إنعام كجه جي
قبل انتصاف الليل بدقائق، برقت في بريدي رسالة تحمل تسجيلا للقبانجي. أغنية بلحن عذب وكلمات بسيطة: «ليلتي ليلة جميلة… طولي بالله يا ليلة».
ومن وسائل التّصبر على المواجع بين العراقيين تبادل كل ما له علاقة بما كان حاضرًا في حياتهم من لطائف ثم ارتدى طاقية الإخفاء. ولعل أعظم أبطال الخيال العلمي في القفز العريض، أو حتى بالزانة، لا يستطيع اجتياز المسافة التي كنا عليها ثم صرنا إلى نقيضها. ومن يطلع على مراسلاتنا الإلكترونية، اليوم، يتصور الكهل فينا عجوزًا بلغ من العمر عتيًّا، عاش أضعاف عمره ودخل مرحلة التحسّر على ما مضى وراح يبحث عن صبغة للشعر الأبيض ويناشد زارع البزرنكوش: «ازرع لنا حنّة».
من المؤكد أن ليالينا لم تكن كلها جميلة. لكن العودة إلى محمد القبانجي (1901 – 1988) هي حجّة لترميم النفوس التي صدّعتها الحروب. فالرجل نشأ في أسرة تمتهن الوزن والكيل بالقبّان، وكان مُقدرًا له أن يمضي عمره فيها. لكنه سمع الغناء فطاش عيار ميزانه وتعلق بالطرب وصار من أشهر قرّاء المقام العراقي. ولمن لا يعرف ما هو هذا الفن فإننا يمكن أن نوجزه، بشكل علمي دقيق، بأنه دفقات الأرواح تتجمع في قرار الحنجرة ثم تصعد إلى مراتب الوجد، مرتبة بعد مرتبة. والشاطر فيه هو من يسمو بالسامعين إلى أقصاها.
في صباه، كان يتردد على مقهى قدوري العيشة في سوق الغزل ببغداد. وهو مكان كان يجتمع فيه مشاهير قراء المقام آنذاك، أي قبل نحو من مائة عام، يغنون ويتبارون ويستمعون للمواهب الجديدة. وبعد سنوات من المعايشة والإصغاء، غنى القبانجي لهم فإذا به يبتدع أسلوبًا خاصًا به. وقيل له: «لماذا لا تغني مثلنا؟». وهنا وقف قدوري العيشة وصاح: «بل هو يغني أحسن منا». وبعد فترة وجيزة راح وكلاء شركات الأسطوانات في حلب والقاهرة يقصدون المغني الشاب في المقهى لكي يتعاقدوا معه على تسجيل مقاماته، وقد أُعجب به الملك غازي ودعاه للغناء في «إذاعة قصر الزهور»، وهي جهاز بدائي للإرسال كان الملك الشاب يبث منه مواقفه المعادية للإنجليز. ولما عُقد أول مؤتمر للموسيقى العربية في القاهرة، عام 1932، خرج رئيس الوزراء نوري السعيد إلى المطار، ومعه حشد من الوزراء وأهل الأدب، بينهم الشاعر معروف الرصافي، لتوديع وفد العراق إلى المؤتمر برئاسة قارئ المقام محمد القبانجي.
يروي الباحث الموسيقي ثامر العامري أن أم كلثوم سألت القبانجي، أثناء دعوة أقامتها في بيتها لضيوف المؤتمر، عن الفرق بين البيات العراقي والبيات المصري. فأنشد لها أغنيتها «أنا على كيفك» وانتقل منها، انتقالة ذكية، إلى مقام البهرزاوي. وبلغ من إعجاب الست أنها تمنت لو كان أستاذها الشيخ أبو العلا حاضرًا ليستمع إلى الصوت القدير الآتي من بغداد. وهو لم يكن صاحب صوت عذب ونفس طويل فحسب، بل ثقافة أدبية عالية تؤهله للارتجال أثناء الغناء، إذا استدعى الموقف. ولما أصدر المستشرق الموسيقي الفرنسي كريستيان بوخيه، بمبادرة من معهد العالم العربي بباريس، أسطوانة رقمية حملت تسجيلا نادرًا لحفلات مؤتمر القاهرة، لاحظ أن ما قدمه القبانجي كان «قمة في عبقرية الأداء وشيئًا لم تعرفه الموسيقى العربية من قبل».
أختتم سنة مضت بالقبانجي وأفتتح به سنتي الجديدة. ومن أفضال اليوتيوبيين أنهم حفظوا لنا حفلة مهرجان الشعر العربي في بغداد، عام 1964، يوم وقف مغنينا على المسرح يشجو: «المُلك لله والأوطان تجمعنا»، فإذا بالشاعر أحمد رامي يرمي بمعطفه في الهواء ويكاد يشد شعره، أو ما بقي منه، من فرط الطرب. من يُصدّق أن الباحث في التراث عبد الحميد العلوجي كتب قبل عقود نصًا جاء فيه: «ضمّ تخت المقاهي، في النصف الأول من القرن العشرين، رعيلا من ذوي الحناجر الذهبية، يبكون عراقهم الممتحن بأهواء أصفهان والأستانة، ويماوجون بالمقام وهم يلعنون الحظ العاثر، ويؤاسون القلب المفتون، ويعذلون الدهر اللئيم، ويصاولون الأجنبي الدخيل، ويواجهون تكاليف الحياة بالنغم الشجي واللحن الطروب».
كأننا عشنا مائة عام من العزلة ولم نتعلم.
983 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع