د.ضرغام الدباغ
الجزئين الرابع والخامس
4
لم يكن يزعجه ويا للعجب قلة ثقافة كلوديا، فذلك عنصر كان فائق الأهمية في حياته، يعرفها عنه أصدقائه، فذات يوم كان يتنزه مع جلال وصديقته، في جولة في السيارة، ولشدة غباء الفتاة لم تكن هناك أية إمكانية لأزجاء الوقت سوى التسلي بأسماء عواصم الدول، وأحتج صديقه وأبدى الانزعاج لأن فتاته لم يكن بوسعها المسايرة، فضحك سليم وقال له أسئل لعبتك هذه أية موضوعات تريد أن نتحدث بها ..!
ولكن كلوديا لم تكن لعبة .. فهي إنسانة مذهلة بدقة مشاعرها، كان يقول لها ذلك باسماً، فتجيبه أنها صندوق عرف كيف يفتحه .. وآلة موسيقية أجاد العزف عليها ..
ـ وماذا كانت المعزوفة برأيك ..؟
كانت كلوديا تسمع الموسيقى وكان يسيراً عليها، أن تجيب: خليط (Gulasch) من الإيقاعات بين الروك أند رول والفالس يتخللها السامبا.
ولكن أيام ألمانيا تلك لم تكن لتخلو من الإزعاج.. كانت النقاشات الأكاديمية بين رفاق الدراسة غالباً ما تنتهي نقاشات سياسية، وكالعادة لا يبدي أي طرف بقبول الطرف الآخر.. مع أنهم يعيشون تجربة فريدة من خلال تواجدهم في قلب أوربا يدرسون في أرقى الجامعات.
ـ سليم قل لنا هل تؤيد التدخل السوفيتي في أفغانستان ..؟
هتف أحد الأصدقاء بينما كان سليم يمر في المقهى مسرعاً ..
لم يكن مطلوباً أن نغطس في مناقشة الحتمية التاريخية في أفغانستان، فذاك البلد يعانق القرون الميلادية الأولى بكل اعتزاز .. فما لفائدة في مناقشة لا تنفع ..
ـ لماذا لا يراك أحد سليم ..؟ ... يقول أحدهم
ـ هل أنت مصر على درجة الجيد جداً ..؟ يعلق آخر
ـ يا أخي لنفسك عليك حق ..! يهتف آخر
كان سليم يسمع هذا المزاح .. أو الجد ولكنه يتجاهلها ..
ـ يا أخوان .. نحن هنا للدراسة ولدينا وقت فراغ للقضايا الشخصية، ولكنكم تمنحون وقتكم للقضايا الشخصية ووقت الفراغ للدراسة.
كان سليم يستغل أوقاته بدقة تامة، فهو وإن كان قد حصل على منحة دراسية من الحكومة الألمانية، إلا أنه كان يشعر بأهمية هذه الإقامة الرائعة في ألمانيا وفرصة الدراسة في جامعة احتفلت في تلك الأعوام بمرور 800 سنة على تأسيسها، وكان قد توصل إلى نظام يحصل بموجبه على أفضل الإنتاج الثقافي، من خلال الاشتراك في دور النشر يطلع على برامجها وترسل له وفق اشتراك زهيد الكتب إلى عنوانه، وكذلك فعل مع الأسطوانات الموسيقية، وكان قد تعرف على فتاة رائعة تعمل في محل يبيع الأسطوانات، فتنبهه عند نزول الأسطوانات الحديثة المطلوبة، فمثلاً أخذت أيمي وهو أسم الفتاة، تقرع له زجاج النافذة بينما كان يمر من هناك، أن تعال بسرعة، وكان المكتبة تبيع أوبرا عايدة لفيردي والناس في صف طويل، وكذلك كان الإقبال شديداً على أعمال ريتشارد فاغنر الذي سمحت السلطات الألمانية بتداول أعماله الفنية إذ كان موسيقار العهد النازي، كما حدث ازدحام ملفت للنظر عند نزول الطبعة الأولى من رواية غابريل غارسيا ماركيز: مائة عام من العزلة.
وكان من اليسير في بلد كألمانيا الاشتراكية أن تحصل على تذاكر الحفلات المهمة، حتى عندما يبلغ الزحام أحياناً على حفلة درجة أن تباع البطاقات قبل موعدها بعدة شهور، ولكن بمزيج من العلاقات والدقة في المتابعة، كان سليم يحصل على التذاكر، وهكذا تسنى له مشاهدة وسماع روائع الموسيقى والفن.
وفي ألمانيا أيضاً، في أيام الاشتراكية كانت الوسائل التعليمية والثقافية والفنية زهيدة الثمن، وكذلك المواصلات، والشؤون الصحية، والعلاج مجاني، فكان سليم قد اشترك في دار نشر يدعى عالم الفن وهذه الدار تصدر الأعمال شبه الكاملة للفنانين الكبار بثمن هو لا شيئ تقريباً، وبمرور الوقت أصبحت مجموعته تزيد على مئة وستون مجلداً، وزيارة المتاحف كانت سهلة ولا تكلف شيئاً، لذلك صار يعرف موقع كل لوحة في المتاحف الألمانية في برلين ودريسدن، وهي متاحف تضاهي وتقف على قدم المساواة مع اللوفر الباريسي والناشنال غالري اللندني والبارادو المدريدي والأرميتاج في لينينغراد.
أما المناقشات السياسية، في الأقسام الداخلية والمقاهي فكانت قاعدة قائمة في كل آن وأوان، وعلى الأغلب تتحول إلى حروب أهلية، نحن لا نعرف أن نخاصم، كما لا نعرف أن نحب ففي الحالتين نمارس ذلك بصفة مبالغ بها، وهذه صفة شرقية عامة تشترك فيها كافة الأمم ما وراء البسفور، والأمر بالتأكيد ليس طلسماً يصعب فك أسراره، ولكن ذلك له جذر عميق جداً غائر في التاريخ له علاقة في بدء تشكل المجتمعات في الشرق على ضفاف الأنهار، ونشوء ثقافة الزعامة، والتفرد، ونظرية الزعيم، والعقل الشرقي لا يميل إلى الألعاب الجماعية، والسياسة لعبة جماعية، وتعمقت معلوماته عندما قرأ سليم رواية " وقائع مدينة ترافنك " لأيفو أندرش، إذ خصص الكاتب ضمن الرواية صفحات كثيرة في تحليل أبعاد العقل الشرقي (وإن بشيئ من التحامل)، ولكن لابد من الاعتراف أنه توصل إلى حقائق كثيرة.
ولكن من جهة أخرى الأمر له علاقة أيضاً بنظم الإنتاج، وفي ذلك تكتب روزا لكسمبورغ أفضل التحليل في نشوء نظم الإنتاج في الشرق القديم، كل هذه عوامل أدت إلى تبلور الشخصية الشرقية بخصائصها المعروفة، والبعض منها يدل على دفء ومودة تلقائية عفوية، وكرم وضيافة، وتهذيب وخجل قد يدفع إلى مواقف مهلكة ..!
كانت حركة التضامن في بولونيا قد بدأت تطرح نفسها في بولونيا، وحديث للناس في ألمانيا، كان سليم بالطبع يزعجه الموقف في بولونيا، فالتراكمات قد قادت إلى هذا الموقف المتوقع، وتداخلات الدول الرأسمالية قد أضحى سافراً، والنقاشات تهب ساخنة في زوايا المقاهي يساريون ويمينيون، ماركسيون، ومن أنصار التغير، والبيئة، ومع أن الظروف في ألمانيا كانت غير ما هي عليه في بولونيا، حتى ذلك الوقت على الأقل، فقد كانت عناصر ألمانية قد بدأت تهمس هنا وهناك.
ـ اليوم كانوا يتحدثون عن حركة التضامن البولونية في العمل ..
ـ عندكم في العمل ..!
ـ نعم .. وكان الزملاء يعتقدون، سوف لن يمضي وقت طويل حتى نشهد حركة مثلها هنا ..
ـ وبعد ..!
ـ وقف أنا وقلت، أن عمل التضامن أجنبي موجه ضد البلاد .. وأنها ليست حركة تضامن عمالية بصرف النظر عن الأسم ..
ـ رائع .. رائع كلوديا .. هل قلت ذلك حقاً ..
ـ نعم .. لقد تذكرتك .. وفكرت أن هذا الموقف سيسرك ..
ـ آه أيتها الحبيبة .. ولكنك ألست مقتنعة حقاً بما قلت ..؟
ـ أنا أقتنع بما تقوله أنت ..
كانت دراسته تتقدم .. بل أصبحت بحكم المنتهي، كان يعيش سعادة يخشى أن تضيع .. وكان بالأمكان أن يقضيا أوقات أكثر، يتجولان في كل مكان، ويعودان ليلاً إلى القرية .. كانت الثلوج تكسي الشوارع والحرارة تهبط إلى تحت الصفر بدرجات، عندما قالت له
ـ ماذا ستفعل بعد أن توصلني إلى البيت، سأدعوك لتناول القهوة .. لا يمكنك أن ترفض .. سأدعوك إلى الفراش سوف لن ترفض .. فلا يصح لرجل أن يرفض دعوة عشيقته .. أتحبني ..؟ لماذا تمارس الحب عندما تشاء، وأنا أريد أن أمارس معك الحب هنا في هذه الغابة .. الوقت متأخر .. والظلام .. أركن السيارة على جانب الطريق .. هيا .. ستبقى هذه الذكرى في مخيلتك إلى الأبد، كما أني سأتذكرها كلما أمر من هنا ..
ترك محرك السيارة يدور وعلى إيقاع الموسيقى .. كانت مجنونة..
ـ أحبك .. أحبك .. أعرف أنك تحبني .. ولكني أحبك أكثر .. آه كم أحبك
كان سليم قد قرأ حتى ذلك الوقت معظم روايات الغرام الشهيرة، لا شك أن ما يعلق في الفكر هو القليل منها، ومن تلك رواية مرتفعات ويذرنغ وكان حب هيثكليف لكاثي شيئاً قد يشابه حبه لكلوديا، رغم أن العقد النفسية لهيثكليف قد تكون وراء ولهه غير الطبيعي بها، ولكنه كلماته كانت تنبأ عن حب عظيم يكاد القلب لا يستوعبه فيوشك على الانفجار ..!
ترى هل هناك حب بهذه الدرجة من القوة ..؟
هيثكليف يقول لكاثي: من الصعب أن أسامحك، أن أنظر إلى هاتين العينين وألمس هاتين اليدين، قبليني مرة أخرى، ولا تدعيني أنظر إلى عينيك .. إني أسامحك .. أني أحب قاتلتي.
نعم كلوديا كانت قاتلة .. ولكنها لحسن الحظ لم تكن تدرك ذلك .. أو لا تتبينه بدقة ...!
ذات أمسية كانا في برلين بقصد قضاء سهرة في مكان لا ضجيج فيه أو صخب، وعندما صعدا، لاحظ أنها لم تكن مسرورة أو راضية، فسألها ذلك، وهي تعلم أنه سينفذ لها ما تريد، وكان ذلك في السنة الثالثة من علاقتهما، ثم حدثت مناقشة، أدرك منها أنها تعتقد أنها تهيمن على العلاقة بصورة تامة، وأنه يحبها بشكل غير طبيعي وأنه لن يستطيع تركها ..
في موقف السيارات الفسيح في الهواء الطلق، نظر إلى عينيها المرعبتين ..عيون ميدوزا ..أدرك أنها تعامله بثقة مفرطة .. برهاوة ..كانت محقة ياللعنة ... ياللعنة محقة .. فقد سمح لنفسه أن يتدحرج دون سيطرة .. نعم لقد حاول أن يبقي مسافة أمان ولكنها بمرور الوقت أدركت أنه يقوم بأداء تمثيليات .. سيئة السيناريو والإخراج ...
فتح لها باب السيارة .. وأبتعد .. هي أدركت أنه يعاني من شيئ يعذبه .. وأدركت ماذا يعاني .. أدركت بأنه يقرأ الصورة بدقة .. وأنه يشعر بأنه خسر المباراة .. بل خسرها ..
تركها ومضى يسير وخطواته تترك صوتاً على الأرضية المثلجة ..
ـ سليم ... تعال سليم .. لنذهب حيث تشاء .. تعال .....
كان يبكي ... يبكي حبه الضائع .. أدرك أنه من العبث استمرار العلاقة .. كان يحبها حباً يضعها خارج سيطرته .. بوسعها أن تفعل به ما تشاء .. هي أدركت ذلك .. بل تيقنت منه لدرجة ما، وليس بحدوده الكاملة لحسن الحظ ....
ـ سليم .. ما بك .. يا إلهي أنت تبكي يا حبيبي ..؟
كانت كلماتها عاطفية ولكن نغمة صوتها لم تكن تدل على أنها متأثرة .. هذه أشياء يحس بها المرء ولا يستطيع شرحها ..
تطلع إلى وجهها .. كانت تخفي بالكاد ابتسامة المنتصر ..!
كانت تلك حادثة حاسمة، أن يقتحم سليم ذاته، وأن يقرر بدء عملية تحرر من كلوديا، أو تخفيف تأثيرها عليه، كان الأمر قد بلغ نقطة حاسمة، والأهم أنها كلوديا بدأت تدرك تدريجياُ مكانتها، وهي وإن لم تتحول بعد إلى سليطة ومستبدة، ولكن أن تدرك أن ما تطلبه يستجاب حتماً، كان يضع سليم في نقطة جديدة .. ينبغي أن يفكر ويتصرف ...
تذكر أنها كانت تلح عليه في بداية علاقتهما أن تحمل منه .. ولكنه كان يرفض ذلك، وبعد أن ترسخ هواها في نفسه، صار يلح عليها أن تحمل منه لكنها كانت ترفض هذه المرة .. الطفل عند المراة ليست علامة الاخصاب فحسب، بل وسيلة لشد الرجل إليها .. هكذا هي المرأة في كل أصقاع الأرض، في البدء كانت هي تلح بطلب الطفل، ثم أنها لما تأكدت أن سليم قد أرتبط بها برباط أقوى من عشرة أطفال، فلماذا تسيئ إلى المعادلة ..؟
كان يغريها بصبي: نسميه مشعل، ليفظ بالألمانية ميشال، أو بنت فنسميها تالة، قال لها التالة هي ابنة النخلة ... أعجبها الاسم .. ولكنها علقت ...سليم وطنك يقتحم كل مسامات عقلك وقلبك ..
عندما أيقنت أنها دخلت حياة سليم إلى الأبد دخول الفاتحين .. صارت لا تسعى لمعرفة أين يقضي لياليه بعيداً عنها، وعندما يأتي إليها تسأله ذلك بكل بساطة وهي تعد الطعام، وهي تعلم أن كل شيئ ساكن على الجبهة (كعنوان رواية أريش ماريا ريمارك) أدرك أن الأمر قد أفلت من يديه أو يكاد، وكان طيلة علاقته بها لم يخض تجربة أخرى، حتى على سبيل المغامرة، وليالي الأقسام الداخلية تطلق شتى أنواع الصواريخ التي تملأ أجواء الطلبة بشتى الألوان، فالفتيات من عشرات الجنسيات يدرسن في الجامعة، ولا أحد يريد الخروج من حياة الجامعة صفر اليدين ..! بلا تجارب تملأ صفحات مجلد كامل ..
كان لا بد أن يفعل شيئاً ليستعيدها .. ليستعيدها بالقوة المسلحة، فهذه أشياء لا تنفع معها المفاوضات والإغراءات والهدايا، التي تزيد في الأمر سوءاً ..
5
في تلك الأيام تحديداً خرج ذات عصر، مع صديقه منير الذي التقاه بالصدفة، وهو طالب يدرس الإخراج التلفزيوني، وأمسيات يوم الأحد مجدبة وتبعث على الكآبة، لأنها نهاية عطلة الأسبوع والناس يعودون إلى بيوتهم متعبين استعداداً ليوم عمل، اتفقا على اللقاء في مقهى حصيف لا يرتاده الشباب، وحيث لا توجد موسيقى صاخبة، كانت فتاتان تجلسان على الطاولة المجاورة، دعا لهما منير بكأسي شامبانيا، وهي رسالة للتعارف، وعندما شكرن بصوت واضح ومرحب، أنتقل سليم ومنير إلى طاولتهما، وبعد ساعتين كانوا قد أصبحوا أصدقاء.
أقترح منير أن يذهبوا بسيارته إلى البحيرات في ضواحي برلين، كان سليم قد رتب الأمر فجلس في المقعد الخلفي مع ريتا، وهي فتاة في الواحدة والثلاثين، تبدو على شيئ من متانة الشخصية والثقافة، وسرعان ما دخلا في حديث ثنائي عن الغرافيك، والسيراميك والبورسلان وكان من الواضح أنها يرتاحان لبعض.
كانت ريتا هي المرأة التي يحتاجها سليم المحارب، فأتفق معها على لقاءات أخرى، وتبادلا القبلات عند وداعها.
المرأة مرأة سواء كانت ألمانية أم أوغندية أو منغولية ..! كلوديا شعرت في اليوم التالي أن هناك معطيات جديدة ..! افتقدت شيئ ما لا تعرف كنهه ولكنها شعرت أنه لم يعد يتلهف على رؤيتها .. لم يعد يلح في استعجال المواعيد ..
سليم كان يدرك أن هذه هي الفرصة الذهبية لينقذ ما تبقى من روحه من ميدوزا .. وأن يستعيد أجنحته الذهبية وقدرته على الطيران .. فهو أفترض أن ريتا تصلح أن تكون صديقة، وليس بالضرورة أن نغطس في غرام ملتهب.
اتصلت به كلوديا هاتفياً
ـ أين أنت سليم ..؟ أنا لم أرك منذ أول البارحة ؟
ـ آه كلوديا أنا منشغل بمواعيد إجبارية .. ما العمل ..
ـ ومتى ستأتي ..؟
ـ لا أدري كلوديا .. سأتصل بك فيما بعد .
ـ وأين أنت الآن..
ـ أنا في المقهي .. ولكني سأخرج بعد قليل ..
كان سليم على موعد مع ريتا التي كانت قد أعدت العشاء باحتفالية وقد أعدت الموسيقى.. وكانت تحب سماع السرتاكي اليونانية، وبينما سليم على أهبة الاستعداد ليغادر المقهى، فإذا بكلوديا تقف أمامه شبه منهارة .. تهالكت على المقعد الجلدي العريض ..
ـ إلي أين أنت ذاهب ..؟
ـ هناك دعوة في القسم الداخلي بمناسبة تخرج أحد الزملاء ..
ـ سليم هذا غير صحيح .. أنت لا تعرف أن تكذب، وعندما تفعلها تفضحك عيونك ونبرة صوتك .. هيا قل لي إلى أين ذاهب.
ولم يكن سليم يريد أن يفقد أحترامه لنفسه أمام نفسه وأمامها
ـ حسناً أنا مدعو على العشاء ..
ـ أين مدعو على العشاء ..؟
ـ أعرف سيدة وقد دعتني على العشاء ..
ـ ماذا ..! يا إلهي وتقولها هكذا .. عند سيدة ..؟
ـ نعم كلوديا .. أنا آسف ... ففي المرحلة الأخيرة ..
ـ لا تقل كلمة وتزيد الأمر تعقيداً .. أنا أعلم ما بك ..
ـ ماذا بي ..؟
ـ لا أدري .. ولكني كنت سعيدة بحبك .. حتى تصورت نفسي في الأحلام ..
ـ ولكن ..؟
ـ ليس هناك ولكن .. ربما أنا بالغت بعض الشيء..
ـ بماذا بالغت ..؟
كانت كلوديا تبكي بدموع غزيرة .. مع شهيق وبصوت مرتفع حتى أضطر أن ينسحبا إلى آخر المقهى الفسيح .. كان يراها ... هو من يحبها حتى الموت .. تبكي .. كانت كل قطرة دمع منها تجرح قلبه بسكين حادة .. ولكن عليه أن يتحمل هذا الألم من أجل أن لا يفقدها .. إذا كانت العلاقة تستحق الإنقاذ .. سنرى ذلك ولن يطول الأمر ..
ـ سليم .. أنا أحبك .. أنا لست شاعرة أو أديبة مثلك .. ولكنك كل شيئ في حياتي الآن وإلى الأبد ..
ـ على كل حال .. لقد أزف موعدي .. ولا بد لي من الذهاب .. سأتصل بك غداً ..
ـ محال .. محال أن تذهب .. سأموت هذه الليلة
ـ طيب وما العمل ..؟
ـ أتصل بها وأعتذر ..
أدرك سليم أنها سوف لن تدعه يذهب، وكانت قد لفتت الأنظار بصوت بكائها ونحيبها، وأنها سترتكب حماقة ما، هنا في المقهى، أو طريق عودتها، أو في البيت .. هناك كارثة ما محدقة ..
ـ حسناً .. هيا لنذهب .. لنتصل بها ..
أدار قرص الهاتف، ولكنها أندست معه إلى الغرفة التي لا تتسع إلا لشخص واحد ولاحظت أنه كان يحفظ الرقم وركبه دون أن ينظر إلى ورقة أو دفتر هواتف، هي تترجم هذه الظواهر وتفسرها فيزيد بكائها ..
ـ ريتا عزيزتي، هل يمكن أن تقبلي أعتذاري، وأعترف أنها فضاضة .. ولكن ما باليد حيلة، أنا مضطر أن أذهب إلى المستشفى فشخص ما يحتاجني .. المعذرة أيتها الغالية
قال الكلمة الأخيرة دون انتباه فزاد نحيبها وعويلها..
ـ ستذهب معي الآن
ـ إلى أين ..؟
ـ وتسأل ؟ ألا تعرف أين .. ألم تكن تسمى بيتنا الجنة الصغيرة ..؟ الآن تسأل أين.. طبعاً صار لك عزيزتي وغاليتي .. آه يا سليم لقد قتلتني ..
لم يكن بوسعها أن تقود سيارتها في مثل هذه الحالة، وكان سليم بانتظار شراء سيارة أخرى، فقاد سيارتها وهي جالسة قربه تبكي بصمت، وسليم يقود السيارة بصمت ..
في البيت أخذت تمر بنوبة ارتجاف وبكاء ... وحتى عويل وهي تكاد تهذي ...
ـ سليم .. أني لا اصدق عيني .. اهذا أنت .. أنت من يفعل هكذا .. يا إلهي .. أتستبدلني بواحدة .. وتقول لها عزيزتي وغاليتي .. يا إلهي لا أريد أن اصدق .. ربما أكون غير مثقفة كما تشتهي .. ربما بالغت في دلالي عليك ..ولكني أحبك .. يا إلهي أحبك أكثر من أي شيء في الدنيا .. ولا أستطيع أن أتصور أني أعيش من دونك ..
لم يكن بيد سليم سوى أن يهدأها .. دون أن ينبت ببنت شفة، حاول أن يأخذها في أحضانه .. فاستكانت لحظة، ثم انفجرت بنوبة بكاء جديدة ..
ـ هل عانقتها .. ؟ هل قبلتها .. هل ..
لم تستطع أن تكمل فقد استفضعت أن تقول هل نمت معها ..
كانت ليلة ليلاء ... انتهت أن نامت بين ذراعيه، ولم يغادر الفراش إلا بعد أن سمع صوت أنفاسها .. ولكنه ما أن نهض .. حتى استفاقت .. تحدثه وكأنها حالمة ..
ـ أذاهب أنت حبيبي ..؟
ـ نعم .. فالوقت متأخر .. سأتصل بك غداً .. عندما قبلها كان طعم الملح في كل مكان من وجهها .. كانت تنزف دموعها بلا توقف ..
عندما أقلع بسيارتها عائداً إلى سكنه في القسم الداخلي، أخذ يتأمل .. ترى بماذا تفكر الآن ..؟
من المؤكد أنها لم تكن تعتقد البتة أنه قادر على أن يغازل امرأة أخرى، هي تعرفه كم هو جاد، بل خصائصه العقلية والجسدية، فهو إن لا يحب امرأة لا يستطيع أن يقم معها علاقة، ربما تكون هناك مغامرات لليلة واحدة، أو زلة قدم، ولكنها كانت متأكدة أن سليم لا ولن يحب سيدة أخرى.. وبهذا المقياس فما حدث اليوم هو شيء فضيع .. لم يكن يستوعبه عقلها، بل هي لمست أن العلاقة الجديدة هي أكثر من مغامرة وإعجاب عابر، ربما كانت تتوقع أن يحاول إثارة غيرتها .. أمر خطر على بالها .. ولكن لا .. ليس سليم من يفعل هذه المسرحيات، وما شاهدته بنفسها وسمعته لا يقبل ذلك الاحتمال ..
لماذا فعل سليم ذلك .. لا شك أنها تعذب نفسها بهذا السؤال المر .. وحتماً تضع أكثر اللوم على نفسها فتزيد عذابها عذاباً.. كانت تحب سليم لدرجة لا تستطيع أن تعتبره بأي صورة خائناً .. ولم تنتقص أحداث الليلة من حبها له .. ما لعمل ..؟
كان يقود سيارتها وهو عائد إلى شقته في القسم الداخلي، يفكر .... ويحلق بعيداً وقريباً .. ما هذه العلاقة العجيبة.. لقدر مر في حياته التي كانت مليئة، بكافة أصناف العذابات والمحن والتجارب، إلا أنه لم يسبق أن مر بتجربة كهذه ولم يسمع أو يقرأ شيء مثيل لها ..فيما بعد قرأ رواية جوستين للورانس داريل، كانت ضرباً من حب جنوني .. بل شيء لا اسم له .. للمرة الأولى في حياته يواجه شيئاً أقوى منه .. إدمان لا يستطيع الإقلاع عنه .. تيار أو دوامة لا يستطيع الإفلات منها .. بل أنه أحس في لحظة أن هذا الغرام قاتل، وأن كلوديا قاتلة .. ولكن مع ذلك فهو ببساطة لا يستطيع أن يهجرها ....
لماذا ...؟
لأنه لا يستطيع .. هكذا ببساطة .. واليوم .. وبعد ما حصل .. هل هو في طريق هجرها ..؟ هل بدأ العد العكسي ..؟
كلا .. بالطبع كلا .. أن يهجرها هذه أمنية سوف لن تحدث قط .. ليس هناك سوى الموت ينقذه منها، هي دخلت حياته إلى الأبد .. ومهما حصل فستبقى صورتها تثير في نفسه الألآم والأحزان .. إنه يحبها لدرجة لا يستطيع إيذاءها .. وإن يفعل، فمن شدة حبه لها، كان يتمنى أحياناً لو يعذبها لأنها تفوقت عليه .. ولكنها لم تكن تدرك إلى أي درجة يحبها .. وذلك من حسن حظه .. فهو لم يكن في وارد أن يرفض لها طلباً ..
مهما كان ذلك الطلب ..!
كان يتأمل أسلفت الطريق الذي يمر عبر غابة ويستمع إلى حفيف الأشجار .. نظر إلى مضرب التنس عبر مرآه السيارة، فأبتسم .. ها هي لم تلمس مضرب التنس منذ أكثر من ثلاث سنين .. قبل أشهر قالت له أنه تريد العودة للعب من أجل التريض فقط .. ولكنها لم تفعل ذلك .. لماذا .. سألها فقالت له :
ـ ولماذا ألعب.. لا وقت عندي ولا أستطيع أن أمنح اللعبة ذرة من تفكيري ومشاعري
بعد أيام أهدته اسطوانة امرأة في حب Woman in Love لبربارة سترايسند ومن كلماتها:
" أنا إمرأة أحب وسأفعل أي شيء من أجل أن أحتفظ بك في قلبي "
هذه رسالتي لك .. قالت له وجالت الدموع في عينيها ..
ـ كلوديا ..
ـ نعم سليم ..
بتلك النظرة البروفيل مع إطلالة لا تعرفها سوى كلوديا من بين كل نساء العالم .. كافية بأن تبعث الجنون إلى أخر شريان ووريد عند سليم .. يحاول عبثاً السيطرة على نفسه .. دون أن يلمسها .. أو يلتهم شفتيها .. ويعتصرها بين ذراعيه .. يحاول ذلك وقد ينجح، ولكن بصعوبة بالغة جداً .. فيشيح بنظره إلى طرف آخر .. ولكنها لا تفهم لماذا أشاح بوجهه .. إنه لا يطيق النظر إليها واحتمال ذلك العذاب الجميل ..
ـ كلوديا ..
ـ نعم سليم ..
ـ هل تعرفين كم أحبك ..
ـ نعم أعرف ..
ـ وكم أحبك ..؟
ـ كثيراً .. أعلم أنك تحبني كثيراً .. صحيح ..؟
يا للحبيبة .. إنها تسأل ..! قاتلتي تسأل ..
ـ ولكني لا أحبك ..!
تجيب ضاحكة ..
ـ أعلم أنك تمزح .. أنت تحبني لأني أحبك لدرجة الموت
أين نظريات الهراء التي تقول ليس هناك غرام متبادل .. هناك شخص يعلن غرامه لشخص آخر فيقبله ذلك الشخص بهذه الدرجة أو تلك .. فليأت وليشاهد هذا الجنون .. هذا الغرام السحري الأسود
ـ أنا أعلم أن تلك السيدة .. ماذا كان أسمها .. أعلم أنك لا تحبها .. أنت لست بطائش، ولكن ما حدث هو فضيع .. أنا متأكدة أنك لا تحبها .. لقد أعطتك شيئاً لا أمتلكه أنا .. ما هو .. قل لي سليم ..؟
لم يكن سليم ليحر جواباً ... ترى ماذا يمكن أن يقول .. وهو من يبحث عنه ..!
أيقول لها صرت أكرهك لأنني أحبك رغماً عني ..!
أيقول لها إني فقدت استقلالي .. وسقطت صريع هواك ..! وأني أريد استعادة استقلالي ..
أيقول لها أنت مخلوق سحري هبط من كوكب مجهول ..؟
أيقول لها أني أخشى أن تطلبي مني ذات يوم أن أقلع عن القراءة .. مثلاً ..
سكت وهو المثقف .. ذو التجربة
والسكوت بحد ذاته محنة.. وتعبير صارخ عن العجز ..
وهي كانت عاجزة عن أن تقدم المزيد .. لا تعرف ما تفعل ليزداد سعادة ..
كانا يحبان بعضهما هذا الطراز من الحب الموجع .. الغريب ..
كان بوده لو يقول لها .. إياك أن تقدمي على تغير شيء يفسد بهائك .. وصورتك الفاتنة ..
أن كيانك الرائع خليط من نار ونور وإشعاعات .. بمقاييس دقيقة .. ربما أي عنصر جديد سيسيئ إلى التركيبة المذهلة ..
السيئ في الأمر أنا ............ نعم .. أنا ..
أنا إنسان خلقت حراً للتحليق في فضاءات واستجلاء أبعاد وآفاق ....
تعذبني هذه الرؤية ومن يلتحم بي يناله شيء من عذابي ..
قال لها مرة ..
ـ كلوديا ..
ـ نعم سليم ..
تتطلع إليه بنظرة بروفيل، فيفقد رشده لثوان قبل أن يتمالك نفسه فيستطرد
ـ كلوديا .. حبيبتي .. أنا حياتي عذاب في عذاب .. وسيطول شرح الأمر .. وقد يحدث لي حادث مكروه وأنت معي ..
ـ حقاً ..! أوه ما أجمل ذلك سليم .. أن نموت معاً في نفس اليوم ونفس الدقيقة ..
ـ سأطلب منك شيئاً واحداً فقط سليم ..
ضحك في سره .. شيئ واحد فقط ..!
ـ قولي كلوديا ..
ـ لا تهجرني .. وإن شئت ذلك فأجلب لي كمية من الأقراص المنومة .. لأبتعد عنك إلى الأبد
ـ كلوديا .. لا تكوني حمقاء .. أنت تعلمين أني أحبك ..
ـ نعم أعلم ولكن يبدو أن هناك شيئ ليس على ما يرام ..
ـ دعي عنك هذا ..
ـ (مقاطعة) لاحظ أنك لم تعدني .. فانطلقت في نوبة بكاء صامتة
ـ كلوديا ..
ـ نعم سليم ..
تقولها بين دموعها
ينهار سليم فلا يعد بمقدوره السؤال والجواب، يأخذ الحبيبة في أحضانه يشرب دموعها، يقبلها، فيلحظ أنها راضية، ثم تنتشي من السعادة، فيغدو صوتها طبيعياً، وتعتقد أنها استعادته من محاولة فرار فاشلة ..!
وهي حقاً كذلك .. محاولة فرار فاشلة ... ما أصدق اعتقادها ..!
يستسلم سليم ليأسه .. فهو يعرف أنه لن يستطيع الابتعاد عنها ..
قالت له ذات يوم، لنمضي إلى جامعة همبولت / برلين، لم يكن يعرف لماذا، وهناك أمام دائرة كتب على بابها " مكتب مواصلة التعليم " دخلت وأبرزت شهادة الثانوية والمعهد وطلبت أن تسجل في قسم الاقتصاد في الجامعة، التي كان هيغل ذات يوم عميدها، وعندما خرجا، كانت المفاجأة قد عقدت لسانه ..
ـ كلوديا .. ماذا تفعلين ..
ـ لكي أكون في نظرك أفضل ..
جن صوابه، فجلس على أول مصطبة في حديقة الجامعة .. كان يتنفس بصعوبة ..
ـ سليم ..
ـ كلوديا هل فقدت صوابك ..؟ أنا أحبك كما أنت لا تغيري ذرة واحدة من المعادلات في نفسك وكيانك .. أياك أن تتوهمي شيئاً ..
ـ سليم سأدرس، كما سأعود للتدريب على التنس/ لقد أخبرني مدربي أن بوسعي أن ألعب على البطولة وأن أفوز ..
ـ آه كلوديا .. أنك تفعلين ..
ـ (قاطعته) سليم هناك خلل لا بد لي أن أكتشفه .. قل سليم ما هو ولا تجعلني أتحسس الأشياء كعمياء .. قل لي سليم ..
ـ لا شيئ يا حياتي، لا شيئ البتة .. أنت هكذا أروع مما ينبغي .. أنت لا تفهمين ..
ارتمت في أحضانه .. تبكي
سليم كان يتمتم في نفسه: يا لي من أحمق .. أأنا أتسبب لها كل هذا العذاب ..؟
كان يريد أن يقول لها أن المشكلة وما فيها، أنه يحبها أو يعشقها فوق ما يحتمل فؤاده ...
وهو ما يسبب له ألماً عضوياً مبرحاً ..
ربما لا أحد يصدق ذلك ..
للراغبين الأطلاع الى الجزئين الثاني والثالث:
http://www.algardenia.com/maqalat/21435-2016-01-23-10-28-43.html
4041 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع