عبدو الكسيري الكوشي
جلس القاضي على كرسيه معلنا بدأ الفصل في الخصام، و أمر الحضور بالصمت و الكف عن الكلام، و أشار إلى الحرس بإدخال الخصمين، و كانا رجل و إمرأة في الردهة ينتظران، فوقفا في حضرته، و قد تلاعبت قبضته بلحيته، فأمر المتنازعين بطرح الشكوى دون تعلثم في الكلام، فهما في حضرة الإمام.
فقالت المرأة:" ليتكلم خصمي أولا، فإني أحس في قلبه غلا، و لن أتقدم قبله بالكلام، و تقبل مني سيدي احترامي و جزيل السلام".
فبادر الرجل بالكلام، بعد أن ألقى تحية السلام فقال:" سيدي أنا رجل مظلوم، في صدري حزن و في عقلي و ساوس هموم، فقد خاصم النوم جفوني، و جف الدمع من عيوني، و أضحيت أقرب إلى الحمق و الجنون. فهذه المرأة طعنتي بخنجر الغدر، و أكرمتني بالهجر، دون علة أو قول فصل، بعد أن أوهمتني بالوجد، و أقسمت على ذلك بأغلظ الأيمان و أدعت أنها ملتزمة بالعهد، و لن يفرقنا غير رقود في اللحد".
فردت المرأة قائلة:" سيدي القاضي، ألم أقل لكم إن في قلب الرجل غل؟ فيا سيدي اسمعوا عني وبعدها ليكن في الأمر فصل، فقد وعدت هذا الرجل بالحب، و قد حملت له مشاعر صدق في القلب، و ما كنت أفاقة و لا منافقة، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي الأنفس، فالفقر شديد له بأس، و الحاجة تدفع للكفر بالحب، و اليوم سعادة الإنسان تقاس بثقل الجيب، و هذا الرجل لا يملك بيتا، و لا يؤمن قوتا، و لايحتكم على مال، و لا يجيد عملا من الأعمال، غير نظم الشعر، و التدقيق في الوزن و البحر، و قول أجمل الكلام، و العيش في الأحلام. فهل يا سيدي يجوز لي بعد سماع هذا القول الحنث بأغلظ الأيمان؟أم أني امرأة مجبورة للإلتزام بالعهد العيش في الحرمان؟"
فانتفض القاضي من مجلسه، و نزع العمامة عن رأسه، و ألقى الأوراق من يده، و قال في غضب:" و الله ما سمعت يوما أغرب من هذا الكلام، و ما فصلت في هكذا خصام، و إن الأمر اختلط علي، و ما عادت سلطتي بين يدي، فلست هنا لأفصل في أمور الغرام، و لا علم لي بخبايا الهيام، و لا مزيد من الكلام، غير إلقاء السلام".
فرحل القاضي، معتزلا الفصل بين العباد، إذ الغرام سحر يغير أحوال الأفراد.
991 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع