كلمات لها قدرة المرايارواية ضرغام الدباغ
برلين 2010
الجزء الثاني والثالث
2
كلوديا لم تكن تشبه الفتيات الألمانيات اللاتي تعرف عليهن سليم في حياته التي امتدت لحوالي عشرة سنوات في ألمانيا. ولم يكن سليم يصنف من الطلاب الساعين وراء التعرف على الفتيات، ولكن وبحكم وجوده في الجامعة والمجتمع، يتعرف يومياً على الكثير من الفتيات والسيدات والشبان والرجال أيضاً، فالمجتمع الألماني قلما يفرق بين الرجل والمرأة، وبوسع إي إنسان أن يحادث الفتاة بصدد أي موضوع، فالأمر طبيعي جداً.
بسبب الاهتمامات الدراسية، والثقافية عامة، كن السيدات أو الفتيات التي تعرف عليهن من الوسط الذي يثيره ثقافياً فيجد فيه وسطاً مشتركاً، ولكن بالطبع حدث أن تعرف على فتيات ولم تعمر العلاقة طويلاً، بسبب أن ليست هناك حقول مشتركة، ولكن دون أن يعني ذلك أن جميع السيدات التي تعرف عليهن من الوسط الجامعي العالي، بل حدث مرة أن تعرف على عارضة أزياء، كانت ذات جمال مذهل، ولكنها كانت قد بلغت الثالثة والثلاثين، وهو عمر تقول العارضة للمهنة وداعاً، فكانت تعاني من توتر داخلي عنيف، تريد أن تعيش السنوات التي عاشتها كعارضة أزياء، وكان يصادف أن يشاهدا لوحات (بوسترات) ما تزل بعد تعرض فيها الأزياء، فينقلب اليوم إلى مأساة، وجدا طريقة ليفترقا، وكانت تلك في السنوات الأولى من حياته في ألمانيا ولكنهما بقيا أصدقاء حتى الأخير.
كلوديا لم تكن مثقفة، بل هي لا علاقة لها بالثقافة لا من قريب ولا من بعيد، ولكن ... كانت الوحيدة التي أحبها سليم بكل جوارحه .. وما زال يبحث هو عن أسباب تولهه بها ... كان يحلو لسليم أن يكتشف في الفتيات ميولهن الفنية تجاه المسرح، أو الفنون التشكيلية، أو الموسيقية الكلاسيكية، ثم لتدور مناقشات حول الأعمال التي تثري ثقافة الإنسان.
كلوديا، لم تكن تفقه شيئاً خارج التنس، والكومبيوتر الذي كان تخصصها الدقيق هو تخزين المعلومات والمعطيات في حقل الحسابات، وهو مجال لا يمنح العاملين فيه شيئ من الثقافة، لذلك لا بد من الاعتراف أنه كان هناك شيء من الملل المحبوب، والغباء المستحب..
انطلقا بسيارته من القرية صوب الشالية على بحر الشمال
أبدت له ملاحظة تدل على سذاجة، أو بساطة في التفكير، إذ قالت له أنها مندهشة لإجادته قيادة السيارة ..!
وسليم لم يكن معقداً ..لتزعجه مثل هذه الملاحظات
ـ وهل تعتقدين أن أي عربي لا بد أن يكون لديه جمال ..
ـ لا أعرف ولكن هكذا يقال ..
فيستغرق في الضحك وسط دهشتها
ـ لماذا تضحك .. أتضحك على قولي ..
ـ لا ولكن .. أتدرين أني شاهدت الجمل لأول مرة وأنا ربما في العشرين من العمر ..
ـ صحيح (بدهشة) ولكن يقال أن الجمال تسير في الشوارع بدلاً عن السيارات ..!
ماذا الذي جميل لدى كلوديا ..؟
كانت كلوديا تمتلك قواماً مدهشاً، بل هو رائع حتى في المقاييس الأوربية، لم تكن بالغة الأناقة، كانت تمتلك سيارة لطيفة، تضع دائماً مضرب التنس في المساحة قرب الزجاج الخلفي، كأنها قد تعودت على مرآه ولا تستطيع أن تبعده
لم تكن ذواقة في الموسيقى الكلاسيك، لذلك أراد أن يسمعها أغاني عربية، سمعت أغنية أسمهان، ليالي الأنس في فيينا، فدهشت لجمال الموسيقى، ودهشت أكثر عندما أخبرها سليم أن زمن تأليف هذه الأغنية هو أول الأربعينات.
كانت تدهش لأبسط الأشياء فصورة الشرق لديها، كما لدى الكثير من الأوربيين مشوهة، بل و مشوهة للغاية أحياناً..
وصلا الشاليه عصراً، وما زال هناك من الوقت ما يكفي للتنزه، والاستماع إلى صوت الأمواج تصفع الساحل، ومراقبة سفن في الأفق وهي تختفي مع قرص الشمس، والنوارس البيض تمارس لعبتها المفضلة، تركب التيارات الهوائية وتستمر بالتحليق دون عناء إلى أعالي الفضاء، ثم تبدأ بهبوط دائري، دون أن تحرك جناحاها حتى تكاد تلامس سطح البحر، كان سليم يحب النوارس ومشاهدتها تمارس لعبة الحرية، تمنح نفسها كلية للريح، صعوداً وهبوطاً ...
أيها النورس الحر الرائع، أنت فارس السماء الرحبة، حارساً للشطآن .... ما أجملك ..
ـ أتدرين أن للنورس أسم عربي ..؟
ـ صحيح .. وما هو ..
ـ الباتروس، إلى جانب أسمه الألماني Mowe موفه
ـ لم أكن أعرف ذلك
ـ بل هناك 550 كلمة عربية في اللغة الألمانية ..
ـ مستحيل ..! هذا مدهش حقاً
ومساء جلسا في شرفة الشاليه، البحر أمامهما، بوسعهما مشاهدة السفن تضيئ من بعيد والحركة البحرية نشطة في هذا المكان، حيث يتنقل المسافرين والبضائع بين ألمانيا وسائر الدول الأسكندنافية: الدانمرك والسويد والنرويج وفنلندة، هناك نسمة بحرية تتسلل بين الثياب، والموقف برمته يشعرك بقوة الحياة ... المذياع يرسل أنغاماً لموسيقى أغاني شهيرة ..
كان سليم أكبر منها بعشرة سنوات، أي أنه كان في الستينات فتى يتذكر سفراته إلى أوربا، حيث كانت تلك الأغاني الشهيرة، لأنجلبرت هامبردنك وشارل أزنافور وتوم جونز، وبالطبع دائماً ألفيس بريسلي ..
طفق يحدثها عن بعض تلك ذكرياته، وكلوديا، لم يكن لديها أن تحدثه سوى مبارياتها الرائعة بالتنس، مرات فوزها، وعن متابعتها التفصيلية لمباريات التنس في التلفاز، وفي تلك الأعوام، كان السويدي بيون بورغ تملأ أخباره الصحف ووسائل الإعلام ..
ـ هل تعرف بورغ ..؟
ـ طبعاً ... وهل تعتقدين أن هناك ثمة من لا يعرفه ..
ـ ربما، هناك أناس لا يتابعون أخبار الرياضة..
كان قد قاد مسافة أكثر من مئتي كيلومتر، لذلك لاحظ أن النعاس يغشى عيونها .. فأقترح عليها أن يأويان إلى النوم ..
كان السرير مزدوجاً واسعاً، أطفأ النور، وكان قد أعتاد على النوم عارياً، ففعل ذلك في ظلمة الغرفة وقبل أن تعتاد العين على الظلام، وأندس في السرير ..
أدرك، أنها تشعر بذات المشاعر، وأن النعاس قد غادرها .. كان مفتوناً بها.. دون سبب واضح .. وما كان يريد أن يقدم على خطوة في الاتجاه الخطأ.. فأنتظر..
ـ سليم ..هل أنت نائم ..؟
ـ كلا كلوديا ..
ـ هل يسيئك إن قلت لك أني متعبة ..؟
ـ كلا بالطبع .. فأنت حقاً متعبة ..
ـ ولكني أخشى أن أسبب لك خيبة أمل ...!
ـ كلا على الإطلاق ..
ـ دعني أنام قليلاً على ذراعك
أدرك أنما هي تقوم بذلك مجاملة له، ومع ذلك لم يشأ أن تتغلب عليه توتراته، فمد ذراعه ووضعت رأسها، والأمر أدى لأن تلتصق به قليلاً، أدرك أنها ترقد بأقل قدر من ثيابها، ولكنه تمكن من الحفاظ على توازنه ..
عندما شعرت أن رأسها صار في متناول شفتيه، رفعت رأسها إليه، فقبلها قبلة بريئة، لا تعبر عن دعوة للمزيد .. فبادلته بالمثل ..
ـ سوف لن تستطيع أن تنام ..!
ـ ولماذا ..؟
ـ لا أدري ولكن الموقف ...
ـ (قاطعها) لا .. لا يحمل على أي شيء .. وإياك أن تعتقدي أني جلبتك إلى هنا لكي أنفرد بك وأنام معك ..
ـ لا أنا أدرك أنك إنسان محترم .. لست من هؤلاء الذين ..
ـ الذين ماذا ..
ـ الذين لا يمكن للمرء الوثوق بهم ..
ـ إذن .. يا كلوديا العزيزة تصبحي على خير ..
ـ إنك حقاً رجل رائع .. تصبح على خير ..
فتبادلا القبلات مرة أخرى، وأدارت ظهرها لها، وأبقت رأسها على ذراعه، ولكنها كانت قد اقتربت منه لدرجة أنه لامس بكل جسده عريها .. .. شعر بجسدها يختلج .. وسمع صوت تنفسها .. كان من المستحيل أن يستطيع النوم هكذا ..
فجأة استدارت له، ودون كلمة واحدة، طوقته بذراعيها، ووضعت شفتيها على شفته، في قبلة عميقة تحمل رسالة من كلمة واحدة: أنا لك ..
ولم يكن سليم ممن يقبل أن يأخذ فتاته بطريقة تنطوي على سوء فهم وألتباس..
قبلها .. ولكنه حدق في وجهها، وقال لها
ـ اشعر ببعض التعب والنعاس ..
ـ لا تفهمني خطأ رجاء .. لقد جئت معك إلى هنا وأنا أعرف أني سأتحد معك قلباً وجسداً .. عليك أن تعتاد على بعض حماقاتي ..
عندما غابا في موجة من العناق، كانت قد انتضت مما تبقى من القليل من ثيابها الداخلية .. وأدرك بأن محاولتها كأنثى أن تبدي الممانعة لم تكن دقيقة..
عندما ألتحم معها جسدياً، أستطاع أن يتطلع إلى وجهها، كانت تلك لذة اكتشاف لم تفارقه أن يشاهد وجوه النساء وهن في حمأة أنواء الغرام .. كانت تجتاز نفقاً من نار ونور .. قبلها .. نظرت إليه .. رجل يمتلكها في هذه اللحظة .. كان بخبرته يعرف أي مشاعر تجتاحها في هذه اللحظة .. هل هي معه أم غائبة في واد آخر .. كانت معه بكل كيانها، بل كانت وكأنها لا تريد شيئاً سواه .. متقاربين في المشاعر لدرجة عجيبة، وإن كان هو أكثر وعياً وإدراكاً لتلك اللحظة وعذوبتها ...
نطقت أسمه بكل ما تبقى لديها من قوة ... فجاء همساً .. صادراً من القلب .. لم يعد يسيطر على تسلسل أفكاره .. وهو الذي كان يعتقد أن يحتفظ بصحوته حتى اللحظة الأخيرة ..فإذا بها تسحبه إلى نفق النار والنور .. عانقته بقوة، ثم همست في أذنه .. سليم .. أنت .. أنت ..
لم تكن تقوى على نطق الجمل كاملة .. كان صوتها وكأنه يخرج من بئر عميق ..
كان سليم قد تعرف في مطلع العشرينات من عمره على جانيت .. سيدة تكبره بما لا يقل عن خمسة عشر عاماً، كانت تستطيع استقباله في بيتها ببغداد، وحتى قضاء بعض الليالي، تخوض ألعابها بدراية ورشاقة، تدخله في أتون أحضانها، كانت تقول له :
ـ أنت مدهش سليم، لا شيئ يفقدك وعيك وهيمنتك على المباراة حتى اللحظة الأخيرة
وقد أستمر على علاقته بها لما يزيد على السنتين، كان ذلك قبل أكثر من سبعة عشر سنة، وكان يعتقد حتى لأعوام خلت أنها كانت عجوز بالنسبة له، ولكنه بعد أن تجاوز الستين صار يعلم أن جانيت كانت في قمة ربيعها .. وذروة موسم الحرائق ... ولكن ما أكثر الأشياء التي ندركها فيما بعد .. وربما نندم لأننا لم نتصرف حيالها كما ينبغي
كلوديا كانت في الخامسة والعشرين .. ولكنها كانت مخلوقة من طراز خاص .. وكأن مئة من الملائكة قد اجتمعوا ليلتقيا في أسطورة غرام، هو أشبه بالسحر الأسود الذي لا فكاك منه، كانت تحمل براءة غير معقولة بالنسبة لفتاة ألمانية تعيش في قلب مركز حضاري عالمي من طراز رفيع، بل حتى ليمكن القول أنها كانت تحمل تصورات سياسية وثقافية بسيطة، وكانت لعبة التنس قد دخلت حياتها منذ طفولتها، وحجبت عنها سائر الأضواء الساطعة، خلا اهتمامات موسيقية، هي لدى الألمان من بديهيات الحياة.
ضحكا كثيراً من أسطورة التعب، ثم عادا إلى لعبة الحب ... ولم يناما إلا قبل الفجر بقليل.
عندما عادا من الساحل، كانت تجلس إلى جانبه في السيارة وديعة، حصان جامح قد روض واستكان لقائده، في هذه اللحظة تأمل سليم: إن المرأة تبقى حتى تمارس الجنس مع الرجل كياناً متشيئاً، ربما ينطوي على بعض الغرور، وربما بتصنع مفضوح، وهناك فاصلة ربما ليست بسيطة بينها وبين الرجل أمامها، بل وقد تتحدث بكبرياء قد يكون مبالغاً فيه بعض الأحيان، ولكن العلاقة والرؤية تتغير بصفة شبه جذرية بعد أن يزال آخر جدار في العلاقة بينهما، وهو أمر يستحق التأمل ..
نظر إليها سليم، ها قد اصبحت أنثاه، وقد أمتلكها، ودخلت في حوزته وسوف لن تخرج أبداً .. شيئ ما يهتف في نفسه، إن هذه الفتاة ستمكث في حياتك طويلاً ...
لكن ترى ما لذي يجعله يرتعش عندما ينظر إلى شفتيها المزمومتين، كانت جميلة ولكنها لم تكن ساحرة الجمال لدرجة الذهول، لم تكن من طراز السيدات المثقفات اللاتي يبهرن بثقافتهن ويحملن الرجل، أو سليم على أقل تقدير أن يمنح المرأة أهتماماً خاصاً.
لماذا إذن ..؟
هي لمست فيه شغفه بالفن والأدب، بالإضافة إلى مادة تخصصه الدراسي، السياسة والاقتصاد، ولكنها لم تكن معقدة من قلة مصادرها في هذا المجال، هناك من النسوة من تشعر أنها في موقع متأخر قليلاً أو كثيراً بالنسبة للرجل، فتندلع حرب صامتة، تحاول فيها أن تردم الهوة عبثاً، تارة عبر الأدعاءات الجوفاء، تارة في محاولات لصرف الأنظار إلى أشياء أخرى، وكان الأمر يتحول في بعض الأحيان إلى عذاب مستطير، ليس من داع له.
ـ كلوديا ..
ـ نعم .. سليم
قالتها وكانت تنظر في تلك اللحظة إلى طاحونة هواء رائعة مشرفة على الطريق أتخذ منها أصحابها مسكناً بعد تحويرات بسيطة لا تسيئ إلى الشكل الأصلي ...
عندما رفعت راسها واستدارت ثلث أستارة بما يشكل بروفيل لوجهها .. ابتسمت، أدرك مرة أخرى عمق البئر الذي سقط فيه .. لم يكن يدرك ما سر هذه النظرة الخلابة الآسرة ..
ـ نعم سليم ..
كان سليم غائباً بشكل شبه كلي في الأساطير الإغريقية، إذ كان يحلق كإيكاروس في أجواء بحر إيجة عندما شغلته فتنة حسناء فضاع رشده وذاب الشمع الذي يلصق أجنحته، فسقط في اليم قتيل الجمال والفتنة .. في صورة ألهبت خيال العديد من الرسامين الكلاسيك
ـ كلوديا ..
ـ نعم سليم ..
ـ أردت أن أسألك ... هل سمعت يوماً بإيكاروس ..؟
ـ طبعاً .. أنها ماركة الباصات الهنغارية الصنع ..
فلم يستطع سليم أن يمنع نفسه من الضحك .. (هناك حقاً ماركة باصات هنغارية بهذا الأسم تعمل بخطوط منتظمة في برلين)
ـ ماذا بك .. لماذا تضحك .. أليس صحيحاً
ـ بلى، ولكني أتحدث عن إيكاروس الأسطورة الإغريقية..
ـ كلا لا أعلم عنها شيئاً ..
ـ هذا أفضل..
ـ (مقاطعة) ولكن هل كان إيكاروس في بغداد ..؟
ـ لا كلوديا، إيكاروس كان إغريقياً وأنتهي غريقاً في بحر إيجة ..
ـ لماذا ألم يكن يعرف السباحة ..؟
ـ لا أعلم ولكنه سقط من علو لأنه أنشغل بالتطلع إلى الفاتنات ..
ـ وهل تدرسون في المدارس في بغداد هذه الأشياء .. الغريبة
ـ شيئ منها نعم، ولكن من يخوض التجارب يتعلم ..
ـ ولكن مالفائدة إذا تعلم ولم يكن يعرف السباحة .. فقد يغرق المرء، هل تستطيع السباحة ..؟
ـ نعم، ولكن حوادث الغرق تقع رغم ذلك ..؟
ـ وهل تعرضت مرة لحادثة غرق ..؟
ـ أنا غريق الآن .. ألا تلاحظين... نعم أنا غريق ألا ترين ..؟
ـ (تضحك .. لتزيد من غرق سليم) ماذا أرى .. أرى أنك تقود سيارتك برشاقة ..
يا إلهي هي لا تدرك بأنها تغرقني الآن ... أني أغرق .. أغرق
كلوديا كانت تسكن مع عائلتها في مسكن ريفي خارج المدينة، وهي شبه مستقلة في حياتها، رغم أن طباع سكان خارج المدن على شيء من الملامح الشرقية، من الكرم، والصلات العائلية المتينة نوعاً ما .. قد لا تشابه العلاقات العائلية العربية، فالمجتمع الألماني أنتقل إلى الصناعة منذ حوالي القرنين، وتسري عليه ما يتبع ذلك من تحول شبه جذري في نظام العلاقات الاجتماعية، ومنها الأسرية بالطبع، ففي عام 1911 كانت آخر قرية ألمانية قد دخلها الكهرباء والنور، والقرية التي تسكنها كلوديا مع عائلتها، تحتوي على ثلاث مؤسسات صناعية عملاقة، الأولى مصنع للحديد والفولاذ، والآخر لصناعة القطارات، ثم مصنع كبير للطاقة الكهربائية، وهي قرية فقط من حيث العدد المحدود للسكان، وإلا فأن القرية تضم كافة مستلزمات المدينة العصرية.
بعد أسبوع تعرف سليم على والد كلوديا، وهو رجل أقرب في طباعه إلى من نشأ في صفوف العمال، كان قد أدى الخدمة العسكرية في الجيش الهتلري ولكنه لا يشاء أن يتحدث عن تلك التجربة شأنه في ذلك شأن معظم الألمان .. هي تجربة مؤلمة دفعت تكاليفها وقضي الأمر بما لا يفيد معه الحديث عنها .. صمت ينبغي أن يحترم
كان والدها رجلاً ذو أريحية، وكرم وحب للضيف، يعمل كمدير ورشة لتصليح السيارات، تضم أكثر من 20 عاملاً، وكان يتقاضى راتباً كبيراً في مقاييس تلك الأوقات، وكان يقيم مساء كل يوم جلسة الشراب، وغالباً ما يستقبل ضيوفه في صالون بيته الفسيح المطل على حديقة مترامية الأرجاء وحوض سباحة صغير وبالقرب منه منصة لشوي اللحوم، والأم كانت على قدر من الثقافة، والحس الفني يتجلى في سماعها للموسيقى، ومتابعة حركة الفنون التشكيلية، بقدر ما تستطيع سيدة تبلغ من العمر حوالي الستين إيلائه من اهتمام، وسرعان ما عقدت علاقة طيبة مع سليم قوامها المتابعات المشتركة للفنون، وكانت تغمر من قناة كلوديا، بأنها طالعة لأبيها، الذي كان رغم بلوغه الستين يمارس كرة القدم في الصالات المغلقة كأحد أعضاء فريق القرية.
كانت غرفة كلوديا تقع بمواجهة نهاية السلم الذي يفضي إلى مساحة بسيطة يؤدي إلى غرفتها وغرفة نوم والديها، وإلى غرفة حمام فسيحة بعض الشيء، فيما يتألف الطابق السفلي من البيت، على ملاحق للاستقبال تتألف من صالونين وغرفة طعام، ومطبخ فسيح وحمام للضيوف.
تحولت غرفة كلوديا بمرور الوقت إلى جنة صغيرة، مجهزة بالمعدات الصوتية الممتازة، وبمكتبة صار سليم يجلب الكتب لها دون أن يشعرها أنه يتبع خطة معينة، وكان أن أختار لها كبداية أجمل الروايات، وبالضبط كانت الرواية الأولى: الوضع البشري للكاتب الفرنسي الذائع الصيت أندرية مالرو وكان أن فعلت الرواية فعلها، ودعاها إلى المزيد، فأعطاها رواية مذلون مهانون لدستوفسكي، وهكذا تدريجياً بدأ يجذبها إلى اهتمامات عميقة، ولكن لا بد من الأعتراف أن ذلك كان يدور ببطء..
لكن كلوديا كانت تتحول بسرعة إلى عنصر هام في حياته، بل أنه كان يتبين بأسى، أن حياته لا معنى بدونها..
كان يعز عليه ويؤسفه اكتشاف تلك الحقيقة المروعة ..
3
أيام السعادة تطير كالسحاب، وأيام الشقاء ترقد على القلب كأنها صخرة ثقيلة لا تتزحزح ..
سليم لم يكن نسائياً، أو بالأحرى لم يكن بهلوان علاقات نسائية، بل هو أمضى معظم حياته في مشاريع جدية، ولكنه رغم ذلك ففي سن السادسة والثلاثين يمكن القول أن أي رجل يكون بالطبع قد ذاق طعم التفاح، ولكن أيضاً الحنضل، والحنضل لمن لا يعرف هي فاكهة البوادي جميلة المنظر ولكنها شديدة المرارة، وكان قد خلف ورائه بعض من تلك العلاقات التي يمكن دراستها وكتابة تقرير مدرسي عنها، وبعض أنواع تلك العلاقات تمت بقرار أتخذ بصرف النظر عن صوابه أو خطئه، وبعض أخر وجد سليم نفسه منساقاً دون رغبة جامحة، وربما بعض آخر لقطع الوقت ولأحكام الضرورة ..!
أدرك سليم بعد وقت قصير جداً .. أن ما يعيشه ليست علاقة عابرة بما في ذلك تلك التي صادفها مرة في حياته، تلك التي أعتبرها يوماً علاقة العمر، وأنها خلفت خطاً في جبين العمر .. ولكن تلك العلاقة التي كانت كسمفونية موزارت الناقصة، بلغت مع ذلك ذروتها في النزف العاطفي، والتسامق إلى حد الدهشة ... كانت الحب الأول
حاول سليم أن يستعين بكل ما يعرفه وقرأه عبثاً في أدراك تفاصيل اللوحة أو فهم الأنشودة التي يسمعها في هذه الأوبرا .. دون جدوى ..!
تذكر محنة المثقف في عمل كازانتزاكي عندما لا تعينه ثقافته في إدراك كل أبعاد الواقع الموضوعي، فربما تجدها لدى شيخ بسيط الثقافة، ولكنه ثري التجارب ..
ثم تذكر بمرارة ما كتبه هنري دي مونترلان، وكان يكن احتراما له ولأرائه رغم أنه كان يمينياً، أليس في ذلك دلالة على نزاهة سليم الفكرية ..؟
يقول مونترلان أنه لا يوجد حب بين رجل وإمرأة على مستوى واحد من القوة والإيقاع، فغالباً هناك حب من طرف يقابله الطرف الآخر بهذه الدرجة أو تلك من القبول ..
كانت المسألة شاغلة لفكره، ترى ما وراء هذا التعلق الغير أعتيادي ..؟
كان له صديق في برلين، يحترم آرائه، شيوعي سابق وفرويدي النزعة، وشاعر، قرر أن يشاركه البحث
ـ اسمع سليم، أنت أيضاً فرويدي بدرجة ما، لا يوجد بين الرجل والمرأة من حدث غير الجنس، وعندما ينتفي الجنس فلا تعود العلاقة إنسانية ولا بأي درجة ..
ـ ولكن مؤيد، ما هو السر، إني اشعر بتعلق يكاد يفقدني استقلالي ..
ـ (مقاطعاً) لا أريد أن تروي الوقائع الغرامية، ولا شك من النوع الثقيل .. أسمع، قصة الحب هذه أنا لا أحبذ سماعها، أستطيع أن أحكم أن هناك انسجام قد يكون نادراً بينكما قائم على مفردات جنسية، ثم ربما أنك قد تلحظ أو لا تلحظ أنها تشبه امرأة مرت في حياتك، ليس بالضرورة في قصة غرامية، ربما شاهدتها في فيلم سينمائي، أو قرأتها رواية، أو صادفتها يوماً الله أعلم أين .. توقظ رؤية كامنة في الأعماق ... إن الأمر كامن في قعر الجمجمة، أقصد الذاكرة، ولانتزاعها تحتاج إلى خبير في التنويم المغناطيسي، ولكن لماذا تتعب نفسك ..؟ تمتع يا صديقي بهذا العسل والسلام ..
ـ ولكني أريد أن أفهم ..
ـ يا أخي بلا فهم بلا بطيخ .. الحياة تفهمك.. جيلنا نحن تولعنا بالكتب وبقواعد الفهم ولكنها لم تجنبنا الكوارث الذاتية والموضوعية .. ألا ترى ماذا حل بنا وبأحزابنا العظيمة ..!
ـ (مازحاً) هل برأيك نترك القراءة، لأنها لم تعيننا على فهم مسألة أو أثنين ..
ـ لم أقل ذلك، ولكننا بالغنا في الاعتماد على الكتاب والنص .. نعم بالغنا بالاعتماد على النص ..
ـ مؤيد هذه ليست مسألة جديدة، ليس من الضروري أن يحرك المثقفون التاريخ ..!
ـ نعم هذه قضية غير محسومة منذ عهد أفلاطون وأرسطو, الحكمة أم السيف ..!
ـ نعم أنتصر السيف غالباً .. ألم يبطش ستالين بقادة ثورة أكتوبر الأكثر منه ثقافة، فأعدم بكل بساطة بوخارين ولاحق تروتسكي حتى المكسيك وأغتاله هناك..
ـ وزينوفيف وكامنيف .. هؤلاء كانوا طبقة الغرانيت المثقفة في جبل الشيوعية ..!
ـ ولو لم يمت لينين لقتله أيضاً ..!
وضحكا، وكان مؤيد تروتسكي النزعة، وفي الواقع هو كان وجودياً لا يستقر في مقعد .. كثير الخلاف والنزاع حتى مع نفسه .. وجودياً وإن لم يكن يعترف بذلك ..!
وسليم كان في شبابه وإن لم يصبح تروتسكي النزعة، إلا أنه كان يحب تروتسكي وأعجب بكتاباته وأعماله، ولكنه أقتنع فيما بعد (في مراحل النضج الفكري اللاحقة) أن تروتسكي لم يكن في قلب اللحظة التاريخية ولم يكن ملماً بمفرداتها، لذلك خسر المعركة ضد الدبابة ستالين .. (بالمناسبة هناك فعلاً دبابة أطلق عليها أسم ستالين)
وكان سليم معجباً بدرجة عميقة جداً بالفيلسوف البريطاني كولن ولسن، وقد ألتهم معظم مؤلفاته التي تربو على الأربعين، منها تلك التي يكتب فيها عن قوى التأثير غير المنظورة، والسحر الأسود، والتأثير عن بعد ...
رغم ذلك بقيت الأسئلة دون إجابات، ومع ذلك، قرر سليم أن يبحر دون بوصلة في بحر الظلمات الأسود المتوسط ..
كان يذهب إليها بعد عودتها من العمل، ويبقى عندها حتى العاشرة، فيعود ليغطس في أوراقه وكتبه حتى الخامسة فجراً، وكانا يسهران ليلة نهاية الأسبوع، في أحدى مطاعم المدينة، ثم يمضيان نهار الأحد في الغابات وربما يتناولان طعام الغداء في أحدى مطاعم الصيادين كما يطلق عليها، أو يتصل بها هاتفياً ..
ـ كلوديا ...
ـ نعم سليم ..
يصمت لحظات لا يقوى فيها على الكلام، يا إلهي حتى صوتها له وقعه الخاص
ـ سليم .. رجاء
ـ نعم .. نعم كلوديا أنا معك
لم تكن تدرك بدقة أي تأثير لها عليه، لكنها كانت تدرك أنه يحبها، وربما لا يستطيع التخلي عنها، وكان سليم يجتهد أن لا يجعلها أن تحلق في أجواء الثقة بلا أفق ..
ـ كلوديا ..
ـ نعم سليم ..
ـ هل تعرفين أنني أحبك ..؟
ـ نعم أنا أعرف أنت تحبني
ـ هل تعرفين كم أحبك ..؟
ـ أعرف أنك تحبني كثيراً (تقولها وتنظر إليه ببقايا ريبة, تحاول أن تستطلع من قسمات وجهه)
كان ذلك بمثابة مواساة له، أن لا تعرف كم يحبها، فلربما كانت لتطلب ما طلبته حبيبة فينسينت فان كوخ ...!
شكر سليم الصدف الرائعة ..!
ولكن كلوديا كانت تعلم على أية حال أن سليم لا يفرط بها، سألته يوماً
ـ ما هي الأسباب التي يجعلك تهجرني ..؟
ـ هذا سؤال معقد .. ولكن هل بوسعك أن تعرفي مالذي يغضبني ..
ـ يا إلهي ..أشياء كثيرة تغضبك ..
ـ لا ولكن هناك أشياء تنهي العلاقة، وإن كان ذلك مؤلماً ..
ـ أتقدر على الإتيان بأشياء مؤلمة ..؟
ـ تلك أشياء علينا تقبل ألمها مهما كان مبرحاً .. منها مثلاً إذا أختار أحدنا شريكاً آخر..
ـ أنا لسوف لن أفعل ذلك مطلقاً .. ولكن أنتم الرجال، سيما الشرقيون .. لا تكتفون بإمرأة واحدة
ـ الرجل سواء كان شرقياً أو أوربياً فهو رجل، فزلة القدم، أو مغامرة لليلة واحدة، سميها كما شئت، لا تخرب البيت أو العلاقة، ولكن المرأة إن فعلت ذلك فهي تمسك بالمعول وتهدم ما قد شيد ..
ـ أنتم في الشرق تضعون المرأة في المرتبة الثانية ..
ـ لسنا نحن من وضع المرأة، بل الطبيعة، فالرجل يعمل أكثر من المرأة، ويقاتل دفاعاً للحفاظ عليها، أو هجوماً ليكسبها، ويقال أن الرجل أكثر ذكاء، اقصد لجهة خلايا الدماغ، عدا وظائف جسدية وجنسية كثيرة تجعل من الرجل يقود الحياة والعلاقة العاطفية والجنسية فهو يأذن بدايتها ونهايتها.. فكيف لا يكون في الموقع الأقوى ..
ـ هنا في أوربا المرأة تمتلك نفسها ..
ـ (مقاطعاً) إلى حد ما وليس بصفة مطلقة .. أنتم هنا في أوربا تغير المرأة اسم عائلتها بعد الزواج تبعاً لأسم عائلة زوجها، ودعيني أسألك ماذا يقول الناس هنا في ألمانيا عن سيدة ترتاد البارات باستمرار وتصطحب الرجال... سيقولون عنها على أقل تقدير سيدة خفيفة، فيما يقولون عن الرجل أنه بلاي بوي .. أليس كذلك .. ؟
ـ معك حق ..
لاحظ سليم أن كلوديا امتنعت عن ارتداء الملابس المكشوفة الذراعين .. أو عن تناول الكحول .. وتخلت عن أشياء وصديقات، بدأ سليم يفرض وجوده في حياتها .. دون طلب منه
ـ أنا سعيدة ..
قالت له مرة بفرح طفولي غامر ..
ـ أنا سعيدة لأني لك .. أفعل بي ما تشاء ولكن لا تتركني .. أنا لا أعرف أن أعيش بدونك
لم يشأ أن يقول لها.. شكراً لله على قلة ذكائك، أنا من لا يستطيع العيش بدونك .. سكت ولكن في قلبه كرة من نار أحتاج إلى كل أعصابه ليحافظ على وقاره ..
كان يعتقد أن سره المقدس الذي يجب أن يحافظ عليه، هو أن لا يدعها تعلم أنه يحبها لدرجة الحب السحري الأسود .. ترى هل سحرت له كلوديا ..؟
في ألمانيا يقال إن تجاوزت العلاقة بين رجل وامرأة الستة شهور من المعاشرة، فأنها قد تجاوزت مرحلة الاختبار بنجاح، وإذا تجاوزت السنة، فأن العلاقة قد ترسخت بما يؤهلها لأن تكون مشروعاً ما
كانت العلاقة بين سليم وكلوديا قد اجتازت سنتها الأولى بتعلق متزايد يتعمق يوماً بعد يوم، هي لم تكن مجنونة في عواطفها، وكلوديا لم تكن مثقفة وجودية تعيش كلامنتمية Out Sider وترجمة هذه الكلمة إلى اللغة العربي لامنتمي تبدو لي غير دقيقة، كان من الأفضل القول الخارج على أو الخارجي، أي المتمرد على المجتمع وله نظامه الخاص، أي أنه لا يحترم بالضرورة ما يراه الآخرون محترماً
كلوديا لم تكن من هذا الطراز البته، كانت رياضية فحسب، مارست الرياضة طولاً وعرضاً وذاقت طعم الشهرة والمجد في لعبة فردية (التنس) واعتزلت، كانت مخطوبة لشاب نمساوي اعتقدت أنها تحبه، ثم اكتشفت بالصدفة المطلقة أنه يخدعها، وكان ذلك كافياً لانهيار الخطبة. وبعد ذلك بقليل تعرف عليها سليم .... وابتدأت قصة لا نهاية لها .... البتة ...
ولكن كلوديا بدأت تغرق هي الأخرى ولم ينفعها أنها كانت سباحة من الطراز الرفيع، ثم أنها اعترفت لسليم أنها كانت تمتلك فكرة مشوهة عن الشرق والشرقيين، ولكن ذات يوم وبينما كانت تجلس مع سليم من المرات النادرة في صالون العائلة في الطابق الأسفل مع والدها ووالدتها، كان التلفاز يرسل برنامجاً عن أسبانيا الاندلسية، ويعرض البرنامج صوراً عن حضارة الأندلس على جميع الأصعدة، وإذ بمعد البرنامج يقول: أن العرب علموا الأسبان والأوربيين تأسيس حمامات المرافق الصحية في البيوت، لأن النظافة شيء أساسي في حياة العرب المسلمين، فكان أن تطلعت كلوديا بفخر إلى سليم الذي لم يعلق بحرف واحد فيفسد ربما بتكبره النصر الحضاري الذي سمع الجميع اعترافاً باهراً به قبل لحظات.
بدأت رحلة الغرق منذ اليوم الأول لتعارفهما، ولكن الأوربية تفكر رغم كل شيء، لذلك كان تعلقها بعد إدراك ووعي واكتشافات، لتقل له ذات يوم
ـ سليم .. إنني منذ أن تعرفت عليك لم أعرف من أنا .. لقد أصبحت قطعة منك
ـ كلوديا .. أنا أعرف .. لقد التحمنا ببعضنا بصورة غريبة وربما بقوة تفوق إرادتنا، وأنا أيضاً لا أعرف أين السر في ذلك ..
كانت تسنح الفرص غالباً أن يسافرا معاً في عطلة نهاية الأسبوع إلى أصقاع شتى في ألمانيا، كانا مرة في مدينة لايبزج، وكان ذلك في كانون الثاني/ يناير، والثلوج تغطي كل شيء، ورانت لهما فكرة مجنونة، أن يذهبا الآن إلى أوبرهوف وهو منتجع في أحدى قمم جبال الألب ...
وعندما قاد سيارته بعد الظهر وكانت المسافة تربو على الثلاثمائة كيلومتر، وعندما بدأ يتسلق جبال الألب، كان المنظر يبعث على الخوف فكأنهما يغادران إلى كوكب آخر، فالطريق يلتوي كثعبان ليؤدي إلى القمة حيث كان الفندق الشهير (بانوراما) يشع بارتفاعه المهيب وبمنظرة الغريب إذ يمثل هرماً يشبه الأهرام المصرية، وتدريجياً أصبحت الغيوم تحتهما، فلا يكاد المرء ليبصر القرى في الوادي إلا من خلال فجوات في الغيوم، القرى متناثرة في سكسونيا السفلى، أضوائها كحبات برتقال تلتمع في ظلام يتسلل، كان الخوف والأنبهار يرسمان معاً ملامحهما على وجه كلوديا ..
ـ هل أنت خائفة ..؟
ـ أنت معي لا أخاف .. ولكن المنظر مهيب .. أليس كذلك ..؟
ـ بالتأكيد، أنه احد أجمل ما شهدت في حياتي..
ـ وهل شاهدت مرة جبالاً .. سليم ..؟
ـ أنا قد شاهدت جبال كثيرة في العالم ..
ـ هل هي جميلة هكذا ..؟
ـ أعتقد أن جبال القرم والقفقاس هي أجمل ما شاهدت، وكذلك جبال يوغسلافيا ..
عندما ترجلا في ساحة وقوف السيارات أمام الفندق .. حيث تعقد الدهشة الأبصار واللسان .. أمام روعة لا مثيل لها .. روعة الطبيعة وروعة ما بنى الإنسان هنا في هذه القرية الجبلية في جنوب ألمانيا، فهنا أقيمت قبل سنوات الأولمبياد الشتوية وهذا الفندق الذي يمكن أن يأوي جيشاً لضخامته، والقرية التي تعبر في جمالها قطعة فنية رائعة .. جمال مزدوج، الطبيعة ويد الإنسان، حيث لا يسعك إلا أن تتأمل صامتاً .. وقد تهتف بين الحين والآخر بصوت خافت .. ما هذا ..؟
عندما صعدا إلى غرفتهما في أحدى الطوابق العليا .. لم يكن ليشاءا أن يبددا لحظة واحدة، فهبطا إلى المسبح، وهو في الطابق السادس وقد صمم بطريقة وكأنك تسبح بين الغيوم في سقف العالم .. أو سقف ألمانيا على أية حال .. وأخذا مراراً حمام البخار (الساونا) ثم ليعودان إلى حوض السباحة ...
وأخيراً قررا قضاء السهرة في مرقص الفندق وهو في أعلى طابق في الفندق، ومن النوافذ العريضة كان بوسع المرء أن يشاهد القمم والوديان من كل جانب .. تلك المطلة على وادي محافظة زول، أو من حيث أتيا من سهل أيرفورت، تحجبها الغيوم حيناً، ولكنها قد تسمح بمشاهدة هذه الروعة ... استراقاً .. والموسيقى .. والخطوات .. وحضن الحبيب .. كانت أمسية خيالية .. بكل معنى الكلمة ..
رقصا على أنغام أجمل أغنية يحبها، أغنية النبيذ اليوناني لأودو يورغن .. كانت كلمات الأغنية تبعث على الارتعاش..
النبيذ اليوناني
كان الظلام قد حل حينما كنت أدور في الشوارع القصية للمدينة
كان لدي وقت كثير وكنت غريباً واشعر بالبرد
هناك حيث يجلس الرجال ذوي العيون البنية والشعر السود
ومن صندوق موسيقى .. كانت تنبعث ألحان جنوبية غريبة
ثم ينهض رجل منهم ويدعوني للجلوس
تعال ... النبيذ اليوناني كدم الأرض ...
تعال .. اسقني، وعندما تراني حزيناً يا صديقي مطرقاً
ذلك لأنني أحلم بوطني ... سامحني
النبيذ اليوناني .. وصوت الأغاني
أملأ قدحي مرة أخرى وأخرى
فليس لي سوى أن أكون غريباً ووحيداً في هذه المدينة
يحدثوني أكثر فأكثر عن البحار العميقة والرياح والعواصف
وعن البيوت العتيقة حيث تجلس النساء الشابات وحيدات
ورجال ذهبوا إلى البحر ولم يعودوا بعد
وعن الأطفال الذين حيث يوفرون الفريحات
الصغيرة بانتظار ذلك اليوم
تعال ... النبيذ اليوناني ... كدم الأرض تعال ...
اسقني وأملأ قدحي ...
وعندما تراني حزيناً أفكر
ذلك لأني أحلم بوطني ...
سامحني ...
تذكر بقوة صديقه الرائع الشاعر شريف الربيعي بقوله في أحدى قصائده: أيها الوطن المعبود ... أنت أينما حللت في دمي ..
نحن نحب الأشياء حباً بكائياً، ولا نعرف لماذا ... الألم هو شعور خلاق .. الألم يعني أن مشاعرك حية وأنك تشعر بالعذاب لأنك إنسان يؤلمك ألم إنسان آخر .. فقد تسمع كلمة خارجة من القلب ومتجه للقلب .. فتدمع عيناك .. أما الفرح فهو شعور ينطوي على شيء من الخفة .. وأحياناً السذاجة..
طلب من الفرقة الموسيقية أن تعزف له أغنية قديمة مشهورة "تلك كانت أيام يا صديقي" Those wer the days my Frend " " وكانت تلك الأغنية(تغنيها ماري هوبكنز) تذكره بأيام ذهبية كان يختطفها من حياته الجادة والمرهقة، تذكر صيفية بوهيمية قضاها في استامبول وعمره لا يتجاوز الرابعة والعشرين، كان قد ذهب إلى هناك على غير هدى، وتعرف على أصدقاء هناك أمضوا أيام وليالي، كانوا يذهبون إلى الحفلات ويستمعون إلى أغاني تلك الحقبة، ويتعرفون بسرعة على الفتيات، ويتوهم المرء منهم أنه يعيش قصة غرام طاحنة، ولكنها سرعان ما تتبخر كحلم ذات ليلة صيف ..
سليم كان جاداً .. وهو وإن كان يعيش تلك الأحداث، ولكنه كان يترك مسافة تبعده عن الانجراف في تلك المتاهات الشبابية التي لم يكن فيها ضير ... ولكن ...
كما يقول الشاعر الأندلسي أبو عبد الله الخطيب:
وطر ما فيه عيب سوى أنه مر كلمح البصر
وها هو الآن في قرية على قمة في جبال الألب السكسونية .. يعيش أجمل لحظات حياته في زلزال لا يتوقف، مع فتاة أحبها بعمق كما لم يتزلزل قلبه من قبل .. كان ينظر إلى عينها وإلى شفتيها المزمومتين
ـ كلوديا ..!
ـ نعم سليم ..
كان يحلو له أن يناديها هكذا .. عندما تكون مطرقة أو ساهمة، فتفز متطلعة إليه ، فيشكل وجهها لقطة بروفيل تطيح به في وديان بعيدة .. أبعد حتى من وديان الألب السكسونية .. وجبالها وقراها التي ترقد في سفوح الجبال وأحياناً في قممها كمصيف ومنتجع أوبر هوف في أعماق الألب الألمانية.
ـ نعم سليم .. ماذا أردت ..
ـ ماذا أريد ..؟ أوه يا لهذا السؤال ..
ـ قل لي ما تريد .. ماذا تتمنى ..
ـ أوه .. أنك تعقدين الأشياء أكثر فأكثر ..
ـ سليم .. أنت لديك كلوديا وهي ملكك ..
لم يعد سليم يستطيع سماع المزيد مما تقوله هذه الحبيبة القاتلة
عندما صعدا إلى غرفتهما في الفندق .. كان قد فتح باب الشرفة ليتسلل نسيم بارد .. ينظر إلى الجبال والوديان .. أضواء القرى البعيدة .. كمصابيح في ذلك الليل البهيم
كم بعيد هذا المكان هذا عن العراق ... عن بغداد .. ستة أو سبعة ألاف كيلومتر .. آه يا عراق .. آه يا عراق .... يا عراق ... أنت أينما حللت في دمي ...
كانت قد أندست في الفراش، وكان ضوء الحمام يبدد عتمة الغرفة، اتخذت من ذراعه وسادة..
ـ ماذا بك سليم ..؟
ـ كلوديا .. أنا أحتضن هذه اللحظة .. أحاول أن أكثف كل وعي لأعيشها بعمق يتخلل عظامي .. أني ألمسك فترتد لمستي عذاباً .. أني أحبك ولا أعرف لماذا ..؟
ـ بل تعرف .. لأني أعشقك أيها العربي القادم من الصحراء .. اعتبرني جارية في حريمك.. أنا لك بكليتي ..
كانت تفوح من شفتيها رائحة التفاح، والأزهار والحب العذب، والإخلاص ...
ـ أنا لك .. خذني .. لقد شطبت على أيام عمري قبلك .. ولن تكون لي حياة بدونك ..
كانت هناك نقطة لا يدركها أكثر الرجال خبرة .. تتصاعد من عينها ومن جسدها أهات الغرام، تلتحم به، تهمس في أذنه .. تقبله .. تمضي به في رحلة إلى النجوم .. وأستماع لأصطفاق أجنحة طيور البحر .. تحليق فوق جزر خرافية .. يستمع إلى أنين الوتر .. والأحتفالية المهيبة لبيزيت في الحركة الأولى من كارمن .. يطير فوق قمم جبال الألب .. يحتضن جسد أجمل فتاة أحبها في عمره .. ينتزع من صدرها أعمق المشاعر المضنية .. ويفضي لها دون إرادته بأشق الاعترافات .. أي عذاب جميل هذا ..!
نسيم يهب من شقة باب الشرفة المطلة على أنوار القرى .. في تلك اللحظة .. يعتصرها بقوة .. يود لو يقول لها أنك يا حبيبتي تمنحين نفسك للريح للعاصفة .. ستكون حياتك عذاب .. لأن طريقي ملئ بالأشواك الدامية، وأنا نورس يحترف الطيران الحر على ضفاف البحار العربية .. فأنا هناك بروحي وعقلي ... لا انعتاق من هذا الارتباط الأبدي ...
ـ أنت تعيش هنا معي وفي وطنك في آن واحد ..
قالت له مرة ........
ضحك .. أراد أن يقول لها مقطع من قصيدة لويس أراغون: حبك وعلة تعدو ..وماء ينساب بين الأصابع .. حبك كالساعة الرملية يقسمني قسمين .. ولكني أمام وطني واحد متحد، لا التفت هنا وهناك، وعندي جرغد معيدية عراقية تساوي الدنيا وما بيها ...
لكنه عدل عن ذلك فهي تعيش لحظة لا ينفع معها سحر اراغون .. ولا أناشيد الوطن .. بل هي نفسها تلعب دور الساحرة .....
لم يعرف كيف نام، ولم يلحظ نومها .. باتا متعانقين لفترة طويلة ..
أستيقظ صباحاً .. كان قد أحتاط ووضع بباب غرفة الفندق إشارة عدم الإزعاج .. نهض وأقترب من باب الشرفة، كان منظر الصباح له وقع آخر .. يغطس الوادي في الغيوم والضباب، وكأن الفندق طائرة محلقة على ارتفاع شاهق ..
استدار للخلف، كانت قد شعرت بفراغ السرير فطوحت بيديها وأنزاح جانب من الغطاء وبان الجزء الرائع من جسدها .. .. فجلس على حافة السرير وسالت دموعه دون إرادته ..
ـ سليم .. أنت تبكي ..؟
ـ لا .. لا ليس كما تعتقدين .. أنه أمر آخر كلوديا ... أنه أمر آخر .. أنه أمر آخر ..
ليتني أستطيع تجميد هذه اللحظة إلى الأبد.. ولكن هذه خرافة .. كخرافة إيجاد حجر الفلاسفة .. أمضى مئات العلماء عمرهم في إيجاده عبثاً، فمات البعض دون ذلك وجن آخرون .. وأعدم الطغاة البعض منهم .. أنا أبحث عن سر يشبه سر الخلود الذي قضى أنكيدو في رحلة البحث عنه، ثم أكتشف أنها تكمن ببساطة أنك تكتسب الحكمة في هذه الرحلة .. الحكمة فحسب ..!
ثم أنه أراد أن يقرب المسألة إلى ذهنها من الواقع الألماني فروى لها فلسفة مسرحية غوته فاوست، الذي انتهى إلى ذات النتيجة.. البحث عن المستحيل يؤدي إلى خلق الحكمة .. ثم ألم يكتب الشاعر العربي خليل الحاوي قصيدة بهذا المعنى .. قائلاً:
ضيعت رأس المال والتجارة
عدت إليكم شاعراً في فمه بشارة
يقول ما في الفصول قبل أن تأتي الفصول
فمأساة سندباد الذي عاد إلى البصرة بعد أسفار وأهوال فقيراً وكان قد فقد كل شيء، ولكنه كسب حكمة لا تخسر وغير قابلة للفقدان .. الحكمة والتجربة .. ليروي ولتظل الرواية أثراً خالداً عبر السنين.
للراغبين الأطلاع على الجزء الأول:
http://www.algardenia.com/maqalat/21333-2016-01-17-19-17-43.html
889 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع