د. محمد عياش الكبيسي
فتحت حماس جرحا غائرا، وأثارت حولها عاصفة من الانتقادات وردود الأفعال المختلفة، بنعيها لمقتل القيادي في «حزب الله» سمير القنطار، ذلك النعي الذي جاء بصيغتين؛ الأولى سياسية دبلوماسية تبنتها الحركة رسميا، والثانية: عاطفية ارتجالية تبنتها كتائب القسّام، وبينما كان أحباب حماس وأنصارها يحاولون تفهّم بيانها (الدبلوماسي) جاءتهم الصدمة من القسّام الذي منح صك الشهادة للقنطار (شهيد فلسطين ولبنان، شهيد المقاومة الإسلامية، المناضل العربي الكبير...).
سمير القنطار هذا في نظر الشعبين السوري والعراقي وكثير من الشعوب العربية والإسلامية مجرم وسفّاح وقاتل للأطفال، ومفجّر لبيوت الله، وحليف استراتيجي لبوتين، إضافة إلى كونه رأس الرمح في المشروع الإيراني الذي بات سببا مباشرا وشريكا فعّالا في تدمير أربع عواصم عربية، ولا يُخفي أطماعه في احتلال العواصم الأخرى حتى مكة والمدينة!
القسّام يبدو أنه بالفعل تنقصه المعلومات الكافية عن جرائم هذا القنطار وحزبه، وقد أشار إلى هذا بالفعل بعض الإخوة المعتذرين عن بيان القسّام، وإلا فقد كان يكفي القسّام بيان المكتب السياسي للحركة، دون أن يضع نفسه في هذا الموضع الحرج مع أمته وحاضنته الطبيعية والذين لم يكونوا يكنّون له إلا كل التقدير والتأييد، خاصة الشعبين الكريمين المجاهدَين؛ الشعب السوري والشعب العراقي.
المسألة في تقديري أبعد بكثير من مسألة الخطأ والاعتذار عن الخطأ، إنها الإشكالات المنهجية التي لم توضع حتى الآن تحت الشمس، ولم تخضع لمراجعة منهجية جادّة لا على المستوى الشرعي ولا على المستوى السياسي، فالحركات الإسلامية بالعموم مع أنها بدأت تعي ما يجري تحت أقدامها، لكنه وعي بسبب الهزات والصدمات، وليس وعيا علميا منهجيا، ومراجعة شيخنا القرضاوي لموقفه من حزب الله ومسألة التقريب مثال شاخص، ومع هذا فما زال هناك من يرى في كل هذا (خلافا مفتعلا)، بل ذهب أحدهم إلى اعتبار الخميني ثالث ثلاثة في التجديد الإسلامي المعاصر مع حسن البنا والمودودي، ثم يأتي آخر من هذه الشاكلة ليقدّم بحثه (الإمام الخميني مجددا)!
إننا إذاً أمام إشكالية عقدية وفكرية، حتى داخل المدرسة الواحدة، فحزب الله وحزب الشيطان إشادة أو إدانة كنت تسمعهما في الجماعة الواحدة والأسرة الواحدة إلى عهد قريب، وأمام هذه الفوضى لا تبدو مواقف حماس أو القسّام خارجة عن السياق، خاصة أنها تعيش ظروفا سياسية وميدانية صعبة، ومكاتبها في لبنان تكاد تكون تحت حماية ميليشيا (الحزب) وهذا وحده له ضريبته التي لا تخفى على منصف.
فالنصيحة أولا ينبغي أن توجّه إلى قادة الرأي والفكر في الأمة؛ أن احسموا أمركم، وصارحوا من شذّ عنكم ولو كان قريبا أو نسيبا، فحزب الله وحزب الشيطان لا يختلطان إلى هذا الحدّ، والوقوف مع الثورة السورية أو مع بشار وحلفه لم يعد مسألة اجتهاديّة، ومعالجة الخرق الفكري والنظري مقدّم على معالجة الخرق العملي والميداني.
ثم النصيحة لحماس وللقسّام بشكل خاص؛ أن افتراق إيران عن الأمة حتمية عقدية وتاريخية وسياسية، وكل يوم يمر نقترب فيه من هذه الحتمية، فمحاولة الوقوف بين بين، أو الجمع بين السبيلين، محاولة خاسرة وفاشلة بكل المقاييس، وأولها المقياس الربّاني الذي هو أساس الأساسات وغاية الغايات (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم).
النصيحة الثانية؛ أن إيران لا تثق بأي طرف سنّي مهما تحلّى بالمرونة السياسية والكياسة الدبلوماسية، وانظروا إلى (إخوان العراق) الذين ذبحتهم إيران على كل تصنيفاتهم؛ المقاومين للاحتلال الأميركي، والمشاركين في العملية السياسية، والمنشغلين بالدعوة والتربية، والواقفين على التل، حتى أولئك الصارخين ليل نهار (إخوان سنّة وشيعة) كل هؤلاء ذبحتهم إيران دون تمييز، ثم انظروا إلى (إخوان سوريا) و(إخوان اليمن)، انظروا ما فعله الحوثيون بجماعة الإصلاح وجامعة الإيمان ومدارس القرآن، فعلام يستثنونكم أنتم يا كتائب القسّام؟ لأنكم لا تعيشون اليوم في دائرة المخطط الإيراني إلا بحدود استخدام اسمكم الناصع لتخدير جسد الأمة وتضليل الرأي العام فيها، وكلكم يذكر كيف كان إخوانكم السوريون يهتفون لحسن نصر الله ويحملون صوره في كل مكان، فسلوهم اليوم عن حسن نصر الله وعن إيران وحلف الشيطان.
من حق كتائب القسّام وكل حركة حماس أن يستندوا إلى ثقة الناس بهم ومحبتهم لهم في التماس الأعذار والتغافل عن الزلات، لكن هذه الثقة وهذه المحبة ينبغي ألا توضع على المحك مقابل محبة الناس لدينهم وعقيدتهم وأرضهم وعرضهم، فلا يمكن للأمة أن تتغافل عن سيول الشتائم التي يتعرّض لها أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمهات المؤمنين، ولا أن يسكتوا عن مئات المساجد التي تهدم فوق رؤوسهم، ولا عن مئات المدن والقرى التي تحوّلت إلى تراب، ولا عن الحرائر اللواتي يتعرّضن للإهانة والاغتصاب على يد (أبطال المقاومة) و(الممانعة) حتى لو حرروا لنا فلسطين كل فلسطين.
أما التذرّع بالموقف الرسمي العربي، فمع أنه واقع مؤلم، لكنه للأمانة أيضا أن المقاومة العراقية التي هزمت أميركا بالأمس، والثورة السورية التي تقاتل حلف الشيطان اليوم لم يحصلا بمجموعهما من الدول العربية إلا على النزر القليل الذي لا يقارن بأي قضية أخرى.
هذه محنتنا جميعا فلنتحملها بروح الأمة وهويتها وعقيدتها لا بروح المصالح القُطْرية والفئوية الضيقة، وإن من شروط النصر وضروراته الاعتصام بحبل الله ووحدة الكلمة (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم)، والمجاهد الحق من يقدّم ماله ونفسه لله ويده على قلبه خشية الرد وعدم القبول، لا أن يستكثر ما عنده ويستهين بما عند إخوانه، ولا أن يطلب حصانة الأمة له عن كل زلاته وأخطائه.
1036 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع