قراءة في التزوير التاريخي

                                                              

                                حامد خيري الحيدر

أن مسيرة الأنسان التاريخية الموغلة في القِدم كما بات واضحاً قد سارت بشكل متسلسل متدرج، حدث خلالها كم هائل من التطورات الحضارية والفكرية، أبتداءً من صنع أول أداة حجرية، وحتى ما تم التوصل اليه اليوم من ثورة علمية هائلة..

وهذه المسيرة الطويلة  بالرغم مما حققته خلالها من نجاحات كبيرة مهدت الطريق لبناء كيان الأنسان، فقد رافقها كذلك الكثير من الأخفاقات والترهلات والتجارب الفاشلة، أملتها ظروف شتى واكبت تلك المسيرة كشيء طبيعي لنضوج عملية التطور، أصبحت فيما بعد أسساً متينة لقفزات كبيرة وثورات حضارية مميزة في درجات سُلم الرقي الانساني، نتيجة تراكم الخبرة العملية في طريق ذلك البناء الذي أخذ بالتسارع بشكل متوالية هندسية مع تقدم وتيرته.. وقد أخذ كل كذلك شكل لوحة فنية متكاملة العناصر متناسقة الألوان، ترفض التلاعب في رسم خطوطها أو أدخال أي شيء غريب عليها من خارج المنطق العقلي والواقع العلمي لعملية التطور، فغدا أي تغيير أو تحريف، سواءً عن عمد وسابق تصميم أو عن سذاجة وقلة خبرة في صياغة أحداث تلك المسيرة، من شأنه أن يُحدث تشويهاً واضحاً في شكلها العام.
لقد شعر الأنسان منذ فترة مبكرة نسبياً بعد نضوج حضارته ووضع قدميه على أول طريق المدنية بعد اكتمال مقومات الكتابة، واعتمادها عملياً بين الناس خلال الألف الثالث ق.م بأهمية تدوين مسيرة تطوره وانجازاته الثقافية، وذلك بصور وأشكال مختلفة، فدأب على تسجيل تلك الأحداث والوقائع التي عاشها بما احتوته من سلبيات وايجابيات وتناقضات،  تعكس بمجملها الأحساس العميق بحقه في تثبيت تجربته الخاصة في الحياة وما أنجزه خلالها، في مسعى منه لتخليد ذاته معنوياً بعد تيّقنه من استحالة تحقيق خلوده الجسدي. بنفس الوقت فأن التلاعب بمجرى الحوادث التاريخية وأسبابها ونتائجها قد رافق تلك المسيرة بشكل موازي لها، بإضافة الكثير من الأكاذيب والمبالغات في سرد مجرياتها، وصلت أحياناً لحد قلب كامل للوقائع، في محاولة من أولئك المتلاعبين للأيهام بحقائق مشوهة لا توجد ألا في مخيلتهم، من أنتصارات وهمية لبعض الحكام أو شرعنة لأنظمة حكم تمت عن طريق الدم من قبل آخرين، أو التبجح والتفاخر بأنجاز حضاري أو فكري لبعض المدعين ليس لهم دخل فيه من قريب أو بعيد، لعجز جميع هؤلاء عن تحقيق أي من تلك الأعمال والانجازات فعلياً، فعمدوا الى تحريف وتشويه صورة تلك الأحداث لتحقيق مصالح خاصة تكون سياسية بالدرجة الأساس، أو أخرى دينية، فكرية، اقتصادية أو اجتماعية، وحتى هذه لو تم النظر اليها بعمق فأنها بالنتيجة تصب كذلك في خدمة تلك المصالح السياسية، من خلال رفع شأن وتضخيم هالة شعب، أو طائفة أو قومية أو مُعتقد ديني ومذهبي أو عائلة أو أتجاه سياسي أو فكري أو فلسفي مُعين، وقد يتعدى ذلك لحد طمس حضارات عريقة بكاملها، أو اخفاء دور شعوب رائدة وكبيرة عن مسيرة التاريخ. وعلى هذا المنوال وتلك الشاكلة أستمر التزوير التاريخي وتنوع، وتعاقب المتفننون به منذ تلك البدايات القديمة مروراً بالتاريخ العربي المُتخم بها لدرجة الغثيان، وحتى أيامنا المعاصرة هذه.
أن التاريخ بأعتباره علماً مُثبتاً كباقي العلوم الأخرى، فأن له منهجاً خاصاً، كونه مجموعة حقائق يتم التوصل اليها بأسلوب محدد من البحث، كما أنه علم غير خاضع للتجربة، حيث أن الأحداث التاريخية مرّت وأنقضت ولا سبيل لإعادة جريانها مرة أخرى، وما يتم السعي ورائه تحديداً من خلال هذا العلم هو دراسة كيف جرت الحادثة التاريخية بشكلها الحقيقي، وتعليل وتحليل أسبابها والنتائج التي ترتبت عنها فيما بعد، وهنا يبرز التاريخ كعلم وثائقي، لتكون الوثائق التاريخية بصورها وأشكالها المتنوعة، هي العامود الفقري والأساس الذي يبنى عليه الكيان الرصين لتدوين التاريخ، والذي يجب على الكاتب الالتزام به واحترام قواعده العلمية، التي أولها وأهمها أن يتجرد من كل خلفياته العقائدية والايديولوجية.. واضعاً أمام عينيه هدف واحد فقط لا غير، ألا وهو الوصول الى الحقيقة التاريخية، والقبول بها أياً كانت ولمصلحة من تصب، سبيله في ذلك الوثائق الأصلية المدروسة والأدلة المادية (التي تراها العين وتلمسها اليد) والبراهين المنطقية، بعد أخضاعها لمراحل عديدة من النقد والفحص والتدقيق، نابذاً كل مصلحة أو طموح أو مكسب شخصي له أو لملته أو للفكر الذي يعتنقه، ليصل في ذلك دون مبالغة  لدرجة التصوف. وهنا تكمن المشكلة الحقيقية في البحث التاريخي بأتباع عدد غير قليل من السائرين في هذا الطريق، لأسلوب كتابة التاريخ وفق الأفكار والنظريات والفلسفات والمعتقدات التي آمنوا بها، واعتنقوا ما ذهبت اليه في نظرتها للحوادث التاريخية وأسبابها وتحليل نتائجها، مستعيضين بها عن تلك الأدلة ومادتها..... وحتى هنا قد يبدوا الأمر فيه شيء من المقبولية، من حيث حرية التعبير عن الأفكار والاستدلال بواسطتها لفهم المجريات التاريخية، لكن الغير وارد تماماً هو محاولة فرض تلك الآراء والتفسيرات، وكأنها بديهيات مُثبتة غير خاضعة للنقاش أو الجدل العلمي. وقد يأخذ هذا الفرض أشكالاً وصوراً عديدة، لكنها جميعاً تدخل في باب العنف والقهر الفكري، وتصوير الأحداث التاريخية فقط من جانب تلك الأفكار. وعوضاً عن قيام أصحاب تلك الأفكار ومتبنيها،  بتطوير ما ذهب اليه فكرهم تبعاً لمتطلبات حتمية عملية التطور ومتغيراتها على الأنسان، وهذا طبعاً ليس سُبة بل على العكس، حيث من شأن ذلك تقويتها وزيادة مدى مصداقيتها بين عموم الناس. تراهم يحاولون جعل التطور يسير مجارياً لتلك الأفكار العتيقة البالية، مما يجعلهم يسيرون بأتجاه معاكس لعجلة التاريخ ومتغيراتها الأنسانية التي فرضها قانون التغيير (كل شيء يتغير ألا قانون التغيير)، ليكون ذلك بمثابة اعتراف، أما بعدم قدرتهم على تطوير عقليتهم، وبالتالي عدم أمكانيتهم من تطوير أفكارهم بما يتلائم مع تطور الحياة وما يستجد عليها، أو جمود تلك الأفكار أصلاً مما يجعلها غير قابلة للتطور، وفي الحالتين فأن مصير تلك الأفكار كما هو مفترض هو الموت والاندثار، لتنطبق عليها قواعد نظرية الاختيار الطبيعي التي وضعها (دارون)، التي تحّتم انقراض كل شيء غير قابل للتطور ولا يتماشى مع متغيرات البيئة والحياة.    
وبالرغم من تعدد وتنوع أشكال التحريف والتزوير التاريخي، ألا انه يمكن حصره في شكلين أو أسلوبين... أولهما هو التزوير المُتعمد أو المباشر، الذي يتم كما أسلف عن طريق التلاعب بالحقائق التاريخية وتحريف مسيرتها، وبالتالي قلب النتائج المنطقية المترتبة عليها. وهذا عمل احترافي يضاهي عملية التدوين التاريخي نفسها، كونه يدون التاريخ بشكله المقلوب المُزيف، ويتطلب من مُتعاطيه خبرة ودراية بخبايا التاريخ ودهاليزه، ونقاط ضعف الأدلة والبراهين العلمية للوقائع والأحداث التاريخية، لينفذوا من خلالها هؤلاء ويبثوا مغالطاتهم وأكاذيبهم.. لذلك فأن من يقومون بهذا التزوير لا يتوقع أن يكونوا من الجهلة أو المبتدئين في هذا المضمار، بل لابد أن يكونوا من عتاة المؤرخين والباحثين، الذين استغنوا عن مهنيتهم وتخلوا عن حياديتهم وعلميتهم من أجل أحد المصالح والأسباب التي سبق ذكرها... أما الثاني فهو يعتمد على الأول ويستند اليه،  لكنه أكثر انتشاراً وأشد خطراً، كونه بمثابة عملية نشر وترويج لتلك المغالطات والأكاذيب التي أنتجها النوع الأول، يتم من قبل أشباه كتاب التاريخ والطارئين عليه، الذين يدونون حوادثه دون خبرة أو ثقافة عامة أو أية خلفية أكاديمية تؤهلهم لذلك. حيث يتلقفون تلك الكتابات على عّلاتها وينساقون ورائها بلا دراية أو شعور، ليتخذوها مصادر رئيسية فيما يكتبون دون أية تدقيق وتمحيص أو منقاقشتها وفق أسلوب النقد التاريخي، الذي أولى مراحله وخطواته هو دراسة المصدر من حيث ظروف كتابته والفترة الزمنية التي دوّن فيها  وشخصية الكاتب ومدى تخصصه الأكاديمي وخلفيته الفكرية والاجتماعية، أو حتى أدنى تفكير في مدى منطقية تلك الكتابات للتأكد من مدى صحتها، ليتعاملوا معها وكأن ما أحتوته من أفكار حقائق مُسلم بها، مخدوعين بالأسماء اللماعة لبعض كتابها أو الجهات الدينية أو السياسية أو الاجتماعية الراعية والمروجة لها... ومن هؤلاء الكتاب من ينخدع ببعض المؤسسات التي غالبيتها دينية الطابع، تأخذ بتمّويل كتاباتهم وتساعد على نشرها وتوزيعها بعد أن توفر لهم مصادرها الخاصة في كتابة ذلك التاريخ، لتكون تلك الكتابات فيما بعد بمثابة ردة فعل للظلم الذي تعرضت له أنتمائاتهم الاجتماعية أو العقائدية أو الفكرية عبر الزمن... ومن الطبيعي التصور أن تلك الجهات لا يمكن أن تمنح كل تلك الموارد التي لا يُعرف مصدرها، من أجل سواد عين الحقيقة التاريخية وتخليد ماضي الانسانية أو البحث العلمي الموضوعي، انما من أجل أهداف ونوايا خاصة بها، لتمجيد وتعظيم كياناتها الدينية والطائفية، لمنحها من خلال تلك الكتابات دوراً لا تستحقه في المسيرة الانسانية... وهنا لا يفترض سوء النية من قبل هؤلاء الكتاب لترويج تلك المغالطات، لكن محدودية خبرتهم وضعف خلفيتهم العلمية، جعلتهم يتحولون الى أبواق ومنابر لترويج ما يطرحه المزورون الحقيقيون، وتنفيذ ما خططوا له في نشر التخلف والحقيقة المزيفة، ليتناولوا حينها (السُم المميت الموضوع في دَسم الأكاذيب) دون أن يشعروا، فيكونوا هم أول ضحيا ذلك التزوير بعد أن تكون كتاباتهم من الضعف والهشاشة بحيث يصيبها التصدع والانهيار ثم السقوط في أول عملية نقد علمي بنّاء تتعرض له.
 ومع أن ترويج المصادر المزيفة من قبل تلك المؤسسات لم يكن بالجديد، لكنه في وقتنا الراهن نراه قد أنتشر بشكل غير طبيعي، مهدت له الثورة الهائلة  لشبكة المعلومات العنكبوتية (الأنترنيت) لسهولة تداولها ومحدودية كلفتها، بشكلٍ مرافق وموازي للانتشار المجنون والغير مسبوق لمافيات الأعلام من كل حدٍ وصوب، بعد أن أفرزتها تناقضات هذا الزمن الغريب الذي ضاعت فيه الحقيقة وغاب الساعون في سبيل اظهارها، والمبادئ والأفكار النبيلة التي تدعو لها. ليسود الأعلام الزائف الذي غدا للأسف من يسّير دفة الحياة اليوم. فتم أستغلال هذه الوسائل بشكل أكثر خطراً وأشد فتكاً من قبل تلك الجهات التي غيرت أسلوبها الخبيث، فلبست هذه المرة  ثوباً جديداً فوق ثوبها القديم المهتريء المكشوف، ألا وهو رداء الدين والطائفية المريضة، التي أصبحت السلاح الفعال والأمضى لمسخ العقل البشري والتفكير العلمي الرصين، فأصبحت تروج لغيبيات وأوهام فارغة جعلت الفكر الأنساني يرتد عشرات القرون الى الوراء، وتهشم كل ما أنجزه الأنسان ومجتمعاته البشرية على مدى تلك المسيرة الطويلة من الكفاح والنضال مع الطبيعة والظروف البيئية القاسية المحيطة به، لديمومة جنسه واستمرارية حياته، ليعلن بعدها انتصاره الباهر على تلك القوى بفضل قدراته العقلية الجبارة... فبُدأ بالأيهام بأن الحضارة الأنسانية مُنزلة على طبق من كرم من السماء، ليس للأنسان أي دور  فيها، فهي أكبر منه وفوق طاقته الجسمانية ومدى تفكيره العقلي، جاعلين منه مخلوقاً مِسخاً متطفلاً وطارئاً على مسيرة الحياة، ليس في جعبته نحوها سوى الموت والخراب، ليحق فيما بعد لمن وهب تلك (المِنة السماوية) أن يسترجعها، بعد يأسه من أصلاح ذلك الكائن المحب للدم والدمار، فيبرر بذلك هلاك المجتمعات البشرية بسبب ما اقترفت من (معاصي) عن طريق الكوارث الطبيعية أو الحروب، التي يكون أول من يخطط لها ويشعل فتيلها نفس المؤسسات والمافيات المروجة لتلك الأكاذيب، لجعل الأنسان يرضى بواقعه المرير الذي يعيشه، بأعتباره قدر لايمكن تغييره لأبقائه خانعاً راكعاً حبيس قيوده الاجتماعية، مُكبلين فكره وعقله بعدم جواز الثورة على ذلك الواقع الممتليء بالظلم والحيف الذي يلقاه من الذين يبغون سلبه العقل والجسد والروح والمستقبل. لينسفوا بذلك فكرة عظمة الأنسان كونه المسّير الفاعل لعجلة الحياة وديناميكيتها، وقدرته على صياغة مستقبله وصناعة تاريخه  الذي هو بطله الأول دون منازع، مانحين هذا الدور المحوري الى القوى الطبيعية والخيالية ليكون لها الفضل الأول في نشوء وازدهار الحضارة وديمومة الحياة. ليبتدئوا مع ترويج هذه الأفكار مرحلة جديدة وأكثر تطوراً من قمع العقل البشري ومسخ انسانيته، عن طريق ذلك الغسل الممنهج للأدمغة، بعد أن تم لهم بنجاح وسابق تآمر تحجيم الأفكار العلمية الحديثة الداعية للتحرر العقلي الرافضة لكل أنواع التخلف، وحجبها عن الناس عن طريق تشويه صورتها أمامهم.... ليتم كل ذلك بقصد التمهيد لإعادة التفكير بأسلوب قديم ولى وأنقرض منذ زمن بعيد، ألا وهو بث الحياة مرة أخرى للمصادر الكلاسيكية الساردة لذلك التاريخ المشوه، أي بمعنى آخر ضخ الدم في شرايين المؤسسات الصفراء المختبئة خلف تلك الواجهات الدينية المُجملة المزوقة، وباختلاف توجهاتها، بعد فشل محاولاتهم السابقة بترويج ما ورد في تلك المصادر وباقي الكتب والمراجع الدينة الأخرى، في مسعى منهم لأثبات حقيقتها، فانقلب حينها سحرهم على ساحرهم. حيث فندّت البحوث والدراسات التاريخية الحديثة، المستندة الى نتائج التنقيبات الأثرية في منطقة الشرق القديم معظم ما ورد فيها ولم تبقي منها سوى القشور. فقد أثبتت تلك البحوث المُعمقة بما لايدع مجالاً للشك، محدودية وضحالة المعلومات التي احتوتها، كذلك فشلها الذريع في أعطاء تفسيرات منطقية لطبيعة حركة المجتمعات وتفاعلاتها الانسانية مع بيئاتها، وتطور تفكيرها المفترض ازاء ذلك، لبناء ثقافاتها الخلاقة الخاصة بها.
ربما بعد ما تقدم من عرض فأن النظرة المستقبلية لكتابة التاريخ ستشوبها السوداوية، وهي ستكون كذلك بالفعل فيما لو أستمر هذا الأنحدار والخراب في مسيرة التدوين التاريخي. وهذا أكثر ما يخشاه اليوم جميع المثقفين، وفي مقدمتهم أولئك الساعين لكتابة التاريخ بشكله الحقيقي البعيد عن الزيف، لأنه سيحوله حتماً في يوم ما الى ما يشبه كتابة التعاويذ والتمائم والأدعية، التي يكتبها أو يصفها الدجالون والمشعوذون للسّذج والمتخلفين وقصّار البصيرة، لمسخ تفكيرهم، وتقييد أرادتهم وأيهامهم بقدرية مستقبلهم، لتكبيل دورهم الأنساني في بناء الحياة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

981 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

تابعونا على الفيس بوك