كلمات لها قدرة المرايارواية ضرغام الدباغ
برلين/ 2010
مقدمة
هذه الرواية هي حقاً كما يشير عنوانها، محاولة ..... محاولة لاستعادة الرؤى، أستخراج الكلمات من المرايا بأعلى دقة ممكنة، واستعادة تفسيرها في تحليق لا أفق له، محاولة لأن نضع تجربة وصور في إطار فني يصلح للتعميم، وتصلح أن يكون ثقافة جمعية وغرضي أن لا تضيع التجربة، تجربة سكب فيها إنسان الكثير من روحه، وحرص أن يخرج منها سالماً، متعافياً بدرجة تتيح له أن يتحدث عنها بموضوعية، وأنا لا أنكر أني من أنصار مذهب الفن للحياة، وأنا لا أضع مدادي فيما لا يهدف لشيئ .... لا.... لا أنكر أني أحب الحياة ... لي وللناس ... وسعادتي تكمن ببساطة عندما أشاهد الفرح في عيون الناس ... لذلك فإني مستعد للتضحية إن كان ذلك يسعد الناس ...
الغضب سيضيع علينا قدراً من وعينا، ونحن بحاجة له بأجمعه، سوف لن تتكلل مساعينا بالنجاح في تقيم خدمة للمجتمع ما لم نتسم بالعدل .... وأن نكون صادقين مع أنفسنا أولاً ... بلادنا بحاجة كما أعتقد لمثل هذه المحاولات. سيتفهمها كثير من القراء، ولكني لا أستبعد الساخطين الغاضبين، نحن جميعاً سنغادر الحياة ... كل في يومه ... وتبقى هذه الأعمال للأجيال المقبلة وأرجح بل أتمنى أنها ستكون مفيدة.
هذه الرؤى ليست مرتبطة بمرحلة معينة، ولكنها ونجزم أنها قد مرت جميعها على الناس في البلاد، مرت بسرعة أو ببطء، بهذا التسلسل أو ذاك ... ولكننا نتعذب منذ أن أفتقدنا القدرة على أن نسمع بعضنا، ورحنا نكيد لبعضنا بل وربما تقتلنا في العديد من الأحيان، أما آمالنا وأحلامنا بالحرية والسعادة، فقد صودرت منذ زمن بعيد، وجرى تعويدنا ببطء على أحتمال التعسف والقهر، والوقاحة والقباحة، حتى أستحال لون الهواء والماء إلى ألوان الشؤم سوداء أو الرمادي.
هذه الرواية تحرض على الحب، والتفاهم، حتى لا تتعرض أحلامنا للأغتيال، والأشياء والمكونات الجميلة التي تحيط بنا، وإني لأؤمن أن بوسعنا أن نتفاهم وأن نصل إلى مشتركات، بشرط إبعاد المؤثرات الخارجية، وتماسيح هنا وغيلان هناك ... أريد أن أقنع الناس ومن يحيط بنا، أن الكراهية والحقد، أشياء قبيحة، الشكل والجوهر، ولا تنتج إلا النتائج الوخيمة، ولا تفيد حتى من أوقد نيرانها.
الوقت لم يفت لكل من يريد أن يرتد لإنسانيته وينحاز لها
المؤلف
تشرين الثاني ـ نوفمبر / 2015
1
كان ينحدر بسيارته من أعلى شارع "البيوت الجميلة"، هكذا كان أسم الشارع منذ زمن بعيد، ولكنه مثل دوماً الحي البروليتاري في مدينة برلين، وكان الحزب الاشتراكي الديمقراطي في أول عهده بالسلطة بعد الحرب العالمية الأولى قد شيد في أحد جوانب هذا الشارع الطويل، وبطريقة العمل الشعبي، بضعة أقسام من العمارات الواطئة التي لا يزيد ارتفاعها عن أربعة طوابق، لتكن مثالاً لإبداع العمل الجماعي، أعيد ترميمها بعد الحرب العالمية الثانية وفي عهد الاشتراكية العمالية، على نحو أجمل، ثم اكتست جدران العمارات بالنبات الأخضر المتسلق الذي يسمى في بلادنا (مخلب القط) فغدت لتلك الشوارع منظراً خاصاً، يضيف نكهة أخرى إلى أخبار الحي وتاريخه الطويل.
الوقت كان متأخراً، وهو الذي لم يعتاد أن يبقى خارج شقته في القسم الداخلي للطلبة، وقتاً طويلاً، فقد كان في مطلع مرحلة الدراسات العليا، وعليه قبل حلول العطلة الصيفية أن يقدم عملاً مقنعاً للقسم في الكلية ولأستاذه المشرف، بيد أنه لمح فتاة تؤشر بلوعة للسيارات المارة سواء كانت سيارات أجرة أم خصوصي، يبدو أنها على عجلة من أمرها.
كان سليم يدرس السياسة والاقتصاد منذ عدة سنوات، وقد أنهى مرحلة الماجستير، وها هو يحث الخطى في مرحلة الدكتوراه، تلاحقة خنافس وعناكب وبنات آوى، وكل أصناف حيوانات القمامة، وكل ذلك لأن دماغه ليس شقة للإيجار، وملكية خاصة غير قابلة للتأميم ..!
أعتقد أن عدم تلبيته طلب هذه الفتاة سيكون أمراً لا ينطوي على اللطف ..
ـ آه .. أني أشكرك أيها السيد كثيراً.. لم تمر سيارة منذ فترة، وأنا لا بد أن أكون في البيت ..
لم يسألها عن سبب استعجالها العودة إلى البيت، ولكنها استطردت..
ـ سيارتك جميلة، وأنت حتماً إنكليزي ..
ـ ولماذا حتماً إنكليزي ..؟
ـ لأن السترة التي ترتديها من قماش التويد Tweed ...
لم يتمالك من أن يستغرق بالضحك لدرجة كاد أن يفقد السيطرة على قيادته السيارة ....
ـ لماذا تضحك .. هذه حقيقة، وأنك حتماً ثري، لأن سيارتك مرسيدس ..
تواصل ضحكه، ثم أنه عندما استعاد نفسه قال لها ...
ـ لست أنكليزياً، بل ليس لدي أقارب إنكليز حتى من الدرجة العاشرة، كما أني لست ثرياً، وكل ما في الأمر أني كثير السفر، وأحتاج لسيارة آمنة للسفرات الكثيرة والطويلة.
ـ شرح جيد .. وسترة التويد ..
تذكر سليم سترة التويد وعاد للضحك ..
ـ وهل تعتقدين أن كل من يرتدي سترة التويد لابد أن يكون إنكليزياً...
كانت فتاة بريئة، وأفكارها كذلك، وربما كانت تلك الأعوام هي خاتمة مرحلة التفكير خارج ضغط العقد النفسية، كانت ألمانيا الديمقراطية تتقدم اقتصادياً وثقافياً بسرعة، ولكنها كانت تقترب من نهايتها أيضاً بسرعة، سوف نلحظ ذلك على مدى الصفحات القادمة ..
أستلطفا بعضهما بسرعة، لذلك كان بديهياً أن يتفقا على موعد في اليوم التالي، ولكنها بعد أن نزلت من السيارة واختفت، تذكر أن المقهى المتفق عليه لديه فرعان، يبتعد أحدهما عن الآخر حوالي 3 كيلومترات ..
في اليوم التالي، كان يدرك سلفاً بأنه قد فقدها ... هكذا كانت دقائق لا تنسى مع فتاة لطيفة، لم تشأ الأقدار مواصلتها، بل ستقذف به في مسارب مجرة أخرى ... ويا لها من مجرة .. أم ترى كان كل ذلك ضمن مخطط الحظ ... من يدري ..!
أنتقل بين المكانين ثلاث أو أربع مرات، دون جدوى، أنتظر طويلاً كان ينظر إلى ساعة الحائط في الرصيف المقابل، تذكر قصيدة لمحمود درويش، فابتسم..
مضى مهزوماً إلى مقهى شهير يرتاده أصدقائه، آملاً أنه سيحضى بصحبة مرحة ليلة الأحد بين صخب الموسيقى وهمس الخطوات، واستراق نظرات الوله .. أمسية كغيرها، كان في تلك المرحلة قد أنتهي من العلاقات الثابتة التي ترتب التزامات لا يقدر عليها، ولكن مقاهي الجامعة وأقسامها لا تدع المرء يشعر بالضجر، وإطلاقا بالوحدة، فأنت هنا في بؤبؤ ثورة الطلاب العاصفة، الطالب يبحث عن كل شيء، يستثير فضوله كل شيء، سفنه وقلاعه مشرعة للسفر في كل لحظة صوب كل الاتجاهات، لذا فالطلاب مشروع ثورة دائم .. بحث وتطلع وأمل
كان له ما توقع .. هاهم أصدقائه يتجمعون على غير موعد، هذا يتحدث عن همومه الدراسية، وآخر يتحدث عن فتوحاته الغرامية، وآخر بحماس عن قضايا الأوطان .. وآخر عن جدوى الثورة الاشتراكية في أفغانستان..
ـ لنكن واقعيين .. الثورة الاشتراكية في أفغانستان ستحرق المراحل ..
ـ أي حرق مراحل وأي بطيخ ..
ـ لماذا لا .. ألم تختصر منغوليا التاريخ من المرحلة الرعوية إلى الاشتراكية ...!
كان سليم صامتاً، فهذا النقاش يدور منذ أكثر من ثلاثة شهور ولا تبدو له نهاية قريبة .. ورأيه كان واضحاً..
كان يحاول تجميع موقف جديد، ينظم صفوفه.. ليتجاوز إحباطه..
عندما منح انتباهه لصديقه محمد الذي كان يتحدث عن الإنتاجية في الاقتصاد .. استدار بعد دقائق ليجد أن الطاولة المجاورة قد شغلت من ثلاث فتيات في أواسط العشرينات من أعمارهن، فأعتدل في جلسته، بأدب شرقي لم تغير منه إقامته الطويلة في أوربا، كان يمسك بمسبحة وجدها في جيب سترته، ذات حبات كبيرة نوعاً ما، خضراء، يعبث بها لا على التعين، والأوربيين تثيرهم منظر المسبحة الشرقية وهي غير مألوفة عندهم البتة، وذات مغزى ديني حصراً، بينما الشرقي يستخدمها غالباً دفعاً للتوتر، وربما دفعاً للضجر..
واحدة منهن كانت على شيء من بدانة، والأخرى منمشة الوجه، والأخرى، عندما تطلع إليها سليم، أدرك فوراً أنه سقط في بئر مظلم لا قرار له..
صور من تداعيات روايات فرانتز كافكا، أو عيون ميدوزا في الأساطير اليونانية.. وميدوزا كانت مرعبة، أما هذه فيأخذك سحر ينبعث منها إلى مسارب ومجرات لا تعرفها، فبالنسبة له، لم تكن هناك ثلاث فتيات، بل واحدة، بل أن المقهى وبما فيه بدأت صورته تتلاشى.. حتى أصبح بالكاد يستمع إلى أحاديث أصدقائه..
حاول أن لا يبدو فضولياً .. أو نهم النظرات .. وحاول أن لا يبدو متلهفاً ..
ـ محمد ما رأيك بهذه الفتاة ..؟
ـ أراك قد شغلتك .. فيها شيء لا أعرف ماذا اسميه .. هناك فتيات يتمتعن بوقع من النظرة الأولى ..
ـ أو ترى فيها شيئاً من ذالك ...؟
ـ فيها شيئ لا أتبينه هذه اللحظة ..!
كان الأصدقاء يتناولون القهوة، البعض منهم كان يتناول الكحول، ذلك البعض الذي لا يقود سيارة، فرجال الشرطة ينصبون الفخاخ المحكمة أيام العطل ونهايات الأسبوع، ونحن في يوم السبت ويوم الاثنين هو عيد الفصح، من شهر مايو/ أيار فالعطلة طويلة، وكمائن الشرطة كثيرة، فلا يغامرن أحد بتناول الكحول ولو قنينة بيرة..
نهضت تلك التي أثارت اهتمامه، وتبادلت كلمات مقتضبة مع صديقاتها، خمن أنها ماضية إلى لشأن لها وسرعان ما ستعود، وحقاً كان الأمر كذلك ..
نهضن بعد قليل، تابعهن بعينيه، وهو يجتهد غاية الاجتهاد أن لا يلحظن اهتمامه، لاحظ أنهن يتجهن صوب النادي الليلي، تمازحن قليلاً في شيء من براءة وبساطة
في الساعة التاسعة يبدأ الناس بالتقاطر إلى النادي، وهو فخم في تأثيثه وخدماته، ولا بد من الذهاب مبكراً وإلا فإنك سوف لن تجد مكاناً حتى للوقوف ...!
عندما دخل مع أصدقاءه، توزعوا على الأماكن جلوساً ووقوفاً، أما هو، فكأنما الطير على رأسه .. يشعر بارتباك داخلي، لا يستطيع أن يرفع نظره عن تلك الطاولة حيث جلسن الفتيات الثلاثة، هناك شعور يوحي أن شاغلته كانت هي الآمرة فيهن ..
جلس مازن إلى جانبه .. ومازن طبيب من دمشق شاب يدرس التخصص في جامعة برلين، أدرك انشغال صديقه ..
ـ اسمع .. أطرق الحديد وهو ساخن، في أول دورة موسيقى أنهض وأذهب إليها، وراقصها، وستعرف كم حظك ونصيبك من المسألة ..
ـ مازن .. أني لا أريد أن أخسر هذه الفتاة ..
ـ ولماذا تخسرها، هيا قد بدأت الفرقة الموسيقية العزف ..
ـ ألا أنتظر الدورة القادمة ؟
ـ أذهب فوراً .. أمنح نفسك للريح ..
توجه إليها، وكان المرقص لا يزال شبه خال
ـ أيتها الآنسة، هل تسمحين لي بهذه الرقصة .. رجاء ؟
نظرت للحظة ...
ـ الرقصة من الدورة الأولى .. هيا لنرقص ولم لا ..
أستطاع أن يتأملها جيداً، فهي طويلة نوعاً ما بالنسبة لفتاة، جميلة دون تلك الجاذبية الصارخة، لها قوام رائع ..
عندما أخذها بين ذراعيه ..ابتدأ الحديث بحذر، والدخول في مجاهل قلب وعقل فتاة قدر أنها بين الخامسة والسادسة والعشرين من العمر..
عندما انتهت الدورة (من ثلاث مقطوعات) أعادها إلى طاولتها وشكرها
ـ كيف كان الموقف ..؟
ـ يا مازن أنها تستحق التعب، هي على درجة من النقاء والعفوية الصادقة ..
ـ هي ليست من سكان العاصمة ؟
ـ نعم على الأرجح ..
ـ أدعها بعد الدورة الثانية من الرقص، إلى تناول شيء على البار وستكون الفرصة مواتية للمزيد من الاكتشافات.. لا تتردد ...
وعندما عزفت الفرقة الدورة الثانية، نهض فوراً، لاحظ بغير يقين، أنها كانت تبحث بعيونها عنه .. ولكن لا ينبغي أن نحلق سريعاً في الهواء ..
وخلال الرقصة..
ـ أسمي كلوديا .. أوه .. نعم لقد حزرت، لست من برلين، بل من سكان ضواحي العاصمة، أنا من (Henigsdorf) ..... بلدة صغيرة بالقرب من برلين .. ويبعد بيتنا عن هذا المكان حوالي 30 كلم ..
قال لها أنه طالب دراسات عليا وفي اللغة الألمانية لها مصطلح محدد Aspirantur وللألمان موقف احترام خاص من طلاب العلم، ثم قال لها أنه لم يكن يتصور أنه سيلتقي ب .. فأكملت له .. آنسة.
كانت الدورة بمقطوعاتها الثلاثة قد انتهت، وقد أدرك أنه قد لفت اهتمام الفتاة، فكان أن دعاها فوراً إلى البار..
ـ دعيني أختار لك رجاء، في المناسبات السعيدة يقدمون الكونياك تعبيراً عن أهمية النخب .. هل تفضلين الكورفوازيه أو ريمي مارتان ؟ أنا أعتقد أن ريمي مارتان أخف نوعاً ما . . هل ستسمحين أن أقترح النخب ..؟ نشرب نخب شيء ابتدأ الآن ... ربما ...؟
تطلعت إليه بذهول تقريباً ... كان يدهشها بتصرفاته وتحركاته.. هو كان قد عقد العزم أن تكون له .. شعور نادر لم يشعر به من قبل قط .. وعلى الأرجح شعرت هي بعزمه هذا ....
كان الاستراتيجي الروسي كوزنتسوف قد سئل مرة، من هو القائد الذي يكسب المعركة ..؟
فأجاب باختصار: الذي قد صمم على الفوز بها ...!
كان يحتضنها بعينيه، هناك سر لم يتبينه.. ولسوف يمضي وقت طويل دون أن يستجلي هذا السر ... ما لذي يجعله يرتجف عندما ينظر إليها ..؟
كان قد سمع بصعقة الحب الصقلية، صعقة تصيب الولهان، فيغدو أسير تلك الصعقة، ولكننا لسنا في صقلية، بل في برلين العاصمة المثالية للاشتراكية الواقعية ... ترى أين قرأ صعقة الحب الصقلية، ما اشد حاجته الآن لتفسير ما يمر به ..
ترى أتشبه إمرأة ترقد في أعماق ذاكرته، لا يتذكرها.. الفرويدية تقول أن ذلك ممكن .. ولطالما كان يكن الاحترام لفرويد ..
وفي الشعر والأدب العربي هناك شيء أسمه الحب من النظرة الأولى ...
لم يكن فارس غرام، ولكنه كان قد قرأ لكولن ولسن، أن هناك ضرباً من سحر اسود، وتحديداً في رواية رجل بلا ظل.
كان قد قرأ أن رجلاً ليس بالضرورة أن يكون من طبقة النبلاء كان مدعواً لعرس أميرة أو نبيلة، صعق لمشهدها، ولم يعد يستطيع التنفس، بل شعر بأن روحه ستزهق، فأبتكر وسيلة ما ليحدث الأميرة.. وأفضى لها بمشاعره، قال أنه سيصاب بكآبة سترافقه طول عمره، وقد تكون قاتلة .. وأنها هي السبب في ذلك، وقد يمضي حياته بأسرها في بؤس بسببها، فتأثرت النبيلة بعمق، فكان أن أختلت به لوقت في أحدى غرف القصر ....
ترى هل يحصل ذلك غالباً ..؟
لا أدري .. ولكن سليم كان قرأ لسارتر رواية الحزن العميق من سلسلة دروب الحرية في مطلع شبابه، في أواخر الرواية يقتل ماتيو بطل سارتر في المواجهة بين الجيش الفرنسي الألماني في الحرب العالمية الثانية، كان على ماتيو أن يصمد 15 دقيقة لتعبر وحدته النهر، كان ماتيو يطلق الرصاص: على ذلك الجندي الفخور بخصلات شعره الأصفر ..طق، على ذلك الضابط ذو المنظار ..طق، على الساسة الذين قادوا شعوبنا إلى الحروب ..طق ...على الآمال التي سوف لن تتحقق ..طق، على السيدات التي أحببتهن ولم أنل منهن .. طق ... كان ماتيو يطلق الرصاص على أشياء في ذاكرته .. على أمنيات ذبيحة، ومن تلك فتيات أحبهن ولكن من جانب واحد ..
ثم تذكر كاتباً من معارفه كان في أول نهوضه .. أحب سيدة أرستقراطية، كان يفتعل المناسبة لكي يظهر اهتمامه بها .. ولكنها لم تكن لتشعر به حتى ..!
سألها ذات يوم وقد أضناه الوجع
أيتها السيدة .. هل أعني لك شيئاً ..؟
فقالت له، كلا للأسف، أنا لا أعرف حضرتك، هل تعمل هنا في مقصف الصحيفة ..؟
وكان صديقه الكاتب ماركسياً، والمتأثر ثقافياً بالوجودية يرتدي البسيط من الثياب دون عناية، وذلك مذهب المنهمكين في الشؤون العميقة ...
في تلك الأمسية أنتحر ذلك الكاتب .. لم يكن ليتحمل أن سيدة أعتقد أنه سيذهلها بحضوره وثقافته، وعواطفه، ثم تبين أنه لم تلحظ وجوده أصلاً .. لم يتحمل تلك الهزيمة وذلك الوجع، فأطلق على نفسه النار ..
والسيدة البورجوازية التي كانت تظهر اهتماماً مزيفاً بالثقافة دهشت في اليوم التالي عندما أخبروها أنها قتلت شاعراً ..
ـ أنا ...؟ لا والله ما بعرف ... خطية ..؟
وفي الصباح أيضاً أجتمع المثقفون الصعاليك، ليناقشوا مشروعية ما فعل زميلهم وصديقهم .. ولكن دون نتيجة .. كالعادة، ولكنهم اتفقوا أنها كانت هزيمة وجدانية فضيعة، لم يحتملها، هي لم تكن تشعر بوجوده، ربما كانت تعتقد أنه يعمل كنادل في مقهى الصحيفة التي كان هو أبرز كتاب الصفحة الثقافية فيها، ولكنه كان بائساً من حيث المظهر الخارجي .. ولكن من يسأل عن مظهرك الداخلي ..؟
نظر إليها ... كانت تبتسم .. سوف لن تعرف ما يدور في نفسه في تلك اللحظات .. كان يخاطب نفسه .. ها أنت تواجه السحر الأسود، وهذه السيدة الساحرة، نظر إلي عينيها الزرقاوتين ... أحس بالذعر ...
عيون ميدوزا .. ؟
ترى هل تتكرر الآن الأسطورة الإغريقية.. في برلين؟ ولكن على نحو آخر ... الأسطورة تقول : يصاب بالجنون من ينظر إليها .. أو ليس الحب بمكن أن يصبح ضرباً من الجنون ..؟
ولكن لماذا ..؟
أوه ... دعك منه، هذا السؤال القديم الجديد .. ستستهلك روحك قبل الإجابة عليه ...
كان مرة قد دعي يوماً إلى قضاء سهرة في مرقص شعبي تقريباً، وبينما كان جالساً هناك غير مكترث يتحدث في موضوع سياسي مع أحد أصدقاء الجلسة، وإذا به يشاهد فتاة جميلة، ولكن الأمر هنا مختلف، الفتاة تشبه إلى درجة غريبة حقاً، فتاة أحبها في مطلع شبابه، فذكرته هذه الفتاة الألمانية بحب قديم من أحلام الشباب وخيالاته، يوم كانت الأبتسامة، أكثر ما يطمح به الشاب، أما إذا مسك يدها، فسوف يحلم سبع مرات بليلة القدر ..!
نهض إليها وطلبها للرقص، وكانت فتاة طيبة القلب تقضي السهرة مع مجموعة العمل في المؤسسة التي تعمل بها في جنوب ألمانيا ...
ـ أسمعي، لقد أحببت فتاة تشبهك إلى درجة فظيعة، وكان ذلك في العشرين من عمري أي قبل 16 سنة، ولكنها توفيت في حادث سيارة، وأنا لم أكد أتعرف بها بعد، وما لم أقضي الليلة معك، فإن هذه الذكرى ستبقى في خيالي عذاباً يدفع للجنون، إني أتألم الآن لدرجة لا تطاق .. هل بوسعك أن تتخيلي الأمر رجاء ..؟
ـ أوه .. نعم بالتأكيد، أنه لأمر مؤسف حقاً، ولكن أين سنذهب ..؟
ـ لا أعرف .. دعينا نذهب إلى الفندق حيث تقيمين، ونتسلل إلى غرفتك ..
ـ لا .. لا نحتاج للتسلل، المصعد المؤدي للغرف بعيد عن أنظار قسم الاستقبال في الفندق، ولكن ماذا سأخبر زملائي ؟
ـ قولي لهم أنك تشعرين بعارض صحي، وعادة لا تسأل النساء عن التفاصيل ..!
أبتسمت..
وفي غرفتها في الفندق، وكانت أمسية ارتدت به لأيام مراهقته مع حبيبته التي لم يحض معها بأكثر من مسك اليد وكلمات حب خافتة، تحمر لها وجه فتاته بحمرة الطماطة ... ثم غادرا الفندق بعد ساعة، أخذها بعد ذلك إلى مرقص آخر، روى لها ذكرياته مع حبيبته الأولى، كانت متفاعلة معه، تسأل أدق التفاصيل، ثم تعود لتسأله، ولماذا لم تتمكن من الانفراد بها..
قال لها أن الشرق مسحور .. وعلى الشاب أن يجد مصباح علاء الدين لتقبل به الفتاة، أتسعت حدقتا عيناها دهشة ... وربما ذعراً ...
سألته، وهل هناك حقاً البساط الطائر ..
ـ طبعاً، ولكن البساط الطائر أنواع، وهناك أصناف غالية وأخرى رخيصة ..
ضحكت الفتاة ....
ـ أنت مفتري كبير .. بالتأكيد لا يوجد بساط طائر ..
ـ نعم هناك، ولكن بالقدر الذي يستطيع الشاب أن يأخذ حبيبته إلى الخيال
ـ من حسن الحظ أنها ليلة واحدة معك أيها العربي الطويل، وإلا فأنت ستدفعني للجنون حتماً ..
ثم عادا إلى حجرتها في الفندق، في جولة أخرى من الغرام المحموم، ولكنه كان هذه المرة يتفاعل مع هذه الإنسانه الرائعة، التي قدرت العذاب الإنساني، وعندما غادر الفندق قبل خيوط الفجر ... ودعها بقبلة طويلة...
قال لها أنه سوف لن ينسى أنها حققت له أحلامه وخيالاته، وأنه أخذها في سفرة دار في العالم
ـ على متن بساط طائر ... دعنا نصدق الأسطورة ..!
ـ هل ستنسين هذه الأمسية ..
ـ أبداً، بالمناسبة ما اسمك ..؟
ـ أنا أدعى سليم
ـ وأنا هايدي .. ولو لا فائدة من تبادل الأسماء، لكني أريد أن أقول لك ... كانت أمسية هائلة أريد أن أشكرك ..
ـ أنا من يشكرك .. ثقي أني لن أنساها أيضاً رغم ازدحام الذاكرة بكل شيئ ..
ولكنه الآن تحت سطوة شيئ آخر ... عيون ميدوزا هذه شيء آخر .. أنها تجربة لم يمر بها قط .. أنه يشعر أنه تحت سحر أسود .. تذكر أن النساء أو الرجال يصنعن الأحجبة والسحر، من أجل أسر عواطف الرجل، فتقول الساحرة لطالبة السحر أو الحجاب :
ـ والله سأدعه يسير ورائك كالكلب إلى آخر يوم في عمره ..
فتفرح تلك السيدة أو الفتاة، فتغدق لها العطايا بناء على هذه الوصفة الجبارة، التي تضمن أن يسير ورائها الرجل الذي تريد إلى الأبد .. وقد يكون الحجاب خصية ثور أو ذنب كلب، أو عظم هدهد وما شابه من الخرافات ... ما علينا ... هناك دائماً من يصدق، وهناك دائماً صرعى الغرام والسحر الأسود ...!
ولكن ما لعمل مع عيون ميدوزا هذه التي أمامه، هي ليست خرافة، بل أسطورة.. الأسطورة تتحقق.. وها هو البساط الطائر .. وأدرك سليم أنه سقط في بئر بل هو يسمع أصداء ضحكات مجنونة .. ضحكات من هذه وتلك ... اختلطت عليه الأمور ..
تطلع إلى ميدوزا ... كانت تنظر إليه ببراءة ... لم تكن تعرف مالذي تفعله فيه ..!
ـ كلوديا ...
ـ نعم .. ساليم ..
ـ لا اسمي سليم بدون تمديد
ـ سليم ..
ـ نعم هكذا .. أسمعي .. لقد تأخر الوقت، ولكن غداً عطلة، بمناسبة عيد الفصح(أيستر)، لذلك سوف لن يكون لك عمل، سأمر وآخذك لنذهب في نزهة بالسيارة.. ما رأيك ..
ـ أنا في حالة بقائي في برلين فأني أبيت الليلة عند صديقتي ألين، تلك أنظر إليها.. تلك التي تضحك كثيراً ..أنها لا تعرف الحزن ...
ـ وأنت هل على وفاق مع الحزن ..
ـ أوه لا أدري .. يعتمد على ... (لم يشأ أن يستطرد معها في ملحمة الأحزان)
ـ سآخذك إذن للبيت ..
ـ جيد، فسوف وهذا يعني أننا لا نحتاج لسيارة أجرة ....
عندما أوصلهن للبيت، ترجلن من السيارة، بقيت هي.. نظرت إليه .. كان ينتقي عباراته
ـ كلوديا .. أظن أن لقاءنا سوف لن يكون عابراً ..
ـ نعم .. أنا أرى ذلك أيضاً ...
قبلها قبلة الوداع للمجاملة، ضغط على شفتيها، أدرك أنها لا تمانع بالمزيد، فغطسا في حمأة من العناق والقبل، كان إيذاناً وإعلاناً عن ولادة شيء كبير..
ـ ستأتي غداً صباحاً .. أليس كذلك ..
ـ بالتأكيد .. كلوديا ..
ـ نعم سليم ..(لفضتها هذه المرة بدقة وابتسمت)
يا إلهي .. لماذا لا أعرف .. سر هذه الفتاة .. لماذا لا تعينني كل الكتب التي قرأتها ..؟ فتذكر مأساة المثقف عند بطل رواية نيكوس كازانتزاكي الذي لا تعينه ثقافته على الإجابة على كل الأسئلة عندما تنقصه خبرة التجربة
في اليوم التالي، كان يأخذها بسيارته، وربيع برلين ساحر .. خلاب .. يدعوك لأن تلقي بنفسك في أحضان الطبيعة والحب... لا تفكر كثيراً بالمنطق، واللحظة المادية والعقلية ... أرح نفسك منها، وغامر .. فالريح غربية ...!
هي بسيطة .. وغير مثقفة نهائياً، بل ربما لم تقرأ طيلة حياتها(عمرها 25 سنة) خمسة كتب، نشأت رياضية، ومنحت جل حياتها للرياضة ...
ـ ألا تعرفني .. ألم تشاهدني في مكان ما ... ربما في الصحف أو التلفزيون ؟
ـ لا .. للأسف ... بمناسبة ماذا ..؟
ـ الآن لا توجد مناسبة، ولكني كنت فيما مضى بطلة ألمانيا لثلاثة سنوات في تنس المضرب، وثلاثة سنوات البطلة الثانية، لعبت ستة مرات في الدور النهائي، كنت مشهورة .. ولكني اعتزلت اللعب منذ عام واحد ..
ـ ولماذا اعتزلت ..؟
ـ أذكر كان المدرب قد تحدث مرة، أن هذه اللعبة يتعلمها المرء مبكراً ليعتزلها مبكراً، لقد بدأت اللعب وعمري لا يتجاوز العاشرة. وأصبحت بطلة ألمانيا في السابعة عشر واعتزلت في الرابعة والعشرين .. كان ضغط العمل المتعب، كموظفة في شركة اتصالات، لا يدع وقتاً للتدريب، كان لا بد أن أعتزل..
وهنا أدرك سر جمال قوامها الملفت للنظر
ـ وأنت ماذا تفعل في ألمانيا .. لغتك الألمانية جيدة ..
ـ أنا طالب اقتصاد سياسي .. في الدراسات العليا ..
كان يسبر غورها .. بلا عناء، فقد كانت ككتاب مفتوح الصفحات بلغة سهلة تقرأه بيسر، لم تكن هناك أية إمكانية أن تدور أحاديث عن الثقافة، فهي بالكاد كانت تعرف أسماء أثنين أو ثلاثة من شخصيات الحكم في بلادها.. ولا علاقة لها بالسياسة مطلقاً ..
كان يقود سيارته، ويسترق النظر إليها ليلحظ هدوءها.. كانت تجلس إلى جانبه بسهولة .. والألمان هكذا.. أنهم يمتلكون مصائرهم ولا يمكن لأحد أن يتدخل وينصح .. أفعل كذا ولا تفعل ذاك .. تجلس بهدوء لأن لا أحد سيقول لها ما تفعلينه عيب، لا أخ ولا قريب، كل يمتلك نفسه ويواجه الحياة كفرد .. كشخص له كيانه الخاص ..
عندما دعاها لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في شاليه لصديق له، على ساحل بحر البلطيق، وفي ألمانيا يسمونه البحر الشرقي ...
ـ ولكن الوقت مبكر على السباحة في البحر .. أليس كذلك ..
ـ آه ربما .. ولكن إذا كان حظنا جيداً مع الطقس .. فسنقضي عطلة جميلة السير في الغابات، والشواء في الهواء الطلق أمام الشاليه، ونسمع الموسيقى، حيث لا ضجيج إلا صوت قرع الأمواج على أبواب الشاطئ .. ونشاهد النوارس تمارس طيرانها السحري ...
ـ أوه جميل .. تستطيع أن تقدم إغراءات جيدة ..
أعادها إلى بيتها في القرية، هي تسكن مع عائلتها، والدها يعمل مدير ورشة لتصليح السيارات، ووالدتها ربة بيت تنحدر من أسرة بورجوازية من شمال ألمانيا الإقطاعي تقليدياً.. حيث أمراء الأرض اليونكرز (سابقاً) كانوا يمتلكون المقاطعات، ويشيدون القلاع الضخمة، والاشتراكية لم تبق شيئاً من ذاك، وحتى في الجانب الرأسمالي في أمتداد ولايه مكلنبورغ إلى ألمانيا الغربية تغير الوضع في الريف، فلم يعد هناك أمراء اقطاع كما كان الأمر قبل مئتين من السنين، ذلك هو الشمال الألماني الذي يمتد من هامبورغ وكيل حتى بروسيا الشرقية التي فقدها الألمان نتيجة الحرب العالمية الأولى والثانية، لديها شقيقة واحدة، كانت قد هربت مع صديق لها إلى ألمانيا الغربية، وهي تعيش هناك الآن ..
أما بيت ذويها، المشيد على قطعة أرض قد تبلغ ألف متر مربع، يضم حوض سباحة صغير وكراج للسيارة، والبيت من طابقين، ينم عن لمسات والدتها الأنيقة دوماً، الباسمة دوماً، وهي الوحيدة في البيت تمارس القراءة بكثرة، فيما لا يقرب زوجها الكتب، وإن حدث وأن شاهد التلفاز، فإنه سيشاهد برامج الرياضة، أما الأم فقد كانت مثقفة، أو هكذا يمكن القول عنها، ولديها شقيق يعيش في القرية كطبيب في المستشفى، وأخ آخر يعمل كإعلامي كبير ومشهور جداً في غرب ألمانيا .
والحقيقة فإن انقسام العائلات ما بين الشرق والغرب، وما نجم من سياسيات كإفرازات للحرب الباردة، أثر بشكل كبير على حياة الناس، فتحملوا وزر وآثار تلك المرحلة، ربما بصورة مؤلمة، هم لم يشتركوا في رسم تفاصيلها، ولكنهم قاسوا نتائجها.
الفتاة الألمانية، لا تقدم صديقها منذ الأيام الأولى لذويها، كما لا تطارحه الغرام منذ اللقاء الأول أو الثاني، وكانا قد اتفقا على قضاء عطلة نهاية الأسبوع القادم معاً .. وسائر التفاصيل ستطرح نفسها دون استئذان أو تخطي
1690 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع