزوع -لدى العلاق -في قصائده الأولى قد جعل لغته انبهارية ومضية ذات لمعان إيحائي وتعبيري شفاف يزدهي بشكله على حسب رؤيته ، يقول العلاق : كانت معظم قصائدي في مجموعتي " لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء" قصائد مناخات وأجواء، وحالات ، كانت لغة لا تفضي إلا إلى اللغة غالباً ، وكانت نوعاً من اللعب الممتع البريء. وكنت أجد نفسي ، باستمرار ، مفتوناً بالشكل ، ومستسلماً لإغرائه الكاسح. لم أكن آنذاك معنياً ببناء القصيدة عناية واضحة . أي أن ترتيب وحدات النص وتنظيم حركاتها لم يكونا من هواجسي الملحة في تلك المرحلة ؛ لذلك كنت أنظر دائماً إلى قصائدي المبكرة تلك على أنها مخلوقات شديدة البراءة، تلهو على شاطئ الشكل حرة، رشيقة، مبللة. ومع أن هذا الهوس بالشكل قد انكسر في مجموعاتي اللاحقة إلى حد ما، فإنني أصبحت متيقناً أننا عن طريق اللغة والصورة، وبهما معاً، يمكن أن ننتصر على انكسارنا، وصدئنا ويأسنا الإنساني"( ).
وتبعاً لهذا؛ نلحظ تطوراً في مسيرة العلاق الشعرية بالمستوى اللغوي من مسار تشكيلي مبهر نسقياً إلى مسار إبداعي تأملي مبهر رؤيوياً ؛ خاصة في تمظهراته اللغوية التي تستند إلى عمق الرؤيا، وجمالية المنظور الإبداعي الحداثاوي للقصيدة الشعرية وحيثياتها الجزئية، فهو مسكون بهاجس الإبداع اللغوي والانزياح التخييلي العميق الصادم، الذي يترك هوة ( فجوة واسعة) بين "الدال/ والمدلول"؛ كما في قوله:
" لماذا.. لم تعدْ من قبلُ؟
ذي روحي إناءٌ طافحٌ بالصبرِ
لا الصهباءْ
وعيناكَ
قطيعٌ
أنهكَ الرعيانَ
من جرَّاء لهفتهِ،
............
..  ...    ...
فمن أطلق في عينيكِ هذين
الغرابينِ، الحزينين،
ومن أشعلَ
في وكريهما الحلفاءْ"( ).
لا بد من الإشارة بداية إلى: أن بلاغة " الرؤيا" – في القصائد العلاقية- تبحث عن إمكانية الخرق الأسلوبي في الشكل اللغوي، والتجاوز الرؤيوي في المنظور الوجودي؛ فهو الشاعر الوجودي العراقي الأبرز في حركة الحداثة الشعرية العربية بمراكمة الأسئلة التفاعلية التي تثير الجدل والتأمل؛ وتبعث على الاكتشاف؛ ودليلنا على ذلك هذا الزخم الهائل في قصائده من التساؤلات التي تفوق قصائد الديوان بأضعاف مضاعفة من الكثافة ، والعمق، والتركيز؛ وهو ما يجعل قصائده تدخل نطاق الشعرية الحداثاوية التي تبحث عن شاعرية الرؤيا وحركية الإبداع؛ "عبر ديمومة جدلية تستوعب صيرورة العلاقات بين مستويات النص ودلالاته، ومتغيرات الواقع ومتناقضاته"( ). وبهذا الأسلوب تحقق شعرية العلاق مكاشفاتها الإبداعية عبر " اكتناه خصائصها ومفارقاتها من خلال اختلاف آفاق التطلع والكشف ، وتباين أساليب هذا التطلع ونتائجه الرؤيوية التي تنوعت بين الثورية التغييرية ، والسريالية الصوفية، ودحض الواقع ورفضه ؛ ومحاولة تخطيه إلى جوهره، عبر مفارقات تأملية توحدها الرؤية الكشفية"( ).
وبالنظر – في مثيرات الرؤيا وبلاغتها النصية ومحفزاتها الشعورية في المقبوس الشعري- نلحظ بداعة النسق الوصفي، وإثارته التشكيلية ، وفق تمظهر شاعري مؤثر، كما في قوله:[ ذي روحي إناء طافح بالصبر لا الصهباء/ وعيناك قطيع أنهك الرعيان من جراء لهفته] ؛ وما يميز النسق الوصفي جمالية[ المسند / والمسند إليه] من جهة، وحيوية الصورة، وبلاغتها الفنية في إيصال رؤيتها العميقة من جهة ثانية؛"فمن أطلق في عينيك هذين الغرابين الحزينين، ومن أشعل في وكريهما الحلفاء؟"؛ وهذا يدلنا على أن "كون الشعر رؤيا لا يعني أن هذه الرؤيا هي مجرد استيهام يزلزل كيان الشاعر، إن الشعر- تبعاً لذلك- لا يقيم إلا في يوتوبيا أحلام الشعراء بعيداً عن أرض الواقع، وصداميته العنيفة من خلال تناقضات الوعي الإبداعي بين طموح الذات وواقعها الملتزم.. ومن ثمة يغدو الشعر تعبيراً عن هوس العالم، وصميميةالإنسان؛ ودهشته العميقة أمام مالا يمكن له أن يعيه ،  أو يسميه؛ لأنه أبعد من الحدود الضيقة لوعيه"( ). وانطلاقاً من هذا الأساس؛ فقد نظر العلاق إلى الشعرية من منظار ما تتضمنه من تجاوزات لغوية، ولمسات فنية تستجر محفزاتها الإبداعية ، إذ يقول:" حين ننغمر في لغة قصيدة ما، أو صورها المنهمرة، فإننا نبدو وكأنا نلتقي ، بحلم ضائع، أو طفولة غادرناها مرغمين، كأننا ، نلتقي أنفسنا، من جديد، أطفالاً مفتونين بالمطر، ونكهة الأرض المحروثة توًا"( ).
وقد أكد أن أبرز ما يستجر المتلقي إلى دائرة النص الشعري حيازته اللغوية المتمظهرة جمالياً؛ وبلاغة الرؤيا التي يتضمنها ؛ وتفرزها أنساقه الشعرية؛ إذ يقول:" إن القارئ ، في تلقيه للنص الشعري، لا بد من أن يولي اللغة عناية كبرى؛ فلغة الشعر عميقة التخفي وشديدة الكثافة؛ إنها مفعمة بالانزياحات والمراوغة، وهي حين تجسد موضوعها ، تمعن في الالتفاف حوله ومشاكسته وتلوين فجواته بالحيرة ، أو الضوء، أو التردد"( ).
وإن من يتأمل في حيثيات أنساقه اللغوية يلحظ فاعليتها النسقية، وتمظهراتها الفنية، وبلاغة الرؤيا المحفزة للقارئ؛ فالنص- لديه- هو تألق فني، وبلاغة رؤيا ، ومقصدية مضمون؛ مواكبة للحدث والموقف المجسد، كما في قوله:
" أيقظي
كلَّ ما تحملينَ
من البطشِ واللينِ،
والضوءِ والطينِ، وانتشري
ليفيضَ على الليلِ
ما يجعلُ الليلَ أجمل
من ذاتِه
شجراً
من مرايا، وساقيةً
من سهَرْ..
....
أنتِ
حبري الذي أيقظتْهُ
خطاكِ، وما اقترحتْهُ
على لغتي
كأسكِ البابليةْ"( ).
لا بد من الإشارة إلى: أن بلاغة " الرؤيا" – في القصائد العلاقية - تحتكم إلى ذهنية القارئ، بوصفه الذات المتلقية جمالياً لمحفزات شعرية الرؤيا؛ والنص – عند العلاق- فاعلية قصوى من الدهشة والابتكار الإسنادي؛ وهذا يدلنا أن " النص بنية ذهنية لا تتحقق إلا من خلال متلقيه، ولذلك، تؤسس جمالية التلقي مشروعها النظري في البحث عن الآليات المتحكمة في تقبل النصوص الأدبية، وعلاقتها بالمتلقي، ودوره في بناء معنى النص ضمن شروطه، وعن النص، وكيف يحقق الوقع الجمالي في الذات المتلقية، وما هي أنواع النصوص ، ومواصفات المتلقي؟ إلى غيرها من الأسئلة المصاحبة لعملية التلقي"( ). وبهذا المنتوج الرؤيوي للعلاقة بين الرؤيا واللغة؛ تتشكل فاعلية القصيدة؛ وتنضج الرؤية الجمالية فيها؛ وهذا يدلنا أنه :" كلما تمكن الشاعر من الإيغال بالخيال، وتمكن بشكل عفوي من مؤاخاة المزاج مع ما في طاقته الذهنية من ترتيبات توضع كأساس في بناء النص، تمكن من التحرر التدريجي عما يثقله باتجاه اقتناصه للمعبر المفيد كي يستطيع أن ينطق بأجمل صور النطق إبداعياً"( ).
وبالنظر- في ما تحدثه" بلاغة الرؤيا" من محفزات نصية في المقبوس الشعري- نلحظ أن العلاق يستثير الرؤيا العاطفية التي تجمع الثنائيات الضدية في حراك شعوري نفسي محتدم، يزيد وتيرة الصورة ألقاً عاطفياً، وحرارة متقدة جمالياً في مدها النفسي الشعوري؛ كما في الصورة التالية [ أنت حبري الذي أيقظته خطاكِ، وما اقترحته على لغتي.. كأسك البابلية] ؛ فالصورة تضمر وعياً جمالياً بمردودها الفني، وهذا المردود ، هو ما ينتج مظهر إبداعها وتمظهرها الشاعري؛وذلك بالإسناد الجدلي والحراك الدلالي بين الثنائيات الجدلية التي تزيد فاعلية الصورة؛ وهذا دليل:" أنه لا يمكن تصور أي تواصل مع أية تجربة شعرية ما لم تعتمد التصوير وسيطاً بين اللحظة المعيشة، واللحظة الإبداعية . كما لا يمكن التوصل إلى شعرية نص دون رصد قدراته التصويرية التي من شأنها أن تمنحه سمة العمق والانفلات"( ). وهذا دليل: أن الصورة مركزها الإبداعي فضاء متخيلها الشعري، والرؤيا التي تكتنفها ومصدر جمالها وتحفيزها النصي؛ ولا تغتني لغة الشعر إلا بالخصوبة الجمالية للمتخيل الشعري؛ لذا فإن الكثير من نقادنا يعترفون أن " لغة الشعر هي تجلي الغريب في المألوف؛ تجلي المقدس في ألفاظ بسيطة لهذا يقول هيدغر" إن ما يظهره العمل الفني هو الجميل فيه، والجمال هو أسلوب الحقيقة وكينونتها"( ). وتأسيساً على هذا يمكن أن نعد المنتج الجمالي لقصائد العلاق منتج إبداعي خصيب؛ يقوم على حداثاوية نسقية في اختيار الكلمات الملائمة في سياقها وفق إحساسها الجمالي ووقعها النفسي ، إذ إن " اختيار الكلمات نفسياً وموسيقياً وتفجير طاقاتها الإيحائية والدلالية وربطها بأخواتها في تناسب وانسجام زمني يضفي عليها تناسباً إيقاعياً قد يتغير من وضعية إلى أخرى دون الحاجة إلى التزام وضعية واحدة، كما حدث في شعرنا القديم الكلاسيكي"( ). وهذا ينعكس، من ثم، على جمالية التخييل وبداعة المنظور النسقي للرؤيا المجسدة.

3-جمالية اللغة الشعرية/ وصدمة الصورة.
لا شك في أن جمالية اللغة الشعرية تنبني على بداعة الصورة ، وعمقها، ومسترفداتهاالشعورية ومنزلقاتها اللغوية ؛ ولهذا ، تنزلق الدلالات، بانزياحاتها النسقية أو التركيبية الفاعلة التي تستثير الشعرية وتحركها نسقياً . وهذا يدلنا أن "الدلالة لا توجد في الثابت، بل في المتحول؛ إنها بين الخطوات المشتعلة حركة وتحرراً، لا تحت حجر وادع يجتر جموده في الغفلة. من هنا، كان لا بد من الخلاصة القائلة بأن الكلام لا يصل أبداً بل يسير وأن القراءة لن ترسو على شط النهاية ما دام المتن المقروء يراهن صاحبه على رصد الوقائع؛ والانزياح عنها في الآن ذاته"( ).وبناءً على هذا، تكمن قيمة الشعرية بمقدار فاعلية الصورة وقدرتها على الملاءمة بين ما توحي به، وما تشكله من انزياحات ؛ لتكون صدمتها التصويرية نابعة من دهشتها الإسنادية وفاعلية النسق الذي انبجست عنه، وهذا يدلنا أن " الشاعر الفذ هو الذي يمتلك حساسية قوية لأصوات الكلمات، مع قدرة فائقة على الملاءمة بين الصوت والمعنى. وهذا يعني أن مستوى العلاقة بين الوزن والحالات الشعورية- الذي يخضع بشكل أساسي لموهبة الشاعر وتمكنه من أدواته التعبيرية- هو الذي يشكل ما يسمى بالموسيقا التصويرية"( ).
وبناء على هذا؛ تتحدد قيمة النص بمقدار قدرته على تعدد الدلالات، وتنامي حراكها ضمن النسق، وفاعلية الصورة وتعدد إيحاءاتها ومضمراتها النصية في كيان النص؛ لأن "النص مجرد حامل ينقل المعنى، أو حاوٍ له، وليس وعاءً يصب فيه الكاتب أفكاره التي يستقبلها المتلقي استقبالاً سلبياً. وإنما هو فضاء سيميائي تتفاعل فيه اللغات؛ وتتداخل وينظم بعضها بعضاً تنظيماً تراتبياً ؛ وهو لا يجسد المعاني ، بل يولدها ، ولا تأتي عملية توليد المعاني نتيجة اتساع في البنى فقط، بل نتيجة تفاعل هذه البنى وتداخلها ، والمهمة المزدوجة التي يتكفل بها النص هي تمثيل المعاني من جهة، وتوليد معانٍ جديدة من جهة أخرى"( ).
وقد أشار شلوفسكي إلى أن" الصورة لا تهدف إلى تقريب دلالاتها من فهمنا، ولكن إلى خلق إدراك خاص للموضوع ؛ إلى خلق رؤيا له، وليس إلى التعرف عليه "( ). وتبعاً لهذا الجمع اللامتوقع والصادم لحيزين لغويين متباعدين أكثر مما هما متقاربين أو ( متحايثين) ، وتبعاً لهذا " لا يمكن اعتبار الشاعر مجرد مكتشف لقارات معادية وحليفة، وإنما خالق لعوالم جديدة يتعاطف معها أو يموت فيها"( ). وهذا دليل أن الجانب الوجودي والجانب الإنساني من ركائز كل تجربة شعرية فذة، تحاول الانفتاح على العالم والتفاعل معه، يقول رحمن غركان:" كل نص شعري يصدر عن موجة ذي غايات إنسانية، لأن الفنون وبخاصة الشعر، موصولة بمعنى الحضور الإنساني، ومعبرة عنه، وكاشفة عن معطياته، لذا كانت الغايات الإنسانية بمعناها الإبداعي أو الجمالي، أو الفني هي التي توجه الباحث أو الكاتب، انطلاقاً من تعبيره عن حضوره الإنساني من خلال النص"( ).
وصدمة الصورة هي انعكاس حتمي لصدمة النص الحداثي الذي اعتمد فاعلية المغايرة الأسلوبية في نظام القول الشعري؛ لتحقيق مردوده الفني؛ لذا" فالقارئ للشعر الحداثي يستشف تلك التوقيعات النفسية التي تنفذ إلى صميم المتلقي، محدثة اهتزازاً في تقبل هذا الشعر والتناغم معه في تذوق يحيط بكلية النص الشعري صورةً وخيالاً ودلالاتٍ وتشكيلاً خطياً. وما يسجله – أي القارئ- هو الحرية المطلقة التي يملكها الشاعر في تشكيل نصه الشعري، فهو الوحيد الذي يحدد متى ينتهي السطر الشعري، مما يجعل المتلقي في حالة عدم توقع وفي حالة وقع"( ).
ومن هذا المنطلق ، يمكن أن نعد "الشعر العربي الحديث هو أساساً شعر قارئ لا شعر مستمع فسمة التفكك والانقطاع في الشعر العربي الحديث، وما يرتبط بها من ظواهر لغوية تقوم على إلغاء أدوات الربط والعطف، وإلغاء التسلسل الفكري في القصيدة عند محاولة اكتشاف مبادئ خيالية جديدة من شأنها إقامة التسلسل الفكري في القصيدة عند محاولة اكتشاف مبادئ خيالية جديدة من شأنها إقامة علاقات غير معهودة بين الأشياء، قد دفعت الشاعر إلى وضع قصيدته بشكلها الكتابي بين يدي القارئ ، مبتعداً عن نية إلقائها، فتميز الشعر العربي الحديث، تبعاً لهذا، بشكل جمالي يعتمد منطقاً مكانياً، يدفع القارئ باتجاه إعادة تنظيم كاملة لتفكيره في اللغة، ذلك لأن الرابطة بين المعاني في القصيدة الحديثة أصبحت لا تتم إلا بإدراك القارئ للمجموعات الكلامية في آن واحد، من حيث المكان، فنحن حين نقرؤها متتالية ، من حيث التسلسل الزمني فإنها لا تملك أية علاقة مفهومة بين بعضها والبعض الآخر"( ).
وما ينبغي ملاحظته أن صدمة الصورة- عند العلاق- مؤسسة على صدمة" الرؤيا" ومبتكراتها التخيلية من حيث الفضاءات الرؤيوية العميقة التي تدخل نطاقها الفني؛ وتفرزه على صعيد مؤولاتها النصية؛ ومستتبعاتها الشعورية؛ فالعلاق مسكون بهاجس الإدهاش  والتكثيف والاستكشاف العلائقي النصي المبتكر؛ فالصورة- لديه- لا تتكرر إطلاقاً بشكلها اللغوي المعتاد في دواوينه كلها ؛ وإنما تتشكل بطرائق جديدة ورؤىً مبتكرة؛ تجعل نصه حافلاً بالمبتكرات اللغوية / والأنساق التصويرية المبتكرة تتجدد على الدوام لتشكل وحدة عضوية متكاملة في بنية العمل الشعري ؛ عبر تلاحق الرؤى والدلالات وتماوجها تبعاً لحراك الصورة وصدمتها للقارئ من حيث بداعتها ودهشة ما أصابته من محفزات نصية؛ يقول العلاق:
" فاطمة
وردةٌ في رمادِ المغنِّي،
وشمسُ قصائدِه الغائمةْ
جسدٌ
ضائعٌ في رمادِ
الأناشيدِ، مشتعلٌ
بينَ أعشابِها...
جسدي صائمٌ
عن شراستِه، أم قبائلُ
في جسدي صائمةْ؟"( ).
بداية، نشير إلى أن صدمة الصورة- في القصائد العلاقية- مؤسسة على إسناد مفاجئ، ورؤيا محلقة، وسيكولوجيا شعورية محتدمة؛ ومنظور متطور للواقع، والوجود، والحياة؛ وانبناء نصي يتمحور حول جمالية النسق وتحولاته ومضمراته النصية؛ وللبحث عن صدمة الصورة لا بد من البحث عن ارتباطها سيكولوجياً في فضاء القصيدة؛ إذ إن "البحث في سيكولوجية القصيدة يعني إعادة تركيب التجربة الشعورية لهذه القصيدة؛ وبدون هذه العملية يصبح النقد بعيداً عن السياق النفسي والشعوري للقصيدة؛ وفهم الحالة الذهنية للقصيدة يتطلب القدرة على الانغماس في العالم النفسي للشاعر، واستحضار الحالة النفسية له خلال كتابته لهذه القصيدة وفهم الحالة الذهنية هو القدرة على استعادة الجو الشعوري ومعايشته من جديد، ولا يتم ذلك إلا إذا استطاع الناقد أن يلم بمثل الظروف والملابسات التي رافقت ولادة القصيدة وبدون هذا الفهم فإننا ننزع القصيدة عن سياقها النفسي، ونحيلها إلى تراكم لغوي يفتقد إلى الحس الشعوري"( ).
وتبعاً لهذا؛ فإن الصدمة أو الشرارة الإبداعية التي تحدثها الصورة هي مركز الحساسية الشعرية وبؤرة تنامي الصورة جمالياً.
وبالنظر- في مستحدثات الصورة ودهشتها الإبداعية - جمالياً في المقبوس الشعري- نلحظ استدراج العلاق القارئ لما يسمى[ الصورة الصدمة/ أو الصورة الدهشة] التي يلتقطها في نسقها الشعري المكثف:[ فاطمة وردةٌ في رمادِ المغنِّي] / [ جسدٌ ضائعٌ في رمادِ الأناشيدِ ] ؛ إن درجة التنامي/ والابتكار النسقي، تلهب الصورة عاطفياً ومساراً تشكيلياً عميقاً، لتبعث في نفس القارئ مكنونها الجمالي وبعدها الإيحائي فتصدمه فنياً؛ وهذا يدلنا أن صدمة الصورة بمبتكراتها النسقية هي قوام الفن الشعري المتميز أو الأصيل؛ لأن " الفن- أساساً – لا يتوقف عند رؤية الواقع من خلال الحدس، فقوام الفن هو تلك العملية الإبداعية القائمة على الإرادة، والفعل، والجهد، والصنعة، والتكنيك التي تتجسد في العمل الفني بشكل محسوس وموضوعي"( ). وهذا ما يميز الأنساق الشعرية التي تتمتع بتكنيك فني عالي في التجسيد والتعبير الشعري.
وقد كان هيدجر محقاً حينما قال:" الشعر وحده القادر على رفع الحجب عن الوجود. يسمح للأرض والسماء وتدفق الأعماق ، وقوة الأعالي بأن تتفاعل وتتفاعل . وفي هذا التفاعل يتم الإظهار والإحضار"( ). والشاعر عندما يدرك أن الشعر فن روحي عميق فعليه أن يبني لغته الشعرية بناءً فنياً مؤثراً بالصورة الإبداعية الصادمة المستحدثة ؛ ومن هذا المنطلق" فعوالم الشاعر الخارجية تفرض عليه أن يواكب العصر، وإذا تمايز عنه في جانب معين؛ فذلك لإعادة الخلق والإبداع وترتيب الوجود حوله؛ أما دقة الشاعر في عمق الصورة المدهشة التي توافيه من ذاكرة الحزن، أو الفرح، أو الحب فلها زمنها التوليدي في التخيل والتخييل؛ فاقتران" الرؤيا" بالصورة الشعرية يتم بالتخييل مثلاً، لأنه معطى هيولي يتحقق شعرياً بالصورة المجردة للروح، حيث يخرجها من الكلام الظاهر إلى الكلام الباطن ، ومن الزمن الزائل إلى الزمن السائل: أي من الزوال إلى الثبات والخلود والاستمرار"( ).
وتعد الصورة - الصدمة محرك الإحساس الجمالي لدى العلاق، بقوة تمسكها بالمتخيل الفني وجمالية تفاعلها ضمن النسق ، كما في قوله:
" يختبئُ الحنينُ تحتَ جفنيْ،
جزيرةً
من جثثِ النعاسْ،
أمدُّ كفي،
نافضاً عن صوتكِ الماءَ،
وعن شفاهكِ الأجراسْ
ألقي على حنينكِ المبتلِّ في المساءْ
عباءتي، وأستحم فيهْ
حمامة خرساءْ
تأكل من فرحتِها الريحُ،
ويرتخي النهرُ على
جناحِها، عباءةً
من خرزِ البكاءْ"( ).
بداية ، نشير إلى: أن القوة الضاربة في الصور الشعرية- عند العلاق- أنها تثير الصدمات التشكيلية ، سواء ببكارتها الإسنادية؛ ودرجة إيحائها الشعري أم بقدرتها على تجاوز متخيلها المألوف بتحولات رؤيوية في المتخيلات الشعرية المبتكرة؛ وهذا يدلنا أنه:" إذا كانت الصورة الفنية التي يبدعها الفنان تمسك بقوة، ببرهة الإدراك الحسي الحادة للحدث، فمن الممكن تالياً أن نخبر عن بضع لحظات فقط، تم شحنها بالقيمة إلى حد أنها تبدو وقد احتوت خبرة حياة بأكملها"( ).
وبالنظر – في مستحدثات الصور الصادمة في المقبوس الشعري - نلحظ بداعة الأنساق الوصفية التصويرية التي تستثير الصور الاستعارية ، شديدة الشاعرية والأثر الفني المفاجئ أو الصادم مثل [فيهْ حمامة خرساءْ] و [ خرز البكاء]؛ وما ينبغي الإشارة إليه: أن تحولات النسق ومصدر جماليته- عند العلاق- أنه مؤسس على دهشة الإضافة أو النسق الوصفي؛ إذ يتفنن الشاعر في أنساقه اللغوية بعلائق استعارية / صادمة أو مدهشة تخترق حاجز الألفة أو المعتاد؛ لتؤكد دهشتها ومصدر جماليتها . وهذا يدلنا أن البوابة الأولى للولوج إلى شعرية العلاق اللغة وفضاء متخيلها النصي؛ وأنساقها اللغوية الجدلية المبتكرة وتساؤلاتها المفتوحة؛ وتجاوز دوالها لمدلولاتها، وانفتاح رؤاها على تعددية الدلالات؛ واحتدامها ، وإثارة الحس الغرائبي في متخيلاته الشعرية؛ وكأن ثمة وعياً- لديه- أن الشعرية، عصف بالمؤتلفات وخلق استشفافي للمبتكرات النسقية، وذلك من أجل تأسيس منظور حداثاوي لبنية القصيدة المعاصرة لديه.

4-جمالية اللغة الشعرية/ وتجريد الرؤيا.
إن الشعر التجريدي هو الشعر الذي ينأى بإطاره الفني عن التحديد أو التنميط ؛ وبمعنى آخر: إنه الشعر القادر على تكوين مفهومات جديدة مستتبعة لعالم الرؤيا/ ومنتوجها الإبداعي؛ ومن أجل ذلك عرف ما لارميه الشعر بقوله:" هو فيض صامت في عالم التجريد"( ). وبمنحى محايث يقول بول ريفردي- إزاء تجريدية الشعر- :" منذ اللحظة التي تتخلى فيها الكلمات عن معناها القاموسي، يستحصل الذهن المفكر قيمتها الشعرية"( ).وتبعاً لهذا المفهوم يرى غوته أن الفن" هو كيفية التموضع في العمل الفني، وليس العمل الفني نفسه"( ). ومن هذا المنطلق؛ فإن" الفنان وحتى عندما يرسم قبل تأثير الدافع الفني، لا يحطم الحالة الانفعالية للوحته إلا بمقدرته على انتزاع الجواهر الكامنة في تجمع أنواع عديدة من العناصر النموذجية؛ ليعيد إنتاج البناء الكامل للعمل الفني، انطلاقاً من نقاط ارتكاز عارية مدهشة"( ).
وتأسيساً على هذا، فإن ما يثير العمل الفني منتوجه الجمالي وتجريدية الرؤيا؛ وبكارة إبداعها وتمفصلها الفني؛ ناهيك عن إبداع اللغة واستثارة الدلالات المبتكرة ، كل حين، وهذا يدلنا على أنه:"منأهم شروط الشاعرية تمايز الفن اللغوي في النص الشعري واختلافه عن غيره من الأشكال الأدبية ، فالشاعر خلاق كلمات نطّاق حروف ؛ وليس بناظم أفكار. وما حسه الوجداني واستقراؤه الفكري للقضايا الإنسانية إلا محمل لإبراز عبقريته من خلال إبداعه اللغوي"( ).
وما ينبغي ملاحظته أن تجريدية الرؤيا- عند العلاق- تكمن في صيرورة النص الإبداعية، وطاقته التخييلية، فبمقدار ما ينأى الشاعر برؤاه ومتخيلاته الشعرية بمقدار ما يرقى بشاعرية الرؤيا إلى صيرورات وأمداء إبداعية متجددة دوماً؛ يقول سامي أدهم:" فالمتخيل الشعري الراهن يتجاوز المتخيل المألوف، بسبب ما تصنعه الآلة الذكية من رسوم وصور باهرة ( لوحات، تشبيهات، مجازات، استعارات، تمثيلات)، متداخلة، تشكل اللامنتظم ، ذلك أنها تتجاوز المنسق والمتسق والمنسجم، وتتحدى المتخيل واللغة وأساليبها وصيغها وطرائقها في التصوير. فالصورة وعي دينامي نشط، ولها حيويتها ، وحركيتها وأسطورتها ورمزيتها الخيالية والحلمية والشعورية"( ).
ومن هذا المنطلق؛ فإن للقارئ الفذ إمكانية عميقة في كشف تجريدية الرؤيا، وتوجهاتها العميقة ، وفق منظور رؤيوي فاعل؛ إذ " ينصهر أفق النص مع الأفق المعرفي والتاريخي للقارئ بمعنى آخر، مع أفق انتظاره الذي يشمل مجموع تجاربه وخبراته، ويبدأ تدريجياً في اكتشاف عالم يعرفه، فيحدث التفاعل، ومن خلال نشاط المخيلة يعمد إلى إعادة بناء النص من جديد، متجاوزاً بذلك بنيته الدلالية الأولى إلى بنيات أخرى أعمق. يتم ذلك من خلال عملية الحفر والتنقيب في مستويات النص المختلفة، فتغدو القراءة –حينئذٍ- عملية استكشافية وتأويلية في الآن ذاته: استكشافية لأن معرفة القارئ بعالم النص هي صورة عن معرفته بنفسه، وأن قراءته لتجربة النص لا تنفك عن قراءته لنفسه. وتأويلية، لأنها تسعى إلى اكتناه روح النص. وبذلك، يسهم القارئ في تجديد المعنى الذي  هو لا ملك  النص      وحده  ولا للقارئ وحده، بل إنه شيء ينتج بالتجميع من خلال عملية التفاعل بين القطبين. من هذا المنطلق، يغدو التأويل حركة مستمرة من التفاعل الخلاق، وما يتيح للنص وللذات القارئة أيضاً التجدد المستمر ومن ثم تجديد الحياة نفسها"( ).
وما ينبغي تأكيده :
أن العلاق يملك مخزونه الفكري/ التأملي ورؤيته التجريدية المبئرة للمشهد والحدث الشعري، ناهيك عن تجريديتها العميقة التي تبحث في أصول العلاقة الوجودية التي تربطه بالعالم ، لاكتشاف ماهيته؛ فلغته تنزع إلى التساؤل والاكتشاف الدائم، والحراك التأملي، المفتوح؛ لهذا أطلق على المشهد الشعري العراقي مشهد التحولات الحادة في قنوات الشعرية والبث الشعري؛ إذ يقول:" كان المشهد الشعري، في العراق، وربما سيظل مبعثاً لتحولات شعرية حادة ؛ لكنها تحولات لم تحسب يوماً ما على اللعب اللغوي، البريء، المرفه، ولم تنتجها العزلة والتأمل ،أو الانقطاع إلى الذاكرة، بل كانت تحولات أنضجها الاشتباك مع الواقع الذي كان على الدوام، شائكاً، ومقلقاً، ودموياً؛ وتخمرت في نار الوعي الحاد بهذا الواقع، ما فيه من صلف وطموحات وموت. بكلمات أخرى، كان الشعر الواقعي- وهذا حكم لا يخلو من استثناءات طبعاً- ابن الحرقة الدائمة والعذاب اليومي. وكان ؛أيضاً، ابن بيئة شعرية شديدة الوعورة، بيئته، عجنت حجارتها بالحبر والدم والماء؛ لقد ورثت هذه البيئة جذوة القلق، والتفجع، والارتطام بالموت منذ القدم، من نواح كلكامش على أنكيدو، مروراً بكل ما شهدته هذه البلاد العجيبة، بلاد ما بين النهرين من مجازر وأعراس وحضارات.. إنها بيئة هذا الفناء المثقل بالأسى والحنين، وأم هذه اللحظة المريرة التي نقف أمامها برعب أقسى من الموت، وذهول أعمق من الصلاة أعني هذه اللحظة العراقية الخاصة، حيث لا ملاذ إلا الشعر والعذاب، ولا فضاء إلا الأقمار السوداء والانهار الخربة"( ).
وتكمن تجريدية" الرؤيا" في قصائد العلاق؛ بتفاعلها مع متخيلها الوجودي الذي تخلقه على مستوى" الرؤيا" ، وتبئير مدلولها النصي؛ كما في قوله:
" تتعالى القصائدُ موجعة،
ويطير القطا، كالمناديل
دافئة، في الجبال
هكذا يخرج الضد من ضده
نمرٌ ساطعٌ مثل قبّرة،
وقرون الغزالْ
مطرٌ،
وأنا أترنحُ مستسلماً
لانثيالاتِ قافيتي ما أزال"( ).
بداية ، نشير إلى أن تجريدية" الرؤيا" - في القصائد العلاقية- تعتمد الانفتاح في الطاقة الذهنية التخييلية للصور والأنساق اللغوية، نظراً إلى ما تتسم به مخيلته من مرونة وانفتاح وتحليق وثاب على صعيد العلاقات والروابط التصويرية المكثفة؛ وهذا يجعلنا نؤكد مقوله غراهام كوليير" يبدو أنه لا راحة هناك للشخصية المبدعة، فالنفس تقودها باستمرار في نشاط دائم لا يتوقف"( ). وهذا النشاط مبعثه الطاقة الذهنية المتخيلة التي تسبح في فضاء تأملي عميق، ولذلك:" فالفنان المبدع بما تتسم به مخيلته من سعة معهودة؛ هو الأكثر قدرة على العيش بصورة دائمة مع كثافتها وضغوطاتها التي تتحول، وتتغير باستمرار، فالشعور المستمر الذي يتميز به الفنان الأصيل في حياته، هو نتاج تحرك حواسه وعقله، كجهاز استقبال بالغ الدقة للرسائل"( ).
وبالنظر- فيما تحدثه تجريدية "  الرؤيا" من مثيرات في المقبوس الشعري- نلحظ كثافة " الرؤيا" ومحفزاتها النسقية ، من حيث امتدادها / وتمفصلها الشعري، إذ إن التجريد النسقي في قصائده يهبها إيقاعاً فنياً متماسكاً؛ من خلال التشبيهات التجريدية اللامتوقعة، كما في قوله:" هكذا يخرج الضد من ضده/ نمر ساطع مثل قبرة، وقرون الغزال". إن هذه التشبيهات بعيدة عن حيز إدراك المتلقي، مما يجعلها ذات جمالية في الإيحاء والترميز الشعري؛ وهذا الأسلوب في الطرح نابع عن إحساس جمالي بالمثيرات التشكيلية. وهذا يدلنا أن " التجريد لا يعد ملمحاً عصرياً وحسب، ولكنه أيضاً بمثابة الأس الجمالي الذي تقوم عليه الأعمال الفنية الحديثة"( ). لتحقق منتوجها الفني وانقلابها الفكري؛ ومن هذا المنطلق تعد" الفنون التجريدية المعاصرة التي أوغلت في التجريد الفني، في الرسم ، والشعر، والنحت والموسيقى، ما هي إلا المعبر الأساسي عن روحية هذا العصر في التصويب العقلي المجرد؛ والعمل الفني المجرد هو تصور تجريدي وقيمة تجريدية تخضع لقواعد التجريد، فليس من الصواب بشيء القول: بأن الفن المعاصر هو محاولة في الانقلاب والفوضى ، بل هو خط تجريدي معقولي يستعمل التجريد ذا الطاقة الهائلة  للوصول إلى العقلانية"( ).
وأبرز عناصر تجريد الصورة أو (الرؤيا) هو اعتماد التشظي الإسنادي أو التغريب الإسنادي في إبراز المتشاكلات اللغوية؛ إذ " تنبني الصورة الشعرية بالمشاكلات اللفظية التعبيرية الرمزية والإيقاع الصوتي والموسيقى فهي قابلة لتأويلات شعرية أو نثرية. ووظيفتها شعرية وتواصلية وإبداعية وتأثيرية. الصور التي تتجمع وتتضايف ، وفي القصيدة تؤثث فضاءها الرمزي، وتؤسس شعريتها. يتعدى المتخيل ذاته بالتدخل الخارق، والتناثل العجيب، والتناسب المتكرر والمتشابه المبرز للتشظي التصويري والتخطيطات الشاسعة أو كل ما هو معقد ومركب ومحير"( ).
فالتجريد – عند العلاق- هو نوع من المخاتلة اللغوية التي تؤثث متمفصلات [ الرؤيا] على معايير ذوقية تأملية استكشافية غايتها وصل الحس بالمتخيل/ وتشعير المتخيلات بالمجردات والتلاعب بالأنساق اللغوية المدركة/ والمتخيلة لإبراز عمقها وجدلها الفني، ذلك أن" الإحساس بالشيء وإدراكه في صورته المثالية ناشئ عن سياق الخبرات الذوقية، ودمج التصوير الذهني بالفعلي في صورة المدرك للخبرة الجمالية، وذلك حين تتفاعل الصور الشعرية ببعض المؤثرات الجمالية، القائمة على نظرية الغاية المعرفية التي تخضع لثقل التوجه الذوقي، وما يترتب عليه من تحليل للخبرات الفنية بتحديد مجال الرؤيا الشعرية.ولا شك في أن الصورة الشعرية في علاقتها بمدركات فيضها الداخلي ، مردها إلى الغوص في صميم النشاط الكوني والفكري للموجود البشري الذي أبدع بمغامراته في طبيعة الأشياء التي من شأنها أن تحرك النسق الحضاري في حركيته المتسارعة"( ).
ومن هذا المنطلق؛ تعد التجربة الشعرية- لدى العلاق- مزيج من تفاعل مثيرات عدة في التشكيل الشعري؛ حتى الطبع التجريدي الذي يظن القارئ أنه يأتي هامشياً في قصائده، سرعان ما يجد تجذره الإبداعي ماثلاً بقوة في ثنايا قصائده بين الحين والآخر، كما في قوله:
" شجرٌ
يغمرُ رملَ الروحِ بالوردِ،
وماءَ الذاكرةْ
بالشذا
والموجِ،
مفتوحٌ كما الأفق،
على ضوءِ الغيوم ِالعابرةْ
علم دام،ٍ
يلفُّ الجسدَ الدامي
سماءٌ من حنين،
وغصونٌ ممطرةْ..
قمرٌ دامٍ،
ضريحٌ
آهلٌ بالضوء،
وجهٌ من شظايا،
جسدٌ يحيي رمادَ
المقبرة..."( ).
بداية، نؤكد أن تجريد" الرؤيا" – في القصائد العلاقية- يهبها ملاذاً آمناً من سطحية المدلول ، أو  من سطوة المعنى الأحادي الجانب، ليمنحها تعدداً دلالياً وانفتاحاً تأويلياً في صيرورتها النصية؛ ومرد هذا الحكم النقدي إلى فاعلية نصوصه على ارتياد فضاء متخيلها الإبداعي برؤيا عميقة" تحدث الصدمة في الذات المتلقية بين لغة شعرية متراكمة ومتراصة باستطيقا معينة ، معجمها محدد بين نظرة جديدة للغة الشعرية وللإبداع الذي يستغل كل الإمكانات التي تحقق للشاعر فرادته وأصالته في دائرة الشعر؛ انطلاقاً من حريته كفنان في التعبير عن تجربته الشعورية بما تسعفه وسائله وأدواته التي تحقق في النهاية شعرية الشعر"( ).وطالما أن الشاعر يجذر رؤيته على ما هو متعدد ولا محدود فمعنى ذلك أن لغته انبنائية تفتح آفاق الرؤية على ما هو جمالي ومبتكر في الشكل والمحتوى في آن؛ يقول هيدغر" إن ما يظهره العمل الفني هو الجميل منه، والجمال هو أسلوب الحقيقة وكينونتها"( ). وهذه الصنعة عندما تستحوذها النصوص الشعرية فمعنى ذلك أنها حققت رسالتها المتوخاة أو هويتهاالإبداعية المنشودة ، تبعاً لذلك يمكن القول:" اللغة – في حد ذاتها- لا تتميز في التعبير الشعري والنثري إلا بالخصائص التنظيمية التي تبنى بها، وبالوظيفة التي تشغلها، أو الرسالة التي تريد توصيلها، ويصبح في هذه الحالة الشكل[ النظم] هو الفارق الأساس بين اللغة الشعرية، واللغة النثرية مع توفر قدر غير قليل من " القصدية "في إنتاج خطاب متميز من الخطابات الأدبية الأخرى التي تتعايش ضمن فضاء ثقافي واحد، وداخل بنية فنية متجانسة"( ).
وبتفاعلنا – مع المقبوس الشعري نبضاً وإحساساً- نلحظ أن الشاعر يؤسس شعريته على تجريد [الرؤيا] ؛ وفق اعتماد جدلية[ الموت/ الحياة]، و[ اليأس/ الأمل المنكسر]؛ فالأسطر الشعرية السابقة تعتمد التجريد الذهني الكابوسي الخانق، بصور كابوسية تميل إلى تكريس كل مظاهر القلق والتشويه والانكسار[ وجه من شظايا/ قمرٌ دامٍ- ضريحٌ آهلٌ بالضوء]؛ وهذا الأسلوب التجريدي السريالي الذي يظهر تشكل الأشياء وتداعيها هو بناء لعالم متخيل جديد؛ قد يتواشج فيه مع العالم المتخيل لدى الشاعر مع العالم المتخيل لدى المؤول أو قد يختلف ، وكلما اختلف العالمين ازدادت موحيات النص؛ وتكثيف رؤاه ومدلولاته النصية. وهذا دليل:" أن عملية بناء العالم المتخيل ( الصورة) في أدب القارئ لا تشترط المماثلة أو التطابق للعالم المتخيل في نص الشاعر، كذلك القول في زمن العالمين عند الأول والثاني. بل ربما كان اختلاف العالمين أمراً ضرورياً وطبيعياً. إنه مؤشر على ممارسة فعل القراءة. فمع هذا الاختلاف يمكن للقارئ أن يرى ما يقوله النص من موقعه المختلف أي من موقعه الذي منه يمكن أن يحاور النص، أن يخاطبه، أن ينقذه، وهو بذلك يعيد إلى اللغة نكهة الحياة فيمارسها، بالقراءة كما هي ممارستها أساساً فعل نطق وحوار"( ). وهذا دليل أن ثراء النص مبني على ثراء العالمين المتخيلين لدى المبدع والقارئ معاً؛ وهذا من شأنه أن يكشف عن خبايا نصية منطوية في النص تظهر بين قراءة وأخرى.


5-جمالية اللغة الشعرية/ وبداعة الأنساق الوصفية.
إن بؤرة جمالية اللغة الشعرية تتبدى في فعالية أنساقها الوصفية؛ للاضطلاع بقيمة المشهد، أو الحدث الشعري المجسد، فالعلاق يعي أن الشعرية بنى جمالية، وإن بداعة أنساقها اللغوية[ وصفية، سردية، ملحمية]؛ تكمن في مدى إصابتها لهذه القيمة، وتحقيق التناغم الداخلي على صعيد بناها وعلائقها اللغوية المضمرة؛ ومن هذا المنطلق؛ يرى العلاق:" أن الشعر ازدهار للغة الخاصة في مواجهة الشائع والمكرور من أنماط القول، وهو انتصار لفرديتها المعذبة على عقلية القطيع والتشابه والعزلة"( ). وهذا دليل رؤيته التجديدية للشعر التي تحاول زعزعة الرؤى الثابتة في المنظور الشعري؛ برؤى حداثاوية تؤكد" أن الحداثة بوصفها فعلاً تواصلياً إبداعياً ، لا يمكن أن تفصل بين المتخيل والواقع، أو الذاتي والموضوعي، أو الذاكري والآني، بل هي مزج بين كل ذلك في انصهار رؤيوي، يرى في النص كوناً تتداخل فيه العلائق بين اللغة والذات"( ). ومن هذا المنطلق؛ فإن" فعالية القراءة تكمن في الاكتناه، كما أن جوهر جمالية التقبل يكمن في كونها لا تبحث في النص عن المقول الحرفي للدال، وإنما تحفز القارئ على الكشف عن اللامقول، بحيث يستند الفهم لديه على مالم يذكر في كينونته المنفلتة المنزاحة ، نحو الأعمق الخفي، بينما يظل المذكور مجرد إحالة تحجبنا عن المعنى المختبئ"( ).
وتأسيساً على ما سبق؛ يمكن أن نعد العلاق في فهمه للخصائص الشعرية من أبرز النقاد المبدعين الذين جمعوا بين لغتي الإبداع والنقد في فهم دقيق وعميق للعملية الإبداعية؛ فإدخال العلاق عنصر السرد والوصف إلى قصائده أدى إلى اكتنازها بتقنيات وطاقات تعبيرية جديدة خدمت الفضاء التداولي النصي، وحققت أعلى مظاهر التمفصل والإبداع؛ وأكد في مقولته النقدية الشهيرة:" أن أشد ما يدهشنا في لغة شاعر ما نبرته الشخصية: أعني حين تكون لغته فردية متميزة، تعكس منحى خاصاً في اختياراته لمعجمه، أو أبنيته أو صياغاته. أي أنها تجسد مزاجاً لغوياً وجمالياً، لا يذكر بالآخرين، ولا يختلط بهوائهم اللغوي الشائع المشترك، بل يظل فيضاً من حيوية داخلية، ومسعىً حميماً إلى مناخ كتابي فردي"( ).
وتعد الأنساق الوصفية- في القصائد العلاقية- مرتكز فاعلية الرؤية الشعرية ؛ وتمفصلاتها الإبداعية؛ ومحطة انبثاق الرؤى، وتأملاتها الشعرية؛ فقارئ قصائد العلاق مسكون بهاجس إبداعي صوب متخيلاته الشعرية المبتكرة وتأملاته العميقة، وأسئلته الوجودية المتاخمة للوعي، والدافعة للحراك الشعوري؛ والتبئير والتكثيف الدلالي؛ ليدفع القارئ دفعاً إلى التفاعل مع نصوصه الشعرية؛ نظراً إلى مخزونها الفني وإبداعها الخصيب؛ فـ" القارئ ، إذ يقبل على التفاعل مع الأثر، أو فهمه، أو تأويله، إنما يعود إلى المخزون الذي اكتسبه في مراحل سابقة؛ والمقصودبـ[ المخزون] هو جملة المكتسبات العملية والذهنية المتمثلة في التصورات والخبرات المتكونة بخصوص الكتابة الأدبية أو غيرها، ويمكن استجلاء ثلاث مرجعيات ينطلق منها المتلقي في القراءة، وهي: 1- المعرفة بالهوية الفنية للنص، أو الأثر ( نوعه الأدبي) ؛ 2- المعرفة بآليات القراءة أو منهجها وغاياتها، 3- التجربة الذاتية التي اكتسبها القارئ، وهي تجربته الفعلية في الوجود . وتتكون تجربة القراءة من اعتماد هذه المعطيات، ولكن الأفق الجمالي الذي يحدثه الأثر يبدأ من إلغاء المرجع الذي ينطلق منه المتلقي، فتكون الكتابة مغايرة للأمل والقراءة مغامرة لا تنتهي إلا لتتجدد في تسآل متواصل"( ).
وما ينبغي تأكيده:
أن شعرية الأنساق الوصفية – في القصائد العلاقية- تتخذ طابعاً سردياً؛ شائقاً بلغة شعرية تتماوج ببعد إيحائي وتمفصل شاعري مثير ، كما في قوله:
" دائماً..
كان في الليلِ متسعٌ
للنهار، ثم طيورٌ
تحكُّ مناقيرها، بالمآذن،
والأغنيات، وبالأديرةْ..
ما الذي حلَّ بالغيمِ؟
قطنٌ قديمٌ تبعثُ به الريحُ، ماذا
جرى للأغاني ؟!
الفراشاتُ تشحبُ،
والنسرُ نسرانِ يقتتلانِ على
آخرِ الشجرةِ
الرعدُ في كلّ ناحيةٍ،
والأفاعي تحنُّ إلى العشب ثانيةً.
عنكبوتُ على وتر العودِ
والنحل يهرمُ من وحشةٍ،
ثم يظلمُ في دمه
الضوء"( ).
بداية، نشير إلى أن شعرية العلاق، شعرية منفتحة، تؤسس منظورها على بداعة الشكل اللغوي الذي تشكله، خاصة بما تؤسسه من تضافر الأنساق الوصفية، وتوالي الرؤى والمحفزات الشعرية التي تصدر عن تناغم داخلي حيوي في التشكيل الشعري؛ ينعكس ارتداده من الداخل إلى الخارج؛ ومن الخارج إلى الداخل؛ بمراوحة إبداعية تحقق التناغم بين الشكل والمضمون؛ لتحقق منتوجها الفني الإبداعي الأصيل، يقول شوقي ضيف:" فإذا كان العلم ينظم لنا حياتنا المادية؛ فالفن هو الذي ينظم حياتنا المعنوية، ويعيد تنظيمها ، بشكل يجعلنا نشعر بارتياح ورضىً عميق"( ). وهذا يدلنا إلى حقيقة مؤداها:" أن كل متأمل للعمل الفني، في الحقيقة، إنما يتأمل، ويفسر، ويستخلص قيماً معينة هذا لأن العمل الفني لا يقف بنا عند مستوى التأثير الحسي السطحي، إنما يوصلنا أيضاً إلى مفاهيم عقلية، ووجدانية، وحدسية ، وروحية عميقة"( ). وتبعاً لهذا؛ فإن الشعرية- لدى العلاق- خصوبة منظور وطاقة إبداعية تخييلية عالية ؛ تعتمد تشعير القنوات الإبداعية كلها والوسائل التشكيلية بتمامها لإثارة القارئ وتفعيله لمقاربة النص العلاقي مقاربة جمالية تسهم في تحديد فاعلية النص الشعري وأصالته الإبداعية.
وبالنظر- في محفزات الأنساق الوصفية ومستتبعاتها النصية من مؤثرات جمالية وعلائق لغوية مؤثرة في المقبوس السابق- نلحظ أن العلاق يستدرج الموصوفات المشتقة من حيز الطبيعة ، بحس لغوي توصيفي شائق، يرقى شعرية مثلى من الإثارة والتناغم الجمالي من خلال التوليف الرهيف بين الصور الوصفية، لاكتمال المشهد الرومانسي المشتق من الطبيعة؛ بموازاة فنية تعكس جمالية الصور التوصيفية المؤثرة في تحريك النسق الشعري جمالياً، كما في قوله:" ثم طيور تحك مناقيرها، بالمآذن؛ والأغنيات ، بالأديرة- عنكبوت على وتر العود- والنحل يهرم من وحشة، ثم يظلم في دمه الضوء"؛ وبهذا الأسلوب الفني الجمالي يحقق العلاق بداعة أنساقه السردية ومحفزاتها النسقية؛ لإبراز شعرية النسق ومهيمناته الفنية الفاعلة.
وثمة وعي فني ملحوظ بالقيمة الإبداعية للأنساق الوصفية عند العلاق؛ فهو يبني قصيدته بناءً شعرياً مؤسساً على تشعير اللغة/ الرؤيا، وإبراز منتوجها الجمالي، لدرجة تدفع المتلقي إلى التوغل في بؤرة القصيدة ومحرقها الجمالي؛ ليستحوذ على مركزية الرؤيا ومنبعها الفني، يقول العلاق:" لا أنظر إلى الشعر إلا بوصفه شعراً، أولاً وقبل كل شيء، فالنظر إليه بمعيار آخر يمثل خسارة كبرى للشعر وللمهمة الحضارية والوجدانية الموكلة إليه في آن معاً.إن الشعر ليس دعاية ، أو خطبة في جمهور حاشد. إنه التجسيد، الحي، والملموس، والملتهب، والجميل لكل ما هو خفي، أو ممكن، أو عصي على التحديد من طاقات الإنسان وكوامنه العميقة.إن للشعر دوراً هائلاً دون شك، غير أن هذا الدور لا يكمن في المباشرة أو المنبرية، بل في ثنايا العمل الشعري المكتمل الذي يندلع في أدغال الحياة ويباسها الموجع. ذلك العمل الذي يعصف بالسكينة والخمول، ويحرضنا على الذهاب أبعد من شرطنا اليومي القاهر، بعد أن يدلنا على جوهرنا الصلب وإرادتنا القاسية"( ).
وانطلاقاً ، من هذا المنظور، فإن العلاق شكل منتوجه الشعري عبر بلاغة العبارة، وكثافة الرؤيا، بأنساق وصفية، غاية في الترسيم والتمظهر الفني، كما في قوله:
" رحلتْ ليلى
فظلَّ الليلُ منسياً على
الشرفةِ، منذ البارحةْ،
وأنا أصغي إلى كأسي:
وردٌ يابسٌ
يجتاحُ رملَ النايِ
ليلى..
عطرتْ ليليَ بالتفاح
والوحشة: نجم قاتمٌ
يربكُ ماءَ الروحِ..
منذ البارحةْ.. وأنا أبحثُ في روحي
عن أطلالِ ليلى:
ليس إلا حجرُ الذكرى،
وإلا كمأة الفجر،
وريحٌ جارحةْ.."( ).
نشير بداية إلى: أن بداعة الأنساق الوصفية – في قصائد العلاق- مبنية على التظهير العلائقي للصور السردية التي تمتاز برشاقتها وخفتها في إصابة مقصودها ؛ وهكذا؛ لا تبدو رؤية العلاق مقصورة على اللغة ذاتها بقدر ما هي مقصورة على التفعيل الجمالي لهذه اللغة في بث الرؤيا العميقة بتمظهراتها الفنية ؛ التي تخط جمالها بحنكة وتمازج فني رائق؛ وتبعاً لهذا:" لا تصبح الكلمات مجرد مفردات تدخل في علاقات بين بعضها البعض، بل سياقات أدبية غايتها القصوى هي التعبير الجمالي عن موقف معين"؛ ومن هنا نرى أن الكلمات، ككلمات مفردة، عاجزة عن خلق سياق تعبيري معين، أو إعطاء دلالة معينة، بل إن المعنى هو جعل هذه الكلمات داخل بنية لغوية دالة؛ ومن ثم نظمها على طريقة محددة"( ).
يقودنا إلى نتيجة مؤداها:" أن بنية الشعر هي نسيج عناصره الداخلية كنظام لغوي يتفاعل فيه الصوت والدلالة والسياق، وليست عنصراً يأتي إليه من الخارج، وإلا لارتددنا إلى شعرية الكلمة المفردة بذاتها ، وشعرية الحقيقة، وشعرية الشيء، إلى غير ذلك من أوهام تجاوزها النقد"( ).
وبالنظر – في بلاغة الأنساق الوصفية في المقبوس الشعري- لوجدنا أن العلاق يعتمد السرد القصصي الشائق، بأسلوب ترسيمي جمالي، غاية في الإثارة والتحفيز الشعري، كما في الصور السردية الرومانسية التي تتقطر عذوبة، وحيوية ، ورشاقة جمالية:[ ظل الليل منسياً على الشرفة؛ وردٌ يابس يجتاح رمل الناي] ؛ إن هذه الاستعارات الجمالية بتمظهراتها اللغوية وأنساقها الوصفية المثيرة تدفع المتلقي إلى التفاعل معها؛ والإحساس بمنتوجها الجمالي؛ خاصة في الفاصلة الختامية:[ ليلى عطرت ليلى بالتفاح/ نجم قائم يربك ماء الروح] ؛ وهذا دليل أن شعرية العلاق تعتمد بداعة الأنساق الاستعارية وحنكتها التصويرية؛ بتجلياتها الجمالية، وخصوبتها الإيحائية العالية. وهذا يدلنا على أن موقف العلاق من الشعر موقف جمالي، إدراكي عميق، فهو يرى" أن الشعر مهما تنوعت وسائله، واجتهد الشاعر في الارتقاء بتقنياته، لا بد له من ماء يدب في أوصاله، فيشيع فيها حرارة الدم وخضرة الشجر بعبارة أخرى؛ لا بد لهذا الشعر من حياة فياضة بالانفعالات، والتأمل ، واللهو، والحنين... طالما أن اللغة معجونة بدم المعنى، وأن المعنى ينضح من لغة الشاعر، بهذه الطريقة تبتعد القصيدة عن سطوة الافتعال والتجريد"( ).
وتصبح معراج الحراك الشعوري والتكثيف الجمالي والتنامي الإيحائي على الدوام.
•نتائج واستدلالات.
1-تؤسس اللغة الشعرية جماليتها- في قصائد العلاق- بالارتكاز على مثيرات[ الرؤيا] / والعلائق المجازية التي ترتبط فيما بينها، لإثراء الرؤى والإيحاءات والدلالات المتتابعة بشكل يتيح للمتلقي، أو القارئ التفاعل مع قصائده بحيازة نسقية فاعلة ومتعة إدهاشية ؛خاصة من خلال أسلوب المحاورة ، والامتصاص، والمساءلة التي تحدثها نصوصه من مجاذبة للقارئ، ومماطلة نصية في استجلاب الدلالات الرديفة وتعزيزها في النسق.
2-إن محك جمالية اللغة الشعرية- عند العلاق- متوالياتها التساؤلية التي تسبح في حيز الانفتاح على الآخر، لإبراز جو الصدام الوجودي؛ حيناً؛ وإبراز سره الوجودي حيناً آخر، إذ إن الشاعر باكتشافه الآخر يكتشف ذاته والعالم المحيط؛ وباكتشافه الآخر وإدراك علاقته به يكتشف الذات والعالم المحيط بها؛ مما يجعل الشاعر يعيش في تطور دائم وحراك وجودي عميق في هذا العالم، وهذا ما أدركه العلاق قائلاً " فإدراك الآخر " إدراك للذات" وفي إدراك الذات إبراز للمختلف؛ حينها فقط تحس كنه التمايز ولذة الاختلاف مع الغير الذي يعلن نفسه كآخر يتميز عنا، ولا يمكن إقحامه( الآخر سر لأنه آخر)( ).
3-إن درجة فاعلية اللغة الشعرية- عند العلاق- مؤسسة على الحراك الجمالي للأنساق اللغوية؛ لدرجة تأسيسها لفاعلية الصورة الدهشة أو الصدمة؛ لتبدو بغاية التماسك والإبداع والتحفيز النصي؛ وهذا دليل" أن العمل الأدبي يحيا عندما يكون فعالاً، والجمهور القارئ بصفة عامة هو الذي يقوم بهذا التفعيل الذي من شأنه أن يجعل من العمل الأدبي عملاً حياً ومستمراً"( ).
4-إن جمالية اللغة الشعرية- عند العلاق- تنبني على سحر اللغة، وجمال الإيقاع الشاعري العميق الذي تتلاحق فيه الرؤى الشعرية، وتتفاعل حول مثيراته ومحفزاته النسقية؛ وتبعاً لهذا المنظار تزداد جاذبية اللغة ودرجة تحفيزها النسقي عبر المجازات اللغوية وتداعياتها ومثيراتها الصوتية التي تزيد وتيرة النسق جاذبية، وتنمي خصوبته الجمالية.

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1071 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع