أ.د. محمد الدعمي
بينما بلغ الاعتزاز بالروح القومية الكردية أوجه، متجسدًا بالنزوع السياسي الانفصالي والاستقلالي، خلال مرحلة ما بعد نظام البعث في العراق، وبمساعدة معطيات التدخل الأجنبي، إلا أنه سرعان ما هبط وتقزم في تركيا (كما أرى) نظرًا لسطوة حزب العمال الكردي (PKK) اليساري الذي يشيع ويلتزم الصراع الطبقي بضمن حملة وطنية عامة مضادة “للإمبريالية”.
يلقي التشطير الذي يعاني منه “أكبر شعب بلا دولة في العالم” الضوء على ثلاث ظواهر تستحق الرصد برزت في تاريخ الكرد الحديث أو المعاصر، وهي: (1) صعوبة تشكيل قيادة سياسية كردية موحدة لجميع كرد العالم برغم اشتراكهم جميعًا في حلم قومي واحد، نظرًا لتنوع مشاربهم الآيديولوجية ومناهجهم السياسية، و(2) اعتزاز وافتخار الكرد عامة بالروح القومية الكردية التي ترتكن إلى هوية ثقافية كردية مستقلة واضحة المعالم، و(3) توافق جميع القيادات الكردية القائمة في مختلف الدول أعلاه على العمل لتحقيق ذلك الحلم القومي المتمثل في فصل الأقاليم الكردية من الدول المضمومة إليها اليوم، على أعتاب بناء دولة قومية كردية واحدة لجميع كرد العالم.
بينما بلغ الاعتزاز بالروح القومية الكردية أوجه، متجسدًا بالنزوع السياسي الانفصالي والاستقلالي، خلال مرحلة ما بعد نظام البعث في العراق، وبمساعدة معطيات التدخل الأجنبي، إلا أنه سرعان ما هبط وتقزم في تركيا (كما أرى) نظرًا لسطوة حزب العمال الكردي (PKK) اليساري الذي يشيع ويلتزم الصراع الطبقي بضمن حملة وطنية عامة مضادة “للإمبريالية”،(3) حسب بلاغياتهم الثورية عبر الأناضول، على حساب الحلم القومي. أما في إيران، فيبدو أن النضال القومي الكردي قد دمج ذاته ومزجها بالدافع الديني الإسلامي في حزمة واحدة تحت مظلة قومية كردية عامة. ومع هذا كله، لا ينبغي للمرء وهو يتابع التنوعات أعلاه بين قيادات الكتل السكانية الكردية الكبرى، أن يقلل من شأن آصرة الهدف النهائي الواحد الذي يتفق عليه جميع الكرد، أي هدف تحرير الشعب الكردي من “الاحتلالات الاستعمارية” العراقية والتركية والإيرانية والسورية، كما يحلو لبعض شبانهم القوميين المتحمسين للدولة الكردية المستقبلية أن يصفوا وضعهم القائم الآن، عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، ممزقين بين الدول أعلاه.
ولكن لسوء طالع هؤلاء الشبان الكرد المتحمسين، الذين ينوءون تحت أعباء السخط والاحتجاج وما يتسببان به لهم من إشكالات سياسية وأمنية تؤثر على أوضاع شعبهم المبعثر، تتجلى حقيقة مفادها أن أصل مأساة تقطيع أوصال شعبهم الآري بعد مرحلة سقوط الدولة العثمانية إنما يلام على الإمبراطوريات “الآرية” المهيمنة حقبة ذاك، خاصة بريطانيا وفرنسا، وهي حقيقة غالبًا ما أغمض هؤلاء القوميون الكرد أعينهم عنها، للأسف.
بعد سقوط الدولة العثمانية، قرر المنتصرون في تلك المرحلة التاريخية التشكيلية، الاندفاع نحو الإقليم الشاسع والمتنوع الإثنيات والأديان الممتد بين سواحل البحر المتوسط غربًا، وبين إيران شرقًا، لتقسيم وملء “خواء القوة” الذي تركته سلطات تركيا العثمانية المهزومة في ضوء مصالح الإمبراطوريات المنتصرة، خاصة البريطانية والفرنسية. لقد باشرت كل من لندن وباريس بتقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية إثر هزيمتها في الحرب، لتقسيمها فيما بينهما باعتبارها غنائم حرب، من نصيب المنتصرين، بصرف النظر عن حقوق وتطلعات الجماعات الإثنية والدينية، المنتشرة عبر هذا الإقليم المترامي، ومنهم الكرد. لذا، أسهمت ترتيبات تلك الحقبة التشكيلية التي أفرزتها اتفاقية “سايكس/بيكو” (6-1915) Sykes-Picot، ومؤتمر سان ريمو San Remo (1920)، وبروتكول سيفرز Protocol of Severs (1920)، من بين سواها من الترتيبات المصيرية جميعًا في تجاوز آمال وتطلعات الكرد ومن ثم تعقيد مشكلتهم التي استعصت وغدت، مع مرور الزمن، بدرجة من الشائكية والصعوبة، أنها اكتسبت ذلك العنوان المشحون بالمعنى المزمن، أي “المسألة الكردية” The Kurdish Question، فيما بعد من العقود.
1090 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع