الدكتور/ محمد عياش الكبيسي
يشهد العراق هذه الأيام حراكا فوق الأرض وآخر تحت الأرض بطريقة غير معهودة وغير مسبوقة. فوق الأرض هناك تحولات كبيرة وسريعة منها:
أولا: خسارة تنظيم الدولة (داعش) لمركز محافظة الأنبار، وهي المحافظة الأهم بثقلها العشائري، وقربها من العاصمة بغداد، ومساحتها الممتدة باتجاه الحدود السعودية والأردنية والسورية، واللافت هنا أنه لم تحصل معركة حقيقية بالصورة التي كانت متوقعة، ولم يسقط من الفريقين إلا العدد القليل الذي لا يناسب هدفا استراتيجيا بهذا الحجم، وكأنّ التنظيم كان مُقراً بالهزيمة قبل بدء المعركة لكنه أراد أن يحتفظ بشيء مما تبقى من سمعته القتالية لا أكثر، وهذا الموقف يُذكّر بسرعة تخلّي التنظيم عن المناطق التي سيطر عليها سابقا في محافظة ديالى ثمّ تركها للميليشيات، وتجنّبه للدخول في مناطق أخرى على أهميتها وحساسيتها البالغة مثل مدينة سامراء، ما يؤكّد وجود خارطة مرسومة لتحركاته.
ثانيا: غياب دور الميليشيات كالعصائب وحزب الله من معارك الأنبار وكثير من نقاط التماس مع (داعش)، واختيارها لمناطق أخرى كما حصل في المقدادية، وهي المدينة الهادئة والمسالمة والخالية من أي أعمال مسلحة، في محاولة لفرض واقع جديد، ولإثبات أن هذه الميليشيات ما زالت موجودة وقادرة على أن تفعل شيئا ما، لكن الواقع أن مساحة التحرك لهذه الميليشيات قد حُددت تماما كما هو الشأن بالنسبة لداعش.
ثالثا: بروز دور قوي وفاعل لعشائر الأنبار، وفتح الباب لانخراطهم في المؤسسات العسكرية والأمنية أسهم بشكل واضح بطرد داعش أو انسحابها من مركز المحافظة، وهي التجربة التي قد تتكرر قريبا في الموصل.
رابعا: تراجع دور المرجعيات واللافتات الدينية في الساحتين الشيعية والسنّية، فممثل السيستاني يحتجب عن إلقاء خطبة الجمعة! والمظاهرات الشعبية في المحافظات الجنوبية تكاد تخلو تماما من أي شعار ديني، بل هناك احتجاج واضح على إقحام الدين بالسياسة وتقلد رجال الدين للمناصب الحكومية، أما في الساحة السنّية فمن الملاحظ أيضا غياب (العمائم البيضاء) عن ساحات الصراع والصدام، والاكتفاء ببعض التعليقات والبيانات والتي يأتي أغلبها من الخارج، على خلاف ما كانت عليه الأوضاع أيام المقاومة وأيام الحراك، وهذا الغياب أو التغييب يبدو أنه هدف مشترك بين (داعش) و (ماعش)!
أما العشائر التي تمسك الآن بالأرض في الرمادي وحديثة وعامريّة الفلوجة وغيرها والتي تستعد للتوسّع فيبدو أنها لم تعد منشغلة كثيرا بالفتاوى والمجادلات الدينية (مع أو ضد)، بمعنى أنهم من الناحية العملية قد تجاوزوا هذا الخطاب عن أية جهة صدر، وبأية صيغة جاء.
خامسا: دخول قوى إقليمية (عربية وإسلامية) كبيرة بعد أن بقيت إيران متفردة بالساحة لعقد أو يزيد، فعاصفة الحزم والأمل التي تقودها السعودية في اليمن قد وصل غبارها إلى العراق وإن بلافتة أخرى وعنوان آخر، ودخول الجيش التركي في الموصل لن يكتفي أبداً بهذا النشاط المحدود، فمن المتوقع أن يكون لهذه القوة دورها في بناء (الحشد الموصلّي) الذي يجري الإعداد له على قدم وساق، وإذا كان كثير من العراقيين يتطلعون إلى الدور التركي لإحداث قدر من التوازن المطلوب، فإن تطلعهم إلى الدور السعودي أعمق بكثير لما تعنيه لهم السعودية دينياً وقومياً وعشائرياً.
هذه التغيّرات السريعة جاءت متواكبة مع موجة كبيرة من التسريبات والإشاعات التي تؤكّد بمجملها وجود شيء ما يطبخ تحت الأرض.
في واحدة من التسريبات التي يمكن الوثوق بمصدرها، والتي أكدتها الأحداث الأخيرة، أن هنالك سلسلة من اللقاءات بعناوين مختلفة قد عقدت بالفعل بين قادة عراقيين وآخرين أميركيين وأوروبيين، وأنها قد تناولت بالاهتمام والنقاش أوجه المعضلة في الحالة العراقية -كما يراها الطرف العراقي المشارك- ومنها:
أولا: حالة الفوضى العامة والتي أصبحت محضناً خصباً لكل أنواع التطرف والتوحش والإرهاب سواء جاء بثوب السُنّة أو بثوب الشيعة، وأن الحلول العسكرية والأمنية لا تكفي، فهي تعالج عرض المرض ولا تعالج المرض نفسه، وحالة الإحباط اليائس والبائس التي يعيشها الإنسان العراقي في ظل هذه الفوضى تؤهله للانخراط في أي عمل فوضوي وعبثي حتى لو أدى به ذلك إلى الانتحار.
ثانيا: النظام السياسي القائم والذي بات قادرا على إنتاج نفسه في كل دورة انتخابية قد أصبح ركنا ركينا في المعضلة، ولم يعد موثوقا به لتقديم أي حل ممكن، وبالتالي فلا بد من العمل على تهيئة مرحلة انتقالية يقودها تكنوقراط ينتمون للمهنة أكثر من انتمائهم لأحزابهم وطوائفهم تمهيدا لتأسيس نظام جديد بمنطلقات جديدة ووجوه جديدة.
ثالثا: تكوين الجيش والمؤسسات الأمنية على أساس طائفي صارخ قد أضعف الدور الوطني لهذا الجيش ولهذه المؤسسات، ما جعلها تنهار في أول اختبار، ثم كان الخطأ الثاني بتشكيل (حشد شيعي) بفتوى من مرجع شيعي، والذي أثبت هو الآخر فشل هذه التجربة وإضافة مشكلة جديدة إلى قائمة المشاكل المتراكمة.
رابعا: تحويل العراق إلى دولة دينية (ثيوقراطية) تقودها مرجعية دينية قد دمّر التطلّع الطبيعي للناس بقيام دولة ديمقراطية، وشكك في نوايا الأميركيين وحلفائهم في ذلك، وقد أسهم هذا بالفعل في صعود الخطاب الطائفي، والتسابق في تكوين (المرجعيات) حتى في المجتمعات التي لم تكن تعرف مثل هذا السلوك من قبل.
خامسا: الدور الإيراني الذي تضخّم في ظل الهيمنة الأميركية، وبات لا يتستر على تدخلاته في كل الملفات السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية، في مقابل تغييب كامل للدور العربي حتى تلك الدول المصنّفة على أنها صديقة للغرب! علما أن الأصابع الإيرانية التي تعبث في العراق معروفة بأسمائها وأحجامها وهي ليست بعيدة عن عيون الأمريكان.
قد لا تكون هذه المعلومات جديدة بالنسبة للمراقبين والمتابعين لكن الجديد هو مستوى الاهتمام الذي أبداه الطرف الغربي، وسرعة التحرك بكل الاتجاهات، ما يؤكّد وجود سياسة غربية جديدة تجاه العراق يصعب التكهّن الآن بنتائجها.
لقد بدأ العبادي الآن يتكلم مثلا عن تغيير وزاري لصالح (وزراء تكنوقراط) في ذات الوقت الذي تعلن فيه المرجعية عن توقفها عن خطبة الجمعة التي كانت تحمل كل أسبوع توجيهات سياسية مباشرة، على صعيد آخر هناك نجاح دبلوماسي كبير للسعودية ورغبة في التدخل العسكري لمواجهة (داعش) إضافة إلى مؤشّرات ميدانية كثيرة ومتتابعة. إنها إذن مرحلة جديدة، ستتغيّر فيها أسماء وأشياء وسياسات وعلاقات، وما يجري في العراق ربما لا يبعد عن الحراك المتسارع الآن في سوريا داخليا وخارجيا
994 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع